الحرب والسياسة والقتال على الزمن

عبدالجواد عمر – وما يسطرون|

لم تكن العلاقة بين الحرب والسياسة دائماً واضحة، بل غالباً ما يعتريها الكثير من الغموض والإبهام. تصبح هذه العلاقة أشدّ تعقيداً عند تداخل مصالح الأطراف السياسية المختلفة وحساباتها، ما يجعل المشهد السياسي، الذي يرتبط بالحرب، مليئاً بالتداخلات والتعقيدات، كما هي الحال في معركة «طوفان الأقصى». لذلك، رأى أبرز المنظّرين للحرب ضرورة تحديد علاقة صريحة بين «الحل العسكري» والأهداف السياسية. فقد قدّم لنا الجنرال كارل فون كلاوزفيتس نظرة حول الحرب باعتبارها استمراراً للسياسة بوسائل أخرى. وربما كان كلاوزفيتس محقّاً، ولكن في الواقع الاستعماري، يعيش المستعمَر في حالة تشبه الحرب الدائمة، حيث تكون السياسة امتداداً للحرب، وليس العكس.

وهنا تظهر إحدى إشكاليات الخاضعين لاستعمار طويل كفلسطين، حيث تكون انتصاراته في البداية مبنيّة على قدرة المقاومة نفسها على الاستمرار، أي على بناء سبل المقاومة وتعظيم قدراتها ومنحها إمكانات جادة تهدف بالأساس إلى فتح أفق الإمكانات السياسية. بمعنى أن الصراع في بدايته يهدف إلى خلق مساحة أوسع من الإمكانات السياسية. فبدون قابلية المقاومة، لا يوجد أفق سياسي أوسع.

 

وهنا بالتحديد يمكن فهم موقف السلطة الفلسطينية، ومعها العديد من الدول العربية التي تسعى لحصر الإمكانات السياسية وفضائها، ما يؤدي إلى ترسيخ الهزيمة كحل دائم، والتأكيد الذاتي على أن التجربة التاريخية للحركة الوطنية لم تكن ناجحة، وبالتالي تجارب الآخرين في حركات المقاومة ستنتهي بها كما انتهت هي. ترى هذه السلطة أن انتصار دولة الاحتلال على المقاومة في غزة قد اقترب، وأن ما حدث في «طوفان الأقصى» يشبه تجربة منظمة التحرير في لبنان عام 1982، حيث اضطرت الحركة الوطنية إلى الخروج في نهاية المعركة من بيروت إلى تونس. بل تشارك معظم الدول العربية هذه القراءة، فهي ترى أنّ ما حدث في السابع من أكتوبر أدّى إلى تكوين إرادة إسرائيلية لكسر المقاومة في غزة وتغيير الواقع السياسي فيها.
وهذا أيضاً ما يحرّك المخيّلة الإسرائيلية، بمعنى الجمع بين الدخول البري، والحصار، وخنق المقاومة بهدف الوصول في نهاية المطاف إلى عملية سياسية، تفضي إمّا إلى نهاية المقاومة أو خروجها من قطاع غزة المحاصر إلى بلد بعيد عن الحدود معها، تتضمّن ترتيبات أمنية وسياسية لاحقة تعيد بناء غزة، يوفّره غطاء سياسي عربي يتضمّن السلطة الفلسطينية.
من المهم الإشارة إلى أن واحدة من النتائج الفورية للمناورة الهجومية التي نفذتها قوى المقاومة في قطاع غزة كانت زيادة التدخّل الأميركي في تحديد أهداف الحرب في القطاع وطبيعتها. وكان هذا التدخّل قد ساهم في كبح بعض السياسات الإسرائيلية التي اتجهت نحو التهجير والتي كانت تستهدف غزة بأكملها، وخاصة بعدما وجدت موقفاً مصرياً، وإلى حدّ ما أردنياً، رافضاً لهذه التحركات.

إحدى الركائز الأساسية للتجربة الأميركية في عقيدة مكافحة «التمرد» هي التأكيد على ضرورة فصل المقاومة عن السكان، وحتى ضرورة كسب ودّ هؤلاء السكان وتأييدهم بعد جرعة كبيرة من الرعب والترهيب. وهذا يعني أن الأميركيين يطرحون على حلفائهم تساؤلات مثل: «حسناً، قد ترغبون في التدمير والقتل بقطاع غزة، ولكن ماذا ترغبون في الحفاظ عليه بعد المعركة؟» لأن ما تحافظون عليه سيكون أهمّ في بناء مخرج سياسي مؤاتٍ لمصالح دولة الاحتلال ومتناغم مع مصالح دول المنطقة؛ بمعنى مخرج يمثّل مصالح المحور العريض في المنطقة الذي يريد الاستمرار في العيش بالزمن الأميركي والإسرائيلي.
وبينما رحل خطاب دولة الاحتلال للتهجير والإبادة، فإن حدود المعركة بدأت معالمها تتّضح، وإن كان هناك الكثير من الضباب الذي يرافق استمرار الحرب. بطبيعة الحال، هناك قوى داخلية في المجتمع الصهيوني التي ترى في ما حصل فرصة للتهجير ولا تزال تضغط بهذا الاتجاه، ولأن المعارك أمر لا يمكن حسمه، فالقابلية تبقى رغم انغلاقها مؤقتاً. هنا من المهم التذكير مثلاً بالعملية العسكرية التي أقدم عليها أرييل شارون في لبنان حين كانت حدودها في البداية احتلال الجنوب وصولاً إلى نهر الليطاني، وانتقلت، لأسباب ترتبط بضعف المقاومة حينها، لتصبح إخراج منظمة التحرير من لبنان بعد حصار شامل لبيروت. بمعنى أن الأهداف تتغيّر حسب المعطى العسكري.
ورغم أن «طوفان الأقصى» معركة عسكرية لم تحسم بعد، إلا أننا اليوم في قتال جاد على الزمن. مع دخول المعركة مرحلتها الثالثة (الأولى المفاجأة الاستراتيجية التي سطّرتها المقاومة، والثانية مرحلة الحصار الخانق والاستنزاف من الجو) الآن، بدأ الدخول التدريجي والبطيء للقطاع برياً، مع احتمال توغلات أعمق تقوم بها القوات الخاصة إمّا للاغتيال أو لاستخراج رهائن. لا يمكن استبعاد أن التحركات البرية الأولى كانت تهدف إلى تحريك قوى المقاومة فوق الأرض أو تحتها، بما فيه نقل الأسرى لدى المقاومة أو غيرها في محاولة لإيجاد معلومات حول مواقع بعض الأسرى لدى المقاومة، أو ضرب قواعد تحت أرضية لها، أو تحقيق بعض الاغتيالات في البنية العسكرية للمقاومة، بعيداً عن دور تلك العمليات في تعزيز استعدادية الجندي الإسرائيلي في لحظة الدخول على قطاع غزة.

الطبقة الحاكمة في دولة الاحتلال، وخاصة الأمنية والعسكرية، تحاول إقناع مجتمعها أولاً، وحلفائها ثانياً، بمنحها فسحة زمنية طويلة. فهي تراهن في هذه المرحلة على أن شحّ الموارد الأساسية، مثل الوقود في قطاع غزة، والذي يؤدي في القراءة الإسرائيلية دوراً مهماً في شبكة الأنفاق التحت أرضية، سيكون عاملاً مهماً في خنق المقاومة وإخراجها من حيّز الفعالية تحت الأرض. فضلاً عن أنها خلقت أزمة إنسانية شملت ضرب البنية التحتية والفضاء المدني الفلسطيني بما فيه تعديل ميزان القتل بينها وبين الفلسطينيين من خلال الحملة الجوية القاسية في قطاع غزة والقتل الممنهج في الضفة الغربية.

هناك سباق حقيقي على الزمن، ودولة الاحتلال معلّقة بين حاجتها الاستراتيجية لإظهار انتصار عسكري جادّ، وضغوط مجتمعية ودولية تتفاقم تحيلها لتقصير أمد عملياتها العسكرية وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي

ولكن، هناك عدة عوامل تؤدي دوراً في تقصير أمد الحملة العسكرية، تتضمّن أن أي دخول بري ينهي مرحلة الاستنزاف الأحادي، ويبدأ أيضاً في زيادة خوف المجتمع الصهيوني من سقوط أبنائه قتلى أو جرحى أو أسرى. في النهاية، الحرب هي قتال مجتمعات، بمعنى أن الحملة الجوية القاسية التي أشبعت جزءاً من الرغبة الانتقامية تؤدي دوراً اليوم أيضاً في ضعف رؤية الشخص العادي في دولة الاحتلال لضرورة موت أبنائه في قطاع غزة. وهذا يأتي من توجّهين: الأوّل، يرى أن دولة الاحتلال يمكنها استخدام أسلحة فتاكة أكثر من دون المخاطرة بجنودها. والثاني، يرى أن الوقت أتى لإعادة أسرى المقاومة إلى البيت وإيجاد حلّ يعيد الحياة لدورتها الطبيعية. فضلاً عن أن دولة الاحتلال تعيش حالة من انعدام الثقة في ثالوثها الأساسي، أي: المجتمع والطبقة الأمنية والطبقة السياسية.

والمطاعم والتعويضات الحكومية للمهجرين، وتكلفة الحرب نفسها. وكنتيجة أيضاً لضرورة تفعيل قوات الاحتياط بأكثر من 360 ألف جندي وحرمان الاقتصاد الإسرائيلي من قوى عاملة تقوم بأدوار مهمة في أهم القطاعات الاقتصادية الحيوية، وخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات. وهو مجال يعتمد بشكل خاص على السرعة في مواكبة التطورات التقنية، ومرتبط أيضاً بأهم قطاع تصديري لدولة الاحتلال. وقد أدّت الحرب حتى الآن إلى إغلاق المؤسسات التعليمية، ونزوح مستوطنات كاملة من الشمال والجنوب إلى مناطق أقرب للمركز.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن تفعيل قوات الاحتياط يتعلّق أيضاً بإمكانية دخول المقاومة في الجبهة الشمالية للحرب. بمعنى أن ضرورة الاحتياط وتفعيله تأتي لأن توسّع رقعة المعركة لا يزال حاضراً. لذلك، قد تستقر المرحلة الحالية من الحرب على نمط من أنماط الحصار الخانق والطويل الأمد، أو قد يتعيّن عليها إنهاء المعركة البرية في مرحلتها الأولى خلال الأسابيع القليلة القادمة – أي كسر قدرات المقاومة على القيادة والتحكم والتخلص من الحاجة إلى قوات الاحتياط لإتمام ما تبقى من العمليات دون الخوف من الجبهة الشمالية. من الناحية العسكرية، هناك سباق حقيقي على الزمن، ودولة الاحتلال معلّقة بين حاجتها الاستراتيجية لإظهار انتصار عسكري جاد، وضغوط مجتمعية ودولية تتفاقم تحيلها لتقصير أمد عملياتها العسكرية وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي. ليس غريباً مثلاً أن النقاش الدائر في واشنطن يدور بالأساس حول الضرر على المصالح الأميركية من تحركات دولة الاحتلال، وعلى منح دولة الاحتلال زمناً للقيام بحملتها العسكرية. فضلاً عن تعاظم الغضب العربي والإسلامي الشعبي، والتحوّلات الملموسة في الرأي العام الدولي.

وعلى الرغم من التحليلات العديدة التي تشير إلى الإنجازات المهمة التي حققتها المقاومة في قطاع غزة، مثل تعطيل اتفاقات التطبيع وإعادة مركزية قضية فلسطين إلى المنطقة العربية والإسلامية وحتى الساحة الدولية، وعلى كونها حققت تفوّقاً تكتيكياً مذهلاً في التخطيط والسرية والتحايل ومن ثم الانقضاض، وكان لهذا التفوق القدرة على كسر عنصر أساسي في عقيدة الجيش الإسرائيلي، وأدخله في تجربة فكّكت مفهوم الجدار الحديدي الإسرائيلي الذي يحاول الاحتلال ترميمه حالياً. ورغم أن معالم المعركة بدأت تتوضح، فإنّ خطاب المقاومة أمام المجتمع الفلسطيني والعربي لا يزال خجولاً في تحديد الأهداف السياسية خارج إطار ملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ولا تزال القدرة على الربط بين نتائج المعركة عسكرياً والأهداف السياسية، سواء على مستوى قطاع غزة أو على مستوى القضية الفلسطينية ككل، مترددة أو حائرة. وتكمن أهميتها اليوم في أنها تأتي بعد كمّ هائل من الدمار والقتل الممنهج، ولذلك هناك حاجة إلى خطاب يلعب في المجال السياسي ويوازن بين ما تراه المقاومة ممكناً وبين قدرتها على الحفاظ على قدرة المقاومة عبر الزمن. فالانتصار في الحرب يجب أن يتجاوز انتصار واستمرارية المقاومة نفسها، وخاصة أن حلفاء دولة الاحتلال يجهّزون مخططاتهم لمرحلة ما بعد المعركة.
* باحث فلسطيني

 

قد يعجبك ايضا