الجبهة اللبنانية و«طوفان الأقصى»: قراءة في خطاب المقاومة

بلال اللقيس – وما يسطرون|

من نافلة القول أن خسارة حركة المقاومة في غزة هي خسارة لمحور المقاومة، وانتصارها هو انتصار الجميع مجتمعاتٍ ودولاً. وخسارة حركة المقاومة الإسلامية «حماس» على وجه التحديد هي خسارة وانتكاسة للمشروع الجهادي ولنموذج ضروري من نماذجه في الإقليم المتوقّع له دور في رفع الفتن والتشرذم وتوحيد الصف الإسلامي وتوجيه وعيه وقناته بمواجهة الهيمنة الأميركية الصهيونية، وبالتالي الدفع لتجربة إقليمية حضارية على قاعدة المقاومة والتحرر الحقيقي. فالمقاومة هوية ومقوّم حياة، وليست حرفة أو وسيلة أو عملاً أداتيّاً، واستعادة الحق العربي الفلسطيني والمقدّسات هو مصداقها الأصفى والأنقى وهو بمثابة أصل سياسي وشرعي وأخلاقي حاكم ومعيار تميّز للمحور ولتقييم سلوكه.

إن هذه المقدمة التأسيسية و«البديهية» اقتضت من مختلف فواعل المقاومة السعي الحقيقي – وبلا مزايدات – لحفظ وصيانة إنجاز عملية «طوفان الأقصى» الباهرة ونتائجها الاستثنائية كخطوة كبرى نحو التحرير الشامل (مع ترك احتمال أن يكون «طوفان الأقصى» هو الشرارة المباشرة للحرب الكبرى).
لقد تريّث الأمين العام لحزب الله للتوجه إلى الرأي العام في الخطابين الأخيرين، فموقع حزب الله وثقله وقراره تخلّف انعكاسات وتداعيات إقليمية دولية. هو ليس حركة عفوية عاطفية انفعالية، هو مقاومة مسؤولة هادفة تتطلّع إلى انتصار وإنجاز تاريخي للأمّة كلها. مقاومة امتلكت تجربة خوض الصراع بأبعاده المتعددة والحروب، وخبرت عدوها الأميركي الإسرائيلي جيداً، وهي تحكم تصرفاتها ومواقفها بالنظر إلى الهدف وتحقيقه والكلفة ولا تتشوش بين الأسلوب والهدف أو في تعيين الهدف. فالتحدّي في إدارة الصراع هو في تحديد الأهداف بدقة والربط المتقن بين الوسائل المطلوبة لتحقيقها بأفضل طريقة ممكنة وبكلفة معقولة. والأهم فهم مدير جبهة العدو. لذلك، يمكن القول إنّ الحزب الذي انخرط في المعركة بمستوى أول منذ اليوم الثاني وجد من المصلحة والضرورة أن يتحدّث بعدما أدّى الغموض غرضه. فالمعركة البرية انطلقت وانكشفت حدود القوة الإسرائيلية في غير قتل الناس والأبرياء، وبانَ عجزُ العقل السياسي والعسكري الإسرائيلي والأميركي والغربي واضمحلال الإبداع في مدرسته القتالية رغم التفوق الهائل في النيران والإمكانات، وتألّق إبداع المقاومين والصمود الأسطوري لأهل غزة وانتقال الرأي العام العربي والعالمي من الانفعال المشوّه لأجهزة الدعاية الغربية إلى التعقلن والتمييز التدريجي.

نعم، يفترض ما «أمكن» إبقاء التركيز على الساحة الغزاوية بعينها وفلسطين وعدم حرف المعركة والسماح بحرف شرعيتها إلى مكان آخر، فلا يوجد أي معركة في العالم يمكن أن تنال شرعية سياسية وأخلاقية وشعبية لمصلحة المقاومة وتجتاح كل العواصم بعكس ما تريد الصهيونية كهذه المعركة والدماء الزكية فيها وقوة الإرادة. وربّما كان مفيداً ترويض «الثور» الأميركي – الصهيوني المكلوم والمنفعل في الفترة الأولى.
في الخطابَين يمكن أن نلمس ما هو استثنائي وجديد وجسور وغير مسبوق ويعدّ نقلة نوعية بالنسبة إلى حركة مقاومة. لقد توجّه الخطاب إلى الأميركي مباشرة وحمّل أميركا المسؤولية السياسية والعسكرية والإنسانية والأخلاقية، واعتبر أنّ الرّد المطلوب من قوى المقاومة المساندة لغزّة يجب أن يتوجّه إلى أميركا ومصالحها الاستراتيجية مع الشعوب، ففي ذلك مصلحتان، غزاوية ووطنية. وأنه يجب التأسيس لخطاب غاضب عند الأجيال الحالية والقادمة؛ حنق ثوري لمواجهة مستقبل أميركا وهيمنتها ونفوذها. فالأمّة تضيق ذرعاً بمستوى الصلف والسفور الذي بلغته الولايات المتحدة في صراعها معنا ودعمها لعدوّنا وإساءتها واستهانتها بمقدساتنا. فليتضح للأجيال أن أميركا هي من يحبط أي فرصة لاستعادة القدرة والتمكّن لأمّتنا، وهذه أفضل فرصة لتعبئة الملايين بالإفادة من الحمق الأميركي الذي لن يقوى على تأمين الأنظمة الحليفة له مستقبلاً، وسيكون مستقبل المنطقة كمستقبل تكنيس الدول الأفريقية لفرنسا.

إنّ هذا التهديد الجسور الذي أعلنته المقاومة في لبنان يُفترض أن يحقق عملياً نتيجتين: الأولى، تقييد القرار الأميركي لنهي أداتها «إسرائيل» عن عدوانها والتوقّف عن إدارة التوحش كون هذا المسار سيوصل إلى حرب المئة عام التي لن تخرج أميركا منها بمكسب. أمّا النتيجة الثانية فهي أن هذا المنطق قد يفتح لتباين أميركي إسرائيلي قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية وحساباتها ويتيح هامشاً للأميركي للتراجع من خلال المقاربة التصاعدية التدريجية. إن هذا منهج إبداعي في التعاطي الإقليمي مع المرحلة لجهة إبداء القوة وتحديد الهدف الذي لا يمكن التنازل عنه، وفي الوقت نفسه ترك هامش للأميركي لأن ينزل إسرائيل إلى أرض الواقع والقبول بخسارة أصبحت واقعاً قائماً على إسرائيل لا يمكن ترميمه. فالعقل والمنطق يفيدان بأن إسرائيل هي إحدى مصالح أميركا وليست كل مصالحها وأن أميركا قوية أفضل لإسرائيل من أميركا ضعيفة في الإقليم كما يتبنى زبغنيو بريجينسكي، فما قامت إسرائيل واستمرت إلا بسبب سطوة أميركا وهيمنتها ونجاح مشروعها العالمي والإقليمي.
إذاً، هناك كوريدور للعدو للتراجع بانتكاسة كبرى وليس بالضرورة بزوال نهائي الآن. فحزب الله ومحور المقاومة من صالحه الوقت، إذ المطلوب دوماً هو تحقيق النصر، والحرب أداة نلجأ إليها حين لا نجد طريقاً آخر، والخط الأحمر المعلن اليوم هو تثبيت انتصار المقاومة و«حماس» بالذات.
في الاستنتاجات:
– إنّ تعظيم الإنجاز بتمييزه وتعيين فرادته وليس بهدف الابتعاد السلبي عنه، بل لإعطائه المدى الذي استحقه: إنه تعبير عن خيار مجتمع وإرادة تحرّر، أي أنه ذاتي وهو أصدق معاني انتصار الشرعية على القوة والدم على السيف. وهنا مكمن عظمته أنه ليس فعلاً وظيفياً أو سطحياً، بل تاريخي. وهذه ميزة قوى المقاومة وحلقاتها المتعددة في المحور.

– ولو أنّ دولة عربية، أو إسلامية كتركيا مثلاً، اتخذت موقفاً صلباً ومتقدّماً وبمستوى المرحلة لكان ذلك كافياً، إلى جانب الجمهورية الإسلامية في إيران، أن تغيّرا قواعد اللعبة كلها، لأن إيران في نهاية المطاف تحتاج إلى جناح إسلامي أو عربي يكون شريكاً لها في خطواتها، سياسية كانت أو عسكرية أو غير ذلك.
– لم ينفكّ خطاب المقاومة في لبنان يربط بين هذا الحدث الزلزالي ومستقبل الأمّة، فهي فرصة الأمّة لإعادة بناء ترميم الوعي للقضية الفلسطينية كقضية مركزية جامعة ومحركة لمفاصل الأمّة المتكلسة ولقواها الكامنة وطاقتها المجتمعية التي أصيبت بانتكاسات خلال العقود الماضية، ولا سيما مع الموجة الأولى من الربيع العربي أو الصحوة الإسلامية. فمن الضروري أن تكون عملية «طوفان الأقصى» معبراً لإعادة إحياء وتقويم الوجهة التي يجب أن تسلكها الصحوة الإسلامية الأصيلة والرشيدة في موجتها الثانية بدل ضياعها في أتون الصراعات الداخلية. فهذه العملية الكبيرة كانت إيذاناً بتولّد جديد صفّى الدوافع والمقاربات التي عانت منها الحالة الأولى، فأتت الثانية في المكان الصحيح والوجهة الصحيحة وضد العدو الفعلي للأمّة والإنسان (أميركا وإسرائيل) ففرزت أيّما فرز، وتركت وستترك تداعيات كبرى غير مسبوقة إقليمياً ودولياً إذا ما حفظت أهدافها وتمّت رعاية خطواتها بلا تعجل ولا انفعال والتنبه إلى أن غالبية الأنظمة العربية تريد ضياعها وإنهاءها.

– يبدو أنها معركة طويلة معقدة ومركبة جداً وغير مسبوقة في ظروفها ولا في البيئة المحيطة بها والسياق الدولي المضطرب الذي ولدت فيه، فكل شيء من حولها في صيرورة وانتقال وتحوّل؛ النظام الدولي والإقليمي، كما الكيان الصهيوني الشارد، والمارد الفلسطيني الناهض. لذلك، ربما نكون أمام معركة بفصول، معركة بنموذج خاص. هي من نوع يغلب فيه صراع «الشرعية السياسية والإنسانية» على أي شيء آخر. فالأسئلة السياسية والأخلاقية أخطر من الأسئلة العسكرية رغم ترابطهما، فإذا فشلت أميركا وإسرائيل في تنسيق الإجابة لهذه الأسئلة مع حلفائها (أدواتها) في الإقليم سيبدأ مسار الارتطام الكبير.
– وأيضاً نشير إلى أنّ هذه المعركة فتحت باب التدحرج في الصراع والتأزم بلا محددات ولا قواعد كتلك التي حكمت المرحلة الماضية أو ما عرف بقواعد اشتباك. لقد خرجت كل الأطراف عملياً من فكرة قواعد الاشتباك لوضعية غير معرّفة علمياً، فقواعد الاشتباك ترتكز على قاعدة أكبر وهي الردع، والأخير لم يعد متوافراً بعدما فقد الكيان الصهيوني مع غزة، في غربه وجنوبه ومع شماله في لبنان، مزية الهجوم، وأصبح أسير جدرانه والاحتماء بها والدفاع، لا بل يسير إلى التهجير الداخلي والتوجّس من العودة إلى المستوطنات. لذلك، لا يمكن رسم قواعد اشتباك في ظل ردع سيال أو لا ردع كما هو قائم اليوم. ناهيك عن ذلك فلا يوجد تصوّر وقدرة سياسية دولية وإقليمية وأسباب موضوعية تساعد لحل أصل المشكلة وأسبابها، ما يجعلنا نتوقّع أننا إزاء مسار هدنات إنسانية تطول وتقصر ووتيرة حرب تعلو وتنخفض. لكن لا يمكن إيجاد صيغة أو عمود واضح وقاعدة ارتكاز على أمر سياسيٍّ يحقق استقراراً مستداماً نسبياً.

– واذا استمر الفشل الميداني الإسرائيلي وفشل المقاربات الأميركية لهزيمة «حماس» والمقاومة عسكرياً وسياسياً، فستكون أميركا أمام خسارات آنية وبعيدة لنفوذها الإقليمي والدولي دونما مكاسب فعلية، وقد يشجع ذلك قوى دولية للانخراط بالتنسيق مع إيران، ودول إقليمية لمنافسة الأميركي على أهم قضية في الإقليم لحلها، ما سيجعل أميركا تخسر تفرّدها التاريخي في «رعاية» هذا الصراع العالمي الأبعاد والمعنى. ومن يخسر تفرّده في أخطر وأهم قضية دولية وتاريخية يعني فشل عقله السياسي بعد العسكري ويعني اعترافاً بفشل أحاديته وإقراره بتجاوز الأحادية إلى عالم متعدد. وفي ظل غياب الظروف والعوامل الدولية والإقليمية والذاتية بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني التي تؤدي إلى حل سياسي مستدام كطرح حل الدولتين – الذي سيعود نظرياً وإعلامياً فقط إلى الواجهة – فإنّ الأمور مع الوقت مفتوحة على كل احتمال حتى إمكانية الحرب الإقليمية، وهذه حقيقة لا يمكن لأيّ محلل إسقاطها.
– بإيجاز، إنّ هذه العمليّة صعّدت ظروف الصراع وبيئته إلى المدى الأقصى؛ إلى الاقتراب من حافة الهاوية أو الخطوة التي ما قبل الانفجار الكلي.
في الختام، إنّ هذه المعركة تحتاج إلى إدارة عسكرية واستراتيجية وثقافية وسياسية بالتوازي والتساوق. إنها معركة شرعية سياسية قبل أي شيء؛ شرعية إسرائيل باتت على المحك، هي لا تخسر حرباً من الناحية العسكرية والاستراتيجية فقط، فكيف لـ«دولة» أن تردّ السلم والسلام بالحرب والإبادة. هذه هي حال إسرائيل اليوم، هي نفس حال الأميركيين من قبل والنازيين والتكفيريين الذين ادّعوا بأنهم يريدون «العدالة» و«الحرية» و«الوحدة» بممارسة نقائضها، فهي اليوم والبارحة وغداً تريد «السلام» بالمجازر وبسفك الدماء بالعلوّ والعتوّ واجتثاث المجتمعات وتهويدها وإرغام الآخرين، وتراها تزداد ضعفاً وفشلاً.

انتهت سرديّة إسرائيل والغرض من إنشائها، فالمسلمون تغيّروا، هل للغرب أن يعترف بهذه الحقيقة؟ لقد استعادوا المبادرة ودخلت المنطقة، واقعاً، زمنَ «ما بعد إسرائيل».

 

قد يعجبك ايضا