تأثير سيكولوجية الجماهير وسرّ تلاعبها بالأفكار: قراءة سوسيولوجية لرؤية غوستاف لوبون

وما يسطرون – محمد بن عامر – المساء برس|

لا شك أن الجمهور في ألمانيا كان يشعر بالحماسة عند سماع خطابات هتلر، وأيضًا الجمهور الفرنسي عند استماعه لنابليون، ومن الواضح أن هتلر ونابليون وغيرهما من الشخصيات الكاريزمية كان لديهم مهارات خطابية استثنائية، تمتاز بقدرتهم على التأثير والإقناع، ولا تقتصر هذه القدرة على قوة الكلمات فحسب، بل تتجاوز ذلك لتشمل العوامل الأخرى الغامضة التي تؤثر على العقل الجمعي! هنا يأتي دور اللاوعي، القوة الخفية التي تسيطر على الحالة النفسية الجماعية، وتثير العواطف وتخلق الولاء لدى الجمهور، تلك القوة التي تجبرهم على الاندفاع والمشاركة في تحقيق الرؤى والأفكار التي يقدمها مثل هؤلاء الأشخاص، ويمكن أن نعتبرهم كالمايسترو الذي يوقد شرارة الشغف في قلوب الجماهير، مستغلين العواطف والاندفاع الجماعي لتحقيق أهدافهم.

يُنظر إلى هتلر على أنه “المايسترو الموسيقي” الذي استغل مهاراته الخطابية للعب على وتر العواطف الجماعية، وبخاصة الغضب والحقد الذي أشعله في أعماق قلوب الألمان، كما استخدم الأسلوب الثقافي والبروباغندا لكسب قلوب الجمهور وجعله يميل لفكره، وبفضل هذه الاستراتيجية الذكية، نجح هتلر في إشعال شرارة الحماس في قلوب الجمهور، ونجح في التلاعب بمشاعرهم وتوجيهها وفقًا لمصالحه.

فيما يتعلق بالضابط المدفعية الفرنسي نابليون فقد كان لديه قدرة فريدة من نوعها في التلاعب بالشعوب باستخدام أساليب غير تقليدية، على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية في فرنسا، قام بالتظاهر بأنه كاثوليكي لكسب تأييد الشعب والسيطرة على الوضع السياسي، وفي مصر قام بالتظاهر بأنه مسلم واستغل مشاعر المسلمين لتحقيق مصالحه السياسية، واثناء تواجده في إيطاليا، نجح في كسب تعاطف الكهنة الإيطاليين عندما قام بتبني أدوار دينية متعصبة، وذلك وفقًا للنصوص التاريخية التي دلت أيضًا على أن نابليون أكد بنفسه قدرته على كسب ثقة اليهود إذا ما وعدهم بإعادة بناء معبد سليمان لهم.

وبالنظر إلى هذه القصص، نلاحظ أن هتلر ونابليون استخدما فهمهما العميق لعلم النفس الاجتماعي أو الجماهيري لتعزيز نفوذهما وترسيخ سلطتهما حيث ساعد هتلر هذا الفهم في اكتساب شعبية واسعة بين الألمان وجمع الملايين من الأتباع لتحقيق “أهدافه النازية”، بالمثل، ساعد نابليون في الوصول إلى سدة الحكم في فرنسا وتوسيع نفوذه بغزو عدد كبير من الدول.

وهتلر ونابليون هما مجرد مثالين من عدة أمثلة تاريخية ومعاصرة لاستخدام هذا العلم للسيطرة على سلوك الناس وأفكارهم، وهذا ما نحن بصدد الحديث عنه بإيجاز في هذه المقالة التي تتناول أحد الكتب الهامة التي مثلت نقطة تحول في دراسة علم النفس الاجتماعي، وهو كتاب “سيكولوجية الجماهير” لغوستاف لوبون، الذي نُشر في عام 1895م.

وحدة الجماهير العقلية

يُرَى أن التقدم الكبير الذي شهده قطاع الصناعة والعلوم  قد أدى إلى تعزيز قوة الجماهير، وهذه القوة تتزايد يومًا بعد يوم، إذ لا تكتفي الجموع بكونها تجمعًا للأفراد، بل تشكل كيانًا يتبع قانونًا يعرف بـ “قانون الوحدة العقليّة للجماهير”، ويعكس هذا القانون حقيقة أن للجماهير سمات وتصوّر مختلف عن أفرادها، ويمكن تشبيه هذا الأمر بعلم الكيمياء أي أنه عندما تتواجد عناصر كيميائية في وعاء ما، يتفاعل بعضها مع بعض لتكوين مركب جديد، وبنفس الطريقة، عندما يتجمع أفراد مختلفون في جمهور معين، يتفاعلون مع بعضهم البعض ليشكلوا ما يُعرف بـ “روح الجماهير العقلية”، وهي الحالة التي يتأثر فيها سلوك الجمهور بشكل عام، كما انها تعتبر الجماهير ككيان واحد ينشئ أفكار واعتقادات جماعية و يتخذ قرارات قد تكون مختلفة عن قراراتهم الفردية. ومن الملفت للانتباه إلى أن هذه الجماهير قد تتواجد في مكانٍ واحد تجمعها فكرةٌ مشتركة، أو قد يكون أفرادها منفصلين، ويتواجدوا في أماكن مختلفة حول العالم، ولكنهم يتمتعون بنقاط مشتركة في سلوكهم.

وهنا نجد أن الكاتب غوستاف لوبون يستنبط أربع صفات محورية تحكم الشخصية التي تنخرط بين أحضان الجماهير؛ يبدأ الأمر بتلاشي هوية الفرد وغياب وعيه بشكل كلي حيث يفقد الفرد هويته الفردية وقدرته على التفكير المستقل واتخاذ القرارات الخاصة به، وثانيًا تحكّم الشخصية الواعية الجماهيرية في شخصية الفرد، متسلّطًة عليه بمعنى أن الفرد يصبح تابعًا للجماهير ومستعدًا للتصرف وفقًا لما يرضيها، وبينما أن الصفة الثالثة هي توجه الشخص نحو اتجاه معين، ويتمّ ذلك بسبب عدوى العواطف والأفكار مما يعني أنه يتأثر بمشاعر وأفكار الجماهير وينحاز إلى آرائهم وقراراتهم بدلاً من ملاحظاته واعتقاداته الشخصية، فالصفة الرابعة والأخيرة للشخص المنتمي إلى جمهورٍ ما، فتتجلى في ترجمة أفكاره إلى أفعال، وتحقيق أشياء لم يكن يتوقع أنه يستطيع تحقيقها في غياب الجمهور، يعني ذلك أن الجماهير قادرة على تحويل أفكاره وآرائه إلى أفعال فعلية.

وباختصار، يشير الكاتب إلى أن الانضمام إلى الجماهير يؤثر على وعي الفرد، ويتسبب في تلاشي الهوية وتحكم الجماهير في شخصيته واتجاهه؛ هكذا تتأثر الشخصية الفردية وتحولها إلى شخصية جماهيرية تتبع قناعات ومعتقدات الجماعة، وتجعلها قوية في تحقيق أهدافها وتحقيق مالم يكن يتوقعه من قبل.

إذًا، لماذا التباين بين الفرد والجماهير؟ وماهي أسباب تميز الجماهير عن الأفراد من الناحية السيكولوجية؟

في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، أجاب غوستاف لوبون على هذا التساؤل من خلال استكشافه لطبيعة الجماهير ومحل تأثيرها على الأفراد، وقدم منظورًا عميقًا للعوامل التي تؤثر على سلوك الجماهير وتميزها عن السلوك الفردي، من منطلق أن الجماهير تنغمس في العواطف والانفعالات وتجعل الأفراد يفقدون جزءًا من ذاتهم ويندمجون في هوية الجماعة.

يلخص المؤلف الفرنسي ثلاثة جوانب أساسية تتعلق بقضية اختلاف الفرد عن الجماعة، يشير الجانب الأول إلى شعور الفرد بالقوة عندما يصبح جزءًا من مجموعة، مما يؤدي إلى عدم الشعور بالمسؤولية الشخصية والانصياع لسلوكيات قد لا يُمارسها إذا كان بمفرده، ويُفسر هذا بأن الجماهير تتأثر بشكل أكبر بالعواطف والأفكار، بينما ينحو الأفراد نحو العقلانية والتفكير الشخصي المنطقي، أما الجانب الثاني فيتمثل في العدوى العقلية أو الذهنية؛ فالأفعال تنتقل وتؤثر على الفرد، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تضحية الفرد بمصلحته الشخصية لصالح الجماهير الذي ينتمي إليها، وهو ما يتعارض مع طبيعة الإنسان، فعلى سبيل المثال، عند حضور مباراة كرة القدم، يمكن أن يجد الفرد نفسه يشجع أو يشتم شخصًا ما أو يقوم بأفعال تتفاعل معها الجماهير المحيطة به، في حين أن الجانب الثالث يشير إلى فكرة الانخراط في الجماهير، أي أن وجود الفرد ضمن مجموعة من الأشخاص يخلق حالة من الانجذاب والتناغم، الشخص يعامل نفسه كجزء من الجمهور وتتناقل المشاعر والتصرفات وكأنه شخصية ثانية.

العواطف ودورها في إدارة سلوك الجماهير

يُظهِر الكاتب غوستاف لوبون وجود أنواع مختلفة من الجماهير، مع الاهتمام ببعض الصفات الأساسية التي يمكن أن توجد في معظم أصنافها، ويتحدث عن خمس صفات مهمة، الأولى تتبين في سرعة انفعال الجماهير، يلاحظ الكاتب هنا أن الجماهير قادرة على التنفيذ بدقة ما يُطلب منها، ولكن المشكلة تكمن في أنها تنفذ الأوامر بدون تفكير وتعتمد بشكل كبير على العواطف، وبالتالي، يمكن أن تجعل العواطف الجماهير تنقلب على الشخص الذي أعطاها الأوامر، مما يعني أن الشخص الذي يحظى بتأييد الجماهير اليوم قد يواجه غدًا معارضة منها، نظرًا لطبيعة الانفعال والتقلب فيما يتعلق بتصرفاتها المزاجية، وبما أن الانخراط في الجمهور يجعل الجماهير تشعر بالقوة، فإن هذا يساهم بشكل كبير في زيادة العاطفة الشديدة لديهم، والتقلب والانفعالات الكبيرة لدى هذه الجماهير.

وفي الصفة الثانية المهمة جدًا، ينوه الكاتب إلى أن نابليون بونابرت تمكن من تلميع صورته أمام الجمهور الفرنسي خصوصا الفقراء، لدرجة أن هؤلاء الأشخاص كانوا يحتفظون بتمثال لنابليون في منازلهم ولكن مع مرور الوقت، بدأ الناس يكتشفون حقيقة هذا القائد الذي كان بنظرهم، قائدًا عظيمًا، محبًا للسلام، يساعد الفقراء، بأنه شخصية طغت عليها القمع والعدوانية، والذي كان يحاول الحفاظ على سلطته بأي شكل من الأشكال غير مكترثًا بتبعات ذلك على المصلحة العامة، ومع ذلك، وبعد مرور زمن طويل، لا يزال هناك أشخاص يعتبرون نابليون قائدًا طيبًا وعظيمًا، وهي الحالة الذي وصفها الكاتب بالسذاجة الكبيرة التي تجعل الجمهور يصدق أي شيء.

وبناءً على ذلك، نتوجه إلى الصفة الثالثة في الجماهير وهي أن عواطفها متضخمة ومبالغ فيها، وفي هذا السياق، قارن الكاتب الجماهير بالفتيات اللواتي يحملن عواطف مفرطة جدًا، والتي يمكن أن تتجاوز الحدود وتصبح متطرفة، ولهذا السبب، فإن الشعارات العنيفة أو العواطف المفرطة تلعب دورًا كبيرًا في وسط الجماهير.

وفي الخاصيتين الأخيرتين، والتي تمثل تعصب الجماهير واخلاقياتها، يقول الكاتب الفرنسي، إن هذه الجماهير تتميز بكونها متعصبة ومستبدة في بعض الأوقات، وقد تتمرد وتثور إذا كانت السلطة ضعيفة، ولذلك فإن الجمهور يسعى دائمًا للوصول إلى سلطة قوية تثير خوفه، ويستطرد لوبون أن الجماهير قد تبدو دائمًا ثورية وشريرة ومتطرفة ومؤذية، ولكنها في الحقيقة محافظة جداً وتحاول المحافظة على الثوابت، وهي ذات قيادة قوية ومؤثرة، وهذه النقطة ذات أهمية بالغة، حيث يمكن للجماهير أن تتجه للخير وتتغير للأفضل.

آراء الجماهير وتأثيرها على مجريات الحياة البشرية

في عالمنا المعاصر، تحظى قضية آراء الجماهير اهتمام  الكثير لتحقيق أهداف مختلفة تمس أهم مجالات الحياة، ومما لاريب فيه أن للجماهير تأثيرًا فاعلاً في تشكيل المجتمع وتحديد مساره، ذلك أن آراء هذه الجماهير تعد مصدرًا ثريَا لاستكشاف التحولات الاجتماعية والثقافية في العصور المختلفة والتأمل في المستقبل، ومن هنا تبرز أهمية دراسة آراءها وفهم دوافعها وتأثيراتها، وقد استوقفت هذه المسألة الفيلسوف والاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون الذي قدم منظورًا واسعًا ومتعمقًا حول قوة وتأثير آراء الجماهير.

تجدر الإشارة إلى أن آراء الجماهير ليست مجرد تراكم للأفكار الفردية، بل تحمل قوة غير طبيعية في تحول المجتمعات وتشكيل مستقبلها، وبفضل تفكير لوبون العميق واستنتاجاته الفلسفية، نصبح قادرين على استيعاب أهمية تحليل آراء الجماهير والعوامل التي تؤثر فيها، ويكمن في ذلك فرصة لنا لتحديد كيفية تأثيرنا وتوجيهنا للجماهير بطريقة بناءة ومفيدة.

تحاول فلسفة لوبون إنارة تلك القوة التي تنبعث من آراء الجماهير وإدراك آثارها العميقة على مجريات الحياة البشرية، وفي هذا السياق، لو كنا مثلاً نرغب في تغيير آراء مجموعة من الأفراد في بلد معين، فإن لوبون يذكر لنا نوعان من العوامل التي تساعدنا في تحقيق هذا الهدف.

العوامل البعيدة غير المباشرة يمكن تقسيمها إلى خمسة عناصر رئيسية، أولها العوامل الثقافية التي تشمل العرق والتقاليد الموجودة في كل مجتمع، وأشار لوبون إلى التفاوت بين الجمهور البريطاني والجمهور اللاتيني في التعصب والثقافة، وأن التعصب لدى الجمهور الفرنسي يفوق التعصب الإنجليزي، ورَأَى أن العادات والتقاليد تلعب دورًا كبيرًا في تغيير تفكير الناس والتلاعب بآرائهم. وفيما أن العنصر الثالث يتضمن الزمن الذي يمكن أن يؤثر في تغيير آراء الناس عبر النسيان أو قبول فكرة كان من الصعب عليهم قبولها من قبل، فأن العنصر الرابع يتمثل في المؤسسات السياسية والاجتماعية التي تتدخل في الشأن العام، ولها إمكانية التأثير على آراء الجماهير كونها تتحكم في مختلف البنى الاجتماعية.

وأخيراً، يأتي العنصر الخامس وهو التربية والتعليم. يشدد الكاتب على ضرورة تعزيز التعليم العملي وتشجيع التفاعل بين الطلاب وتجربة أفكار جديدة ومختلفة، موجهًا النقد للنظام التعليم الذي كان سائدا في فرنسا تلك الحقبة، يقول أن المثقفين والذين يتحلون بالأكاديمية لا يمتلكون وجهة نظر صائبة، وأن التعليم في فرنسا حينذاك لم يعتمد بشكل كبير على الجانب العملي، بل كان يركز على النواحي الأكاديمية، وكذلك يرفض تفاعل الطلاب مع الآخرين والمشاركة في تجارب جديدة ومختلفة.

وإذا نظرنا إلى العوامل المباشرة القريبة، نجد أربعة عوامل هامة: أولاً، العبارات والصور المستخدمة من قبل القادة السياسيين لإثارة العواطف واستغلال الجماهير، فالقادة يعتمدون على العواطف لتوجيه الجماهير وتحقيق أهدافهم السياسية، مثال على ذلك، يستخدم الرئيس الأمريكي صورة الدولار وعبارات ذات طابع وطني قوي لإثارة مشاعر الجماهير واستخدامها لتحقيق أهدافه السياسية، وهذه النقطة تلخص فكرة مهمة جداً، وهي نقطة ضعف أساسية في أن الجمهور يفكر دائماً بناءً على مشاعره، ثانياً، الأوهام التي تشكل آراء الناس وتأثر في المجتمع، وهذه الأوهام يمكن أن تكون متعقلة بالحضارة والفنون والثقافة التي يعيشها الإنسان، ثالثاً، التجربة، وقد أعتبر لوبون هذا العامل المنهجية الفعالة التي تزرع الحقيقة في عقول الجماهير، واستشهد بتجربة ثورة فرنسا في محاولة لإبراز أهمية التعليم للتحرر من الأوهام وهموم الجماهير وتمكينها من تشكيل رؤى مستنيرة ومتوازنة.

العامل الرابع والأخير، العقل. وهو العامل الذي قال عنه غوستاف إنه الذي لا يمكن استخدامه للتأثير على الجماهير إلا لو تم التخلي عن المنطق واستخدام الطريقة العاطفية على غرار استخدام نابليون لها في استعباد العديد من شعوب العالم، على الرغم من أنه كان مجرد ضابط مدفعية بسيط جدًا.

ومن خلال ما سبق، نستطيع أن نستنتج أن استيعاب الإنسان لطبيعة هذا النوع الاستثنائي من القوة يمكنه من استكشاف أبعاد العالم المحيط به بشكل أعمق وأكثر إثراءً، دون أن يتأثر بآراء وأفكار الآخرين، وفي الوقت نفسه، فهم هذه القوة واستغلالها يمثل فائدة عظمى عندما يتطلع الفرد إلى نشر فكرة إيجابية وتوجيهها بشكلٍ سليم نحو الجمهور ، وليس بالضرورة أن تكون الغاية من ذلك دائمًا إيجابية بل قد تحمل بعض الأفكار في طياتها أهدافًا خبيثة.

قد يعجبك ايضا