اقرأ مقالا ناريا للشاعر البردوني حول ثورة الـ26 من سبتمبر

وما يسطرون – عبدالله البردوني- المساء برس|

عبدالله البردوني:

إذا كانت مهمة الفيلسوف أن يعقل زمانه فإن مهمة المؤرخ أن يجمع بين عقلية المتفلسف وحدس الكاهن لأنه لا يريد أن يعقل الفترة التي يؤرخها وإنما يريد أن يتغلغل فيها لكي يجمع أسباب أحداثها وامتداد الزمن إليها وامتدادها إلى أزمان تليها, ذلك لأن الحدث العظيم إبداع إنساني عظيم ومعرفة عمومية أسبابه وفرادة خصوصياته إبداع يكتسب قيمته من قيمة العمل المدروس كمادة تاريخية أنتجها البشر بمقدار ما انتهجتهم تفكيراً وحساً.

ولعل ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م على توافر إمكاناتها وتجمع أسبابها انعكست على مفاهيم متباينة أو شبه متباينة فبعد امبلاجها وإمكان انتصارها ألحقها البعض بالمعجزات الخوارق, بل رددت بعض الخطابات اسم المعجزة لقباً للثورة.

فلماذا تسنى للذين سموها معجزة أن يفهموها هذا الفهم؟

ربما قاسوها بالحركات السابقة التي عرفوها بسرعة الإخفاق دون أن يكونوا على دراية كافية بتغير الظروف الشعبية حين انفجار الثورة, لهذا لم يروها الأكثر فريدة في عصر الثورات فضلاً عن معجزة لأن الخمسينات والستينات كانت ارغد مواسم التوهج الشعبي في أكثر من مكان, وكان شعبنا يتفاعل بذلك الألق الثوري ويشكل أصداءه حلماً وتفكيراً, ففي سنة 56م تجمهر الألوف من أبناء المدائن اليمنية بمظاهرات صاخبة تنادي بالوقوف إلى جانب مصر الثورة وقتال العدوان الثلاثي الذي استهدف ثورة مصر الطليعية المتبنية حقوق الشعوب في التحرر وحقوق المواطن في الحرية, إن من يتبنى أفكار غيره يجد فيها التعبير عن تجربته أو الأنفاس الإنسانية لطموحه.

لم تكن مظاهرة 1956م موقفاً ثورياً حتى اضطرت السلطة الإمامية أن تجعل من مذياعها صدى لصوت العرب في تتبع وقائع العدوان ورصد انتصارات الشعب المصري الثائر وكانت مصر ترفع راية النضال ضد الاستعمار في كل مكان فمثل الوقوف إلى جانبها تبني موقفها, لأن الثورات كانت تغذي وجودها بصراع الاستعمار كما كانت الشعوب التي لم تثر تقيس ثوريتها من شوقها إلى التغيير وبالاقتداء بالذين غيروا خارطة السياسة من الثوار.

بعد مظاهرة اليمن إلى جانب مصر 56م تسارع التحرك الثوري في مختلف الخطوط الشعبية والثقافية فتعالى التذمر وتوالت الانتفاضات المسلحة في المناطق الريفية وفي ثكنات الجيش.

أليست هذه إمكانيات ثورة سبتمبر؟

فهل هي معجزة كما ردد البعض؟.. أم أنها عمل شعبي كأحد انجازات الشعوب التي كانت تحتدم يوم ذاك.

إنها إنتاج الشعب وقد بشرت بها الإمكانيات الداخلية والاستفادة من تجارب الخارج, وكانت تلك الأيام أنضر صفحات الإنسان العربي, كان يدخل الفلاح المدينة ليشتري جهاز راديو, وأول ما يسأل هل في هذا الجهاز أحمد سعيد؟ فهو هنا يسأل عن الثورة دون أن يتساءل عن التسلية بالأغنية أو الترفيه بساعة لقلبك, فق كان الشعب يفهم أن الثورة دليل حيوية الشعوب وان تأجيجها أعظم مبدعات الإنسان, وعندما تبلجت الثورة السبتمبرية تعددت المفاهيم عنها ولكن صادرة منها, فكما رآها البعض معجزة, رآها البعض عطاء فدعا إلى زيادة المرتبات, وفهم البعض هذا العطاء مجازفة اقتصادية على حساب المشاريع الاستثمارية التي تستدعي التقشف من اجل ترسيخ قواعد الاقتصاد الوطني, فأغلب الثورات انتهجت التقشف كثورة الجزائر وبعضها تقشفت بلا إعلان.

فهل عطاء الثورة بذل النقود للطلبات الفردية المشروعة وغير المشروعة؟

فهم البعض بأنها عطاء بلا سؤال, ورأى البعض بأنها عطاء إنساني للثورة لكي تعطي حصاداً غنياً عام النفع.

كل هذه المفاهيم كانت ملائمة بالقياس إلى اختلاف المستويات الثقافية والى تباين الحس السياسي, ومشكلة هذه المفاهيم على تباينها أنها نزلت من الرؤوس العليا إلى الجماهير, فساء فهم الحرية عند الكثير, فمن تهاون في واجبه زينة باسم الحرية وصرخ في وجه سائله: فلماذا قامت الثورة؟

كان هذا السؤال على لسان كل من يعجز عن تحقيق غرضه الشخصي, ولاشك أن هذا السؤال مشروع بالنسبة إلى المجموع وللفرد كواحد من غمار المجموع, غير أن الفردية ظلت تزاول وجوها لقصد إرضاء الطالب ولقصد شعبية المطلوب, وكان قصر الفترة لا يساعد على وجود نظام مشترك بين السلطة والمواطن يحدد الحقوق والواجبات ويحس الحاكم والمحكوم أن ذلك النظام في صالح الكل, لأن الأنظمة في العهد البائد كانت مجموعة مانع وعقوبات, فاعتبر المواطن الثورة إنهاء للموانع والعقوبات لغياب ضابط تلتزم به السلطة والشعب عن رغبة وعن شعور كل واحد بمصلحته من القوانين, وكانت الأحوال أفضل تحت راية الجمهورية بفضل الحس الثوري والعقيدة الوطنية.. على حين كان التفكك في المعسكر الملكي على أشده فلم يعد لبقية رجال العهد البائد أي تأثير في المناطق التي يعسكرون فيها, إذ لم يتمكنوا من إدارة منطقة أو قرية وإنما كانوا في أيدي كبار محاربيهم بفعل الاختلاف بين مهابتهم في قصور صنعاء وبين التجائهم إلى الكهوف, فقد أذهب الاختلاط تلك المهابة وأحس المحارب في الصف الملكي حاجة الذين كان يحتاج إليهم, فمفاهيم الشعب عن الثورة كانت متباينة بمقدار تباين مفاهيم المسؤولين عن الثورة, إذ اعتبرها بعضهم معجزة, ورآها بعضهم عطاء بلا اخذ, وعرفها بعضهم أخذاً بلا عطاء, حتى مفاهيم الحرية كانت تناقض الالتزام وتنافي الانتفاع العام من الحرية, وعلى رغم اختلاف هذه المفاهيم فإنها لم تنل من عظمة الثورة كعمل عظيم ولا من بهائها كإشراق شعبي تفجر من خلال المعاناة والأمل ومن بين انهار الدم والدموع, إن مؤرخ الثورة كحدث تاريخي ملزم بتقصي هذه الظواهر, لأنها تبدت في وقت الاصطراع من أشد الأعداء, لهذا لم تنفع القوة العسكرية في غياب القوة السياسية, لأن العسكرية غرض سياسي بعيد النظر إلى النتائج قبل البدايات, صحيح أنها كانت هناك قوة سياسية ولكنها كانت مختلفة المفاهيم, كانت القوة المصرية تحاول أن تنقل سياستها حرفياً بمقدار محاولة رفض هذه الحرفية حتى بين الجمهوريين, ولعل الذين يؤرخون الثورة سيستحضرون هذه الظواهر إذا كانوا على معرفة كافية بالمصادر التي جاءت منها الثورة, إذ لا يمكن تغييب القديم أو الجديد أو الإشادة بإحداهما أو كلاهما إلا عن نظرية معرفة بالذاهب والآتي أو بالقديم والآتي منه, لاشك أن اختلاف المفاهيم عن كيفية الصلة بين السلطة والقواعد وعن الناظم المشترك بين القاعدة والقمة كان يرجع إلى غياب الممارسة التنظيمية في العهد البائد وإلى بزوغ الثورة كمفاجأة رغم وفرة إمكاناتها, فإنها عندما تبلجت حدثاً تاريخياً أذهلت صورتها لوامح تصورها, وهذا الذي أرث المباينة على طوال الستينات حتى اختتمت أشواطها بالتصالح بلا تجربة نصر أو هزيمة, وربما لم تقتص كتاباتنا في الستينات هذه الظواهر وما تحتها من حقائق- أما كتاباتنا الصحفية في السبعينات فتبدو أكثر اختلافاً في مفاهيمها عن ثورة سبتمبر, وبالأخص في كتابات الشباب, فغاية التفاني في الثورة عندهم أن يروها بداية الشعب اليمني وانه كان قبل سبتمبر عدما, وهذا المفهوم ادعى للنقاش:

إذا كانت أرض اليمن خلواً من السكان, فمن فجر ثورة سبتمبر؟

وهل اليمن كما يرون كان قبل الثورة بلا تعليم بلا ثقافة بلا جيش بلا طموح ثوري؟؟

إن الذين أصدروا هذه الأحكام كتابة وخطابة حكموا على أنفسهم: فهل هذا الشعب هو الذي ابتدع ثورة سبتمبر أم ثورة سبتمبر هي التي ابتدعت الشعب بريحها السحرية؟؟

صحيح أن التعليم بعد الثورة زاد اتساعاً كما تكاثرت إعداد المثقفين, ولكن هذا بفعل الثورة أو بفضل الذين جعلوا الثورة عفاً تغييراً, إن مفاهيم البعض السبعينيين عن ثورة سبتمبر يبدأ من الحدث ويمحو الذي أحدثه هذا المفهوم من مفاهيم السبعينات, أما المفهوم الثاني فيفهم أن قوة مصر الثورة كانت كل الأسباب لبقاء ثورة سبتمبر ولولا هذه القوة لما بقيت الثورة, والسؤال كيف بقيت الثورة بعد انسحاب الجيش المصري وقاومت وحدها على امتداد سبعين يوماً هجمات تفوق هجمات السنوات الأولى من عمر الثورة؟

إن الثورة المصرية وقفت إلى جانب ثورة سبتمبر لأنها تستحق الوقوف إلى جانبها, ولان خطورة الهجمات الاستعمارية استوجبت المؤازرة الناصرية حماية لليمن ومصر معاً, وهذه المؤازرة دلت على موقف ثوري ولكنها لم تكن السبب الوحيد في بقاء ثورة سبتمبر لأنها ولدت متكاملة العناصر قوية القابلية للبقاء, بل ربما أدت قوة الدعم العسكري إلى قلة الاختبار السياسي محلياً لأن الركون إلى العون يفقد المستعين حلاوة التجربة ومرارتها واكتساب الصلابة من قوة العراك.

الثورة لم تستأصل ذيول الأفاعي فظلت الثغرات مفتوحة للهجمات الاستعمارية الجديدة

إن ثورة سبتمبر قد أصبحت تاريخاً يستدعي التمحيص والاستغوار ولم تعد حدثاً هشاً يستدعي الكتابة الدعائية والتلميع الإعلامي, لأن الحدث التاريخي يمتد من تاريخ, فينبغي متابعة امتداده وبالأخص اليوم فالاستعمار الذي كنا نظن زواله في الستينات يكشف عن قرونه في الثمانينات مستعيداً سياسة المدافع بعد أن أفلت سياسة الحقائب والمعارف, إن زمن الثورات الشعبية ادعى إلى تلمس كل الظواهر لسبب واحد: هو اختفاء الاستعمار عن العيون واحتمائه بسياسة الحقائب, أما اليوم وقد عاد الاستعمار مدججاً متحالفاً على الشعوب الضعيفة فإن معرفة مكامنه التي أطل منها تبصر الشعوب بالمقاومة الجديدة للهجمة الجديدة, وقد كانت ثورة سبتمبر على أتم وعي بمؤامرات الاستعمار القديم لأنها عانتها من نعومة أظفارها فنشأت بعيدة النظر فجمعت بين قتال الاستعمار في الشطر الجنوبي وبين قتال فلول البائدين في شمال الشمال.

والآن وقد أصبحت أكثر الزعامات في نسيج المؤامرات على الثورات, لابد أن يختلف اسلوب المقاومة ولو لم يختلف الميدان لأن ثورات الخمسينات والستينات لم تستأصل ذيول الأفاعي فظلت الثغرات مفتوحة للهجمات الاستعمارية الجديدة التي غيرت اسمها ولم يتغير مسماها فبعد أن كانت حكماً شبه مباشر أصبح الاستعمار اليوم مختلف الأسماء:

* قوة متعددة الجنسيات.

* قوات حفظ السلام.

* مبادرة لحفظ السلام.

وكل هذه الجنسيات جنسية واحدة أسفرت عن وجهها في لبنان وفي سيناء وهاهي اليوم تقاتل الشعب اللبناني باسم حفظ السلام فإذا كانت مصر واجهت العدوان الثلاثي في 56م ومعها كل العرب فإن لبنان اليوم يواجه وحده العدوان الخماسي, وستكون معركة لبنان راية ثورة التسعينات وذلك بفضل استيعاب الجماهير لمراحل ثورات الخمسينات والستينات وما اختلف عنها من مفاهيم وما ترتب عليها من نكسات شكلت الزعامات الصناعية الأقرب شبهاً بزعامة ما قبل الثورات فالمفاهيم التي تباينت حول ثورة سبتمبر تباينت حول ثورات الفترات كلها, وسينتج عن هذا تصحيح كل المفاهيم وامتزاجها في مفهوم واحد: “ثورة الشعوب من أجل الشعوب”.

 

من مقالاته في صحيفة 26 سبتمبر

 

قد يعجبك ايضا