علي ناصر محمد يكتب عن حصار اليمن وموت “مقبل”
وما يسطرون – علي ناصر محمد – المساء برس| ماذا اذا لم تجد علاجاً في مستشفى في عاصمة بلادك، أو في مكان في وطنك الجريح الذي تذبحه الحرب منذ خمس سنوات؟!
ماذا إذا لم تجد طائرة تنقلك الى أقرب مطار تسافر منه إلى الخارج لتلقي العلاج لأن مطارات بلادك مغلقة، والمطاران الوحيدان المتاحان بعيدان مئات الكيلومترات والطريق إليهما دونه الموت بسبب وضعك الحرج، وقد مات كثيرون وهم يحاولون اجتيازه، أو على مقعد الطائرة اذا ساعد أحدهم حظه بعد طول انتظار، وصبر، ومعاناة الحصول على مقعد، أو فرصة علاج في الخارج؟!!
عن موت المناضل الكبير علي صالح عباد ( مقبل ) أتحدث.
ماذا إذا داهمك الموت وأنت تحاول دون جدوى.. وأهلك يحاولون، والقليل النادر من أصدقاء النضال والدرب والوفاء يحاولون، فتعجزهم الظروف وقلة الإمكانيات والحرب التي تحصد الأرواح وتغتال كل ما هو جميل وثمين في الوطن، في الوقت الذين بيدهم الربط والعقد والإمكانيات يتفرجون على آلامك، كأنهم ينتظرون موتك ليدبجوا بيان نعيك الذي سبق وأن كتبوه مسبقاً بنفس الصيغة تقريباً في عشرات من أمثالك ممن ماتوا بنفس الطريقة، نفس الإهمال ونفس الوعود التي لا تتحقق؟!!
عن موت الصديق ورفيق النضال والدرب الطويل علي صالح عباد (مقبل) المناضل الوطني الكبير والصلب والجسور الذي وافته المنية صبيحة يوم الجمعة 1 مارس 2019 في صنعاء، أتحدث.
ماذا إذا رأيت كل الأحلام التي راودتك ذات يوم في صباك، وآمنت بها، وناضلت في سبيلها، وكنت على استعداد للموت من أجلها، وسقط شهداء وجرحى من حولك لتنتصر الفكرة ويتحقق النصر وتعيش فرحة الاستقلال وتشم عبير الحرية مع شعبك العظيم الذي ناضل وقدم التضحيات الجسيمة من أجل هذا اليوم؟!!
عن المناضل (مقبل) وموته أتحدث!
ماذا إذا رأيت كل الأهداف العظيمة التي ناضلت مع مناضلي شعبك.. الاستقلال.. الدولة.. الوحدة وقد تحققت كلها في حياتك، فيملؤك الزهو بأنك كنت مساهماً في كل ذلك مهما كانت هذه المساهمة متواضعة.. وتشعر بأن كل التضحيات التي قدمتها وغيرك من المناضلين تهون في سبيل الوطن وعزته ورفعته حتى لو ظُلمت وظُلم غيرك في بعض المراحل، أو لم تعد في السلطة ودخلت سجونها كما كنت ذات يوم وخرجت منه ومنها؟!!!
عن المناضل مقبل وسواه من المناضلين والمواطنين أتحدث .!
ماذا إذا رأيت أن كل الأحلام التي حلمت بها ذات يوم، وشعرت أنها قد تحققت في حياتك وأنت تراها تتبدد أمامك واحدة واحدة وتضيع سنة بعد سنة وعقدا بعد عقد؟!! وكل الأحلام قد سرقت أمام عينيك الاستقلال والدولة والوحدة والأمن والاستقرار وحل محلها الحرب والخراب واليباب؟!
عن مقبل وموته الذي ترك في قلبي جرحاً عميقاً أتحدث.
عن موت المناضل والانسان عبد الله صالح البار أتحدث وقد مات ذات يوم ليس ببعيد في المكلا في مرض مشابه وظروف مشابهة لأنه لم يجد علاجاً في بلاده ولا طائرة تنقله للعلاج في الخارج.
عن موت آلاف المواطنين في وطني المكلوم الذين تحصد الحرب والأمراض والجوع أرواحهم الطاهرة أتحدث، وأقول أوقفوا هذه الحرب، لكي يجد الناس الأمن والسلام، ويجدون مستشفى يتعالجون فيه من أمراضهم، ومطاراً يسافرون منه الى الخارج حيث الإمكانيات متاحة.
كم هو مؤلم الموت بهذه الطريقة..؟!
كم هو الحزن ثقيل على قلوبنا ونحن نعجز عن تقديم العون لصديق أو رفيق درب أو إنسان أيّ كان رغم أنك حاولت بقدر ما تستطيع. كنتُ على اتصال مستمر بالفقيد الكبير مقبل بعد أن اشتد عليه المرض للاطمئنان على صحته، وكان آخر اتصال بيني وبينه في نهاية يناير الماضي وعرضت عليه أن يأتي الى بيروت أو القاهرة حيث الامكانيات أفضل لكنه قال لي أنه يفضل السفر الى المانيا لأن الطب هناك متقدم والامكانيات أكبر لعلاج حالته، لكنه يحتاج على الأقل الى طائرة خاصة مجهزة طبياً لنقله من مطار صنعاء، المغلق منذ الحرب، لحراجة وضعه الصحي الذي لا يحتمل السفر عبر البر، للوصول الى أقرب مطار يسافر منه الى المانيا، وقد حاولت مع المسؤولين في صنعاء والشرعية في الرياض الذين وعدوا ولم يفوا كعادتهم.. وقد حدث هذا في مرض عبد الله البار أيضا وغيرهم !!! وماتوا لأن الذين بيدهم الامكانية تقاعسوا عن ذلك.
عرفت مقبل في وقت مبكر من بداية الستينيات من القرن الماضي، جمعتنا حركة القوميين العرب في عدن خلال الاجتماعات السرية ممثلين عن فروعها في المحميات، وكنت وسالم ربيع علي وحسين الجابري ومحمد علي هيثم وعلي صالح عباد نمثل ما كان يعرف بسلطنة الفضلي وجمهورية (ولاية) دثينة أو ما يعرف اليوم بـ “أبين” في تلك الاجتماعات، التي ضمت أعضاءً من عدن وبقية المحميات.
كانت تلك سنوات البحث عن سبيل لانتزاع الحرية والاستقلال الوطني للجنوب المحتل، وكان مقبل أحد المؤسسين للجبهة القومية وأحد المشاركين في اتخاذ قرار الكفاح المسلح الذي غير وجه اليمن الجنوبي والمنطقة، وخلق معادلة جديدة في صراعنا مع الاستعمار الذي كانت نهايته لصالح الثورة والشعب في الجنوب بأفول الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وبتحقيق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية دولة مستقلة ذات سيادة لأول مرة منذ احتل الانجليز عدن قبل 129 عاماً.
أذكر أننا اتخذنا ذلك القرار الخطير في الاجتماع الذي عقدناه في منزل المناضل نور الدين قاسم في المنصورة بالشيخ عثمان، وترأسه المناضل فيصل عبد اللطيف الذي قدم عرضا ً حيا ً وعميقاً لاتجاه الأحداث والدعوة إلى نقل الكفاح المسلح من ردفان، حيث اندلعت الثورة عام 1963، الى قلب المستعمرة البريطانية عدن والمحميات، وعندما أبدى البعض ملاحظات على ذلك وخشيته من فشل الثورة وأن الوضع في عدن والتحصينات والبوابات والأسوار والأسلاك قد تمنع دخول الأسلحة إلى المستعمرة، أتذكر مقولة فيصل الشعبي: إننا إذا انهزمنا في هذه المعركة فسيسجل التاريخ أننا قد حاولنا، وإذا انتصرنا فهو نصر لشعبنا وللأجيال القادمة.
كان المناضل علي صالح عباد من المشاركين في صنع ذلك الحدث التاريخي وفي الكثير من مفاصل الثورة والتجربة في اليمن الديمقراطية وفي ترسيخ مفاهيم الدولة المدنية السياسية وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية وانحيازها الى جماهير الشعب. وكان شريكاً فيها بكل سلبياتها وايجابياتها، ودفع ككثير من المناضلين الثمن عبر بعض محطاتها التي كانت مؤلمة، وكغيرها من التجارب الإنسانية لم تكن تخلو من أخطاء ومن سلبيات شأنها شأن أي تجربة في العالم الثالث خاصة في اليمن شمالاً وجنوباً.
وكان مقبل يتمتع بملكات فكرية وتنظيمية سخرها لصالح التنظيم السياسي – الجبهة القومية – ومن بعده الحزب الاشتراكي اليمني عندما كان يمسك الحزب بمقاليد وزمام السلطة في الجنوب، ولعب دوراً عظيماً في إعادة الحياة الى الحزب بعد حرب 1994م التي خسر فيها الحزب الشراكة في الوحدة التي كان أحد صناعها والمكافحين في سبيلها، وتحمل مقبل في سبيل ذلك من الأذى والعسف ما تحمل من النظام الذي أغرته نشوة النصر.
لم تنقطع اتصالاتي بمقبل الذي لم يغادر صنعاء وظل فيها رغم كل الظروف والحرب والمرض الذي اشتد عليه في الفترة الأخيرة حتى وافاه الأجل.
رحم الله فقيد الوطن الكبير وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وأهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
المصدر: صفحات ناشطين بوسائل التواصل الاجتماعي