قصة الرعيل الأول لحركة القوميين العرب وبطل رواية الرهينة العالمية “أحمد دماج”

المساء برس

برحيل الشخصية الثقافية والسياسية، اليسارية، والإجتماعية البارزة، الأستاذ الشاعر أحمد قاسم دماج، الذي وافته المنية مساء الإثنين الماضي، فقد الشعب اليمني أحد أهم رموزه التنويريين الأحرار في العصر الحديث. فلقد ظلت قضيته الأساسية بناء الدولة اليمنية النموذجية المنشودة، ذات المعايير الجمهورية الرافضة للقهر وللاستغلال وللطبقية وللإفساد وللظلم وللكهنوت، كما شكل في حياته الحافلة تجسيداً سلوكياً عبقرياً للتفاعل الكفاحي الخلاق، بين حلم الإنسان اليمني الديمقراطي الحر، وغايته العالية في الإرتقاء المجتمعي، و تحقيق قيمتي الوطن والمواطنة، بالمعنى التقدمي، الناضج والفاعل والنبيل.

ولد أحمد قاسم دماج في قرية ذي المحاسن، محافظة إب عام 1939، لأسرة مشيخية معروفة. وفيما لم يتجاوز العاشرة من عمره، اصطدم بوحشية نظام الرهائن الإمامي البغيض، وتحديداً إثر انتقال عمه المناضل مطيع دماج إلى مدينة عدن، ضمن الحركة المعارضة لنظام الإمام يحيى حميد الدين، حينها. والحال أن الإمام لم يكتف برهينة واحدة من آل دماج، وإنما بعدة أطفال، ماتوا معظمهم نتيجة الأوضاع الصحية السيئة في مكان الاحتجاز، بقلعة القاهرة في مدينة تعز.

“والرهينة هو غلام صغير، ينتسب إلى زعيم قبيلة أو أسرة ثائرة، يخشى الإمام من خطرها، فيقرر أن يأخذه ليسجنه كرهينة، وليكون ورقة تهديد إذا ما فكر أهله القيام بما يغضب الإمام”. بالتأكيد كانت تجربة رهيبة تلك التي تعرض لها الطفل أحمد قاسم دماج، بعد انتزاع “العكفة-الجنود” له من حضن الأسرة، وقذفه بقسوة في بطن السجن، ليستمر كرهينة رغم عمره الغض. وهكذا، أصبح أحمد قاسم دماج هو بطل رواية الرهينة الشهيرة، التي وصلت إلى العالمية، للروائي الراحل زيد مطيع دماج، وهي الروايةالتي ترجمت إلى عدة لغات وصدرت منها طبعات عديدة، خلدت محنة الطفل (إبن عمه) وهواجسه الصغيره وتحولات مداركه العقلية والعاطفية والوطنية، فضلاً عن توثيقها لقضية الأمة اليمنية، ومعاناتها وطموحاتها، في ظل نظام الإمامة الاستعبادي الاستغلالي للدين، وما قبل الإنساني وما قبل الوطني.

بمجرد صدورها عن “دار الآداب” اللبنانية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أخذت رواية “الرهينة” الكلاسيكية بعداً رمزياً كبيراً في الوجدان اليمني، كما تحول زيد مطيع دماج إلى اسم سردي مرموق، في المدونة السردية والروائية العربية.

غير أن أحمد قاسم دماج الذي رحل في صنعاء عن عمر 78 عاماً -وكان ثاني رئيس لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بعد الأستاذ عبد الله البردوني- لم يكن طفل رواية الرهينة فقط، وإنما حصيلة الحلم الأنقى لأجيال يمنية عديدة بالتغيير وبالحداثة وبالمدنية وبالدمقرطة. فبمجرد تحرر الفتى أحمد من سجن الرهائن، احتضنه عمه مطيع، وأخضعه لبرنامج تعليمي وثقافي ثري ونوعي، مكنه من الإطلاع على كل ما يمثل وثبة للنهوض وللتكوين الفكري المنفتح على حركات الإصلاح السياسي والديني عربياً وعالمياً. فيما كان مطيع دماج من التنويريين اليمنيين الرواد ضد الإستبداد في تلك المرحلة، وصاحب فكر مستقبلي، لا ينحاز للتقليدية التي كانت تسود وعي المشيخ خصوصاً.

ثم في نهاية خمسينيات القرن الماضي، صار أحمد قاسم دماج معززاً بالمعرفة، وبشكيمة ذات تجربة، للنضال ضد حكم الكهنوت الإمامي. ولذلك كان الراحل الكبير من الرعيل الأول لحركة القوميين العرب في اليمن، حيث كان أعضاؤها من أهم صناع ثورتي سبتمبر وأكتوبر الخالدتين، بينما كانت الحركة على المستوى العربي ذات انتشار واسع، وبتأثير جماهيري، وفي تنافس مع “حزب البعث”، وتحت عنوان المد السياسي أو التيار العام المؤيد لجمال عبد الناصر.

ولئن صار دماج، بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، أول أمين عام لمجلس الوزراء، إلا انه استقال اعتراضاً على مؤتمر حرض، من ناحية، و لأن وعيه لم يكن متهافتاً على مغريات السلطة، لينحاز لتسوياتها اللاوطنية والمصلحية الشخصية غالباً، بل كان مع تطلعات المجتمع، و كمثقف تقدمي حر.

وفي تلك المرحلة أيضاً، ساهم في تأسيس صحيفة “الثورة”، وإصدارها من مدينة تعز، مع الأستاذ عبد الله الأوصابي، الذي صار لاحقاً نقيب نقابة الصحفيين اليمنيين، فيما كان دماج على رأس اللجنة التأسيسية للنقابة أواسط السبعينيات.

لكن على وجه التحديد والدقة، يمكن القول إن تحولات فكرية حادة عاشها دماج فترة نهاية الستينيات حتى منتصف السبعينيات. فلقد كان من أهم المؤسسين للمقاومة الشعبية البطلة، أثناء حصار السبعين يوماً من قبل القوات الملكية، والتي دافعت عن صنعاء ومنعتها من السقوط.

ثم بسبب أحداث أغسطس، والصدامات المؤسفة داخل الصف الجمهوري، تعرض للمطاردات وللتشرد وللاعتقال. وبالمحصلة تحول دماج، عقب نكسة حزيران الصادمة -وهو ما حدث على المستوى العربي لغالبية فصائل حركة القوميين العرب- إلى الإشتراكية، ببعدها اليساري الديمقراطي، وذلك بعد ظهور التيار اليساري ضد الاتجاه اليميني في الحركة على المستوى المركزي في بيروت.

وآنذاك، ساهم دماج في تأسيس وقيادة “الحزب الديمقراطي الثوري” اليمني، الذي كان من أهم الفصائل اليسارية اليمنية التي شكلت “الحزب الإشتراكي” اليمني في 1978، وقد انطوى في الحزب الديمقراطي الثوري اليمني أثناء تأسيسه معظم النشطاء السياسيين اليمنيين الذين كانوا في حركة القوميين العرب التي خضع أداؤها للنقد بعد الهزيمة، وقررت مركزياً حل نفسها، ليبقى أنصارها في كل دولة بأفقهم القومي، وبتطورهم اليساري في آن واحد.

لكن دماج ترك العمل الحزبي المباشر، وصار من أهم أعمدة تنمية الوعي بالمجتمع المدني، بحيث صارت له إسهامات ثقافية ونقابية عديدة، من أبرزها مساهمته في تأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، رفقة كوكبة رائدة وخالدة، من مثقفي وأدباء اليمن شمالاً وجنوباً العام 1970، كأول منظمة مجتمع مدني موحدة. وآنذاك، كان الثقافي يكمل السياسي فيه، كما كان ناقداً ذاتياً فذاً للتجربة السياسية والفكرية السائدة، وفي خضم ذلك انحاز للمشغل الثقافي الشامل والمتجدد والمتسع، بمفهومه المتجاوز وغير الجامد وغير الرجعي طبعاً، بل إنه كان من مؤسسي البنية الفكرية الحديثة للمجتمع اليمني تلك الفترة الزاهية والشاقة، إذا جاز التعبير.

إنه من ذلك النوع من “المثقفين العضويين”، الذين وقفوا ضد جنون سلطات الهيمنة والنفوذ، في كل المراحل، منذ ما بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر. وفي كل المراحل العاصفة، نتيجة لخلافات أقطاب السلطة، كان الأستاذ أحمد قاسم دماج أكثر تشبعاً بروح اليمن الكبير، كإطار وكإنتماء.

لكن أكثر من أي شيء آخر، ارتبط دماج في التاريخ الوطني -مع أبرز مثقفي اليمن الرواد- بنشأة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، كما هو ملاحظ. وكان الاتحاد هو تلك المؤسسة الموحدة التي رفضت الانقسام السلطوي الذي حدث في شمال اليمن وجنوبها، خصوصاً بعد الصدام الدموي بين الجمهوريين شمالاً، وبين جبهتي تحرير الجنوب، ثم بعد المصالحة التي تمت شمالاً بين تيار جمهوري والملكييين برعاية السعودية، إضافة إلى عوامل متعددة داخلية وخارجية، أبرزها انعكاسات الحرب الباردة على الساحة اليمنية، بعد انحياز النظام في الجنوب للفلك الإشتراكي السوفيتي.

وعبر الاتحاد صاغ الراحل مواقف مشهودة ضد ترهيب المثقفين ومحاكمات الرأي وتفتيش النوايا وتوزيع تهم التخوين والتكفير لهم. كما من موقعه القيادي في الاتحاد، استمر رمزاً نوعياً للأخذ بيد أجيال من الأدباء والكتاب الشباب، فضلاً عن دأبه لتحقيق التقدم الفكري والوحدة العادلة والتنوير الثقافي والحرية الإبداعية. ولقد كانت قضية الوحدة اليمنية التي على رأس أهداف الجمهوريين واهتماماتهم، تتراجع ضمن أهداف النظامين بعد تفاقم أسباب الاختلاف السياسي بينهما، والانتكاسات الصدامية المسلحة. لذلك رفع أدباء ومثقفو اليمن صوتهم عالياً، وشكلوا الإتحاد ككيان نقابي موحد، يعبر عن مشروعهم الوطني الرافض للتشطير، حتى كانوا بحق بوصلة الذات اليمنية الواحدة.

المؤسسون للإتحاد حينها سرعان ما أعادوا إصدار مجلة “الحكمة” -التي ارتبطت بحركة الأحرار الإصلاحيين الدستوريين في الأربعينيات- لتمثل لسان حال الاتحاد، وفيما رأسها المناضل والمثقف والأديب والسياسي الوحدوي الكبير الأستاذ عمر الجاوي (قائد المقاومة الشعبية في حصار السبعين) فقد كانت تمثل منبراً حراً، خارج قيود النظامين، وأما في المحافل الخارجية فقد كانت مشاركات أعضاء الاتحاد تحت يافطة الوحدة اليمنية، سابقين الساسة بمراحل طويلة.

وإلى حد كبير، كان الاتحاد قوياً ومستقلاً في مواقفه ونشاطاته، آنذاك. كما بلور خطاباً وطنياً مشهوداً، يتجاوز الانتماءات السياسية والجهوية الضيقة. ثم بعد الوحدة عام 1990، تحول الاهتمام الوطني للاتحاد، من الالتفاف حول قيمتي الثورة والوحدة، إلى الالتفاف حول قيمتي الديمقراطية والتحديث. وفي الاتحاد، حظي الراحل أحمد قاسم دماج بثقة الأدباء اليمنيين، لرئاسة اتحادهم لثلاث دورات مختلفة.

كما تميز -مثل كل قادة الاتحاد الكبار الذين يحظون بالإجماع الوطني- بنصحه الشفاف والمسؤول والناضج لنظامي الشطرين، بمختلف حكوماتهما، قبل الوحدة، محذراً من الارتداد عن نهج حلم اليمن الديمقراطي المأمول، والامتثال للنزعات العصبوية ذات المشاريع الصغيرة، لكن الصدامات الدموية حدثت كما هو معلوم داخل كل نظام، كما بين النظامين في أكثر من مرحلة، وصولاً إلى الحروب ما بعد الوحدة أيضاً.

والثابت أن مواقف ورؤى دماج تميزت بكونها ذات عقلانية نقدية للحروب وللمفاسد، وللافقارات وللاقهارات ومآلاتها. وفي أزمنة السقوط المدوي للعديد من الأسماء الفكرية والأدبية والاجتماعية والسياسية، فضلاً عن عدة كيانات وطنية، تارة جراء المال السياسي والمناصب السلطوية، وتارة بسبب الانحرافات المناطقية والطائفية، استمر دماج متشبثاً بنزاهته وبشموخه في وجه كل الاغراءات والتهافتات، كما في وجه التجريفات والاستلابات بالمقابل، ليمثل حالة خاصة ونوعية من خلال توحده المتسق مع همومه الكبيرة فقط، وصولاً إلى التعكز والاتكاء على إرادته المتجذرة التي أثبت فعلاً أنها عصية على التدجين، ولا تلين مهما كانت الإخفاقات والخيبات والخذلانات.

وباختصار شديد: مثل الأستاذ أحمد قاسم دماج، بتواضعه الملهم، كما بانحيازه للتطور، وبصلابته ونقاوته الذاتية الحرة، أيقونة مثالية واعتزازية، وكذا مرجعية خصبة وملهمة، ليس لشباب اليسار اليمني فقط، وإنما لشباب العمل المدني والوعي السياسي الصاعد من التيارات كافة على قاعدة المشتركات الوطنية الكبرى، كما للجيل الجديد من الأدباء والكتاب والمثقفين والنشطاء المنحازين لخيارات التغيير والنهوض والتقدم، خيارات تحقيق دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية، وتنمية الإنسان بالحساسيات غير التقليدية، الزاخرة بالإبداعات والتصورات المغايرة والناضجة داخل بنى الدولة والمجتمع.

العربي – فتحي أبو النصر

قد يعجبك ايضا