مسرحيّة السيادة
موسى السادة – وما يسطرون|
«وصلنا للجوف (في السعودية) أهل الإبل وصلوا كل ديرة، حدود قبل مافيه، البدو يشرّقون ويغرّبون على بعارينهم» أبو غازي العثمان، أحد أقدم رعاة الإبل في البادية الشرقية للأردن، المصدر: «هذا المخ مسجل معهن» – عن رعي الإبل في البادية
يكمل العم أبو غازي قصته مع الحدود، متحدّثاً كيف أنه كان بمقدوره الرعي بين حدود السعودية والأردن، وما إن يلتقي حرس الحدود حتى يُسأل بلطف: «تريد ماي؟»، «عايز شي؟»، ثم يغيّر العم نبرته ويسأل مستنكراً تغيّر الوضع منذ السبعينيات: «وينهم هسة؟! اللي يقطعهم جاي يهفي (يهلك) واللي يقطع شرق يهفي». في الأخير، يصف العجوز الحكيم الأمر من أصله: «الظروف تغيّرت، كله اليوم بالفلوس، كله مادة، اليوم عصرنا مادة».
من الممكن مقاربة كلام العم أبو غازي من كل جانب: الحداثة، المدينة، رأس المال، الدولة، الحدود. لكن لعل المقاربة الجامعة، في هذه الحالة، فكرة السيادة، سيادة النظام الوطني العربي. كان بإمكان الأردن والسعودية، وتحديداً الأخيرة، السماح بعملية الرعي على طرفي الحدود بسهولة. لكن مسألة البدو والحدود الموجودة بين كل الحدود العربية من الخليج للمغرب العربي، تأخذ منحى معقّداً من منظور السلطة الحاكمة، حيث إن عملية تنقّلهم المستمرة جعلت شملهم تحت سيادة دولة محددة وتعريفها للمواطنة أمراً صعباً. فمن القبائل من انقسمت بين الدولتين، أو حتى -كما في حالة السعودية- تمت هندسة استيطانها ونفي البداوة عنها لتسهل للدولة السيطرة عليها، وفي حالات أخرى مستمرة حتى اليوم هنالك قبائل ضائعة وبدون جنسية.
الموضوع ببساطة وبشكل مباشر؛ أن البريطانيين قسّموا الحدود العربية بشكل ما كان له أن يكون سوى اعتباطي، ومن ثم أعطوا لعائلة قطعة الأرض هذه، وحتى تمارس هذه العائلة سلطتها القانونية وحكمها وتحكّمها ونهبها لثروات هذه البقعة كان عليها فرض السيادة القانونية والعسكرية عليها. المسألة، بدون مبالغة، هي صراع عقارات، لكن لكل عقار في لعبة المونوبولي العربية علم ودولة وهوية وطنية، وبإمكاننا تتبع قصص صراع العقارات هذه، وصدّقوني فإن القصص والمشاكل والصراعات الحدودية العربية ترقى إلى أن تكون نكت جحا تاريخية، ولعل آخرها منذ أسابيع: شكوى السعوديين على الإماراتيين في الأمم المتحدة حول بقعة متنازع عليها سجّلها الإماراتيون كمحمية.
عملية إنتاج هذا الشعب عملية اعتباطية ومصمّمة للاستغفال، على شكل مسرحية تاريخية بمخرج ومعدّين وضباط وعساكر ممثّلين بأزياء عسكرية أشبه بيوم الهالوين
الفكرة هي كما أخبرنا عمنا أبو غازي: الفلوس والمادة. فلكل نظام عربي، خصوصاً الأنظمة الملكية، ولنتذكر أن أصل كل الدول العربية ملكيات، عبارة عن عائلة تسيطر على عقار وتحاول جني الفلوس والمادة منه، ولأن هذا العقار وهبه البريطانيون والفرنسيون ما بعد الانتداب صفة دولة حديثة، فكان عليهم إنتاج وطن داخل هذا العقار. وعليه، عليهم بناء قانون جنسية وغيرها، وحتى يوجد قانون يجب أن تكون هناك سيادة.
بشكل مثير للاهتمام، يصف جوزيف مسعد هذه العملية بعملية «إنتاج شعب»، وهي في جوهرها، إذا ما استثنينا عامل القدوم الاستعماري من أوروبا في مقابل أننا نتكلم عن عرب موجودين في داخل هذا العقار قبل تقسيمه، ليست ببعيدة عن عملية إنتاج «الشعب الإسرائيلي» عبر بناء بنية قانونية، بل للمفارقة أن كيان العدو هو أكثر من يلعب، ويتبنى، بالقوانين العثمانية السابقة للاستعمار البريطاني، لأنه وفي لعبة المونوبولي العربية لليهود الصهاينة بطاقة الجوكر.
يكمل مسعد وصف العملية بتعبير «قوننة الوطن»، وهذه القوننة، من ضمنها قانون الجنسية، هي الخلفية التي تنطلق منها فكرة أي هوية وطنية منتجة، لا وجود لها بهذا الوصف قبل تاريخ القانون. من الناحية العملية تأسّست إمارة شرق الأردن عام 1921 عبر هندسة البريطانيين والهاشميين لقانوني عام 1928: القانون الأساسي وقانون الجنسية. وعبر هذه القوانين تستمد السلطة القدرة على بسط شرعية وسيادة مكانية وزمانية وهندسة وإنتاج شعب اسمه «الشعب الأردني». وهذه العملية، وإن اختلفت أو تشابهت، فهي في جوهرها فكرة إنتاج الشعوب العربية الأخرى من العدم. وعليه، يكون الحفاظ على هذه البنية القانونية وما تنتجه من سردية وعلم وفكرة متخيلة هو مضمون «السيادة»، التي بدورها وعبرها تمكّن الملك الأردني أن يكون ملكاً والسعودي ملكاً وحتى البحريني ملكاً. والملك، بتعريفه هو، ملك الفلوس واحتكار المادة. ولذلك، تمسي مسألة الحفاظ على الحدود هوساً كنزاع عقاري على مدى وصول الملك والسيطرة، فحين تدخل إبل الراعي إلى عقار مختلف يدخل العامل النفسي والهوس للحفاظ على القوة والسلطة والسيادة عبر إطلاق النار عليه.
الأهم من هذا كله، هو أن عملية إنتاج هذا الشعب عملية اعتباطية ومصمّمة للاستغفال، على شكل مسرحية تاريخية بمخرج ومعدّين وضباط وعساكر ممثّلين بأزياء عسكرية أشبه بيوم الهالوين، وكلنا نعلم حب الملوك العرب وأولادهم كثرة النياشين وهم يلعبون دور القائد العسكري، حيث تدخل فيها الغرائزية بشكل أساسي. بل لمن يراقب لباس الملك الأردني ومقاطعه بالسلاح والقوة يكتشف أنه أفشل من مثّل دور الملك والسيادة، فهو حقيقةً -كما يصف صديق- مجرّد «كيس رمل» في المعادلة.
من هذه العدسة علينا رؤية الفيديوهات والأغاني الوطنية العربية وما فيها من استعراض للعسكرة والقوة العضلية، وللمفارقة أن الوطنيات العربية أكثر حواضن الذكورية السامة وتخيلها. فحين يعلن الأردن أن «سلاح الجو الأردني كثّف طلعاته في سماء البلاد ولن يسمح بانتهاك سيادة البلاد»، يتخيّل المغفلون أن هنالك طائرات يقودها رجل أردني ويمثل القوة والشجاعة ويحمي الوطن، بينما واقع الأمر أنه أصلاً منزوع السيادة والجو والأرض للأميركي والإسرائيلي! ففكرة السيادة والرجولة مرتبطة بشكل كبير بسردية مسرحية الوطن وحدوده وحماته، ونستطيع رؤية نص المسرحية في محاولة أوسلو إنتاج سيادة عبر صورة قوات أمن بنظارات شمسية وعضلات مفتولة في استنساخ رديء للوطنيات العربية، وهم، كنظرائهم العرب، عبارة عن جحافل من المغفّلين المخصيين. للباحثين عن النقد المسرحي والمسرحيات فهي هنا، وبتعبير مسعد متسائلاً: من يريدنا تصديق أن عمليات الهندسة الاستعمارية هذه ستنتج لنا فاعلين مناهضين للاستعمار؟ أو أصلاً مستقلين وذوي سيادة وقوة – هذه مسرحية.
على الجانب الآخر، علينا التحفظ أكثر من أي وقت مضى أتحفظ على مهاجمة قيم تحال إلى الذكورة والقوة البدنية والعضلية تحت إطار تعميم الذكورية السامة، فمن يريد 7 أكتوبر، ومن منا اليوم لا يريد تكراره ألف مرة، يحتاج إلى رجال مقاتلين، وبهم تكون السيادة والوطن والهوية الوطنية ونصون عقدنا الاجتماعي المستقل بعيداً عن مسرحية السيادة على المغفّلين.