الردّ بتطوير المواجهة التحرّرية

سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|

شكَّل العدوان الإسرائيلي، على القنصلية الإيرانية، يوم الإثنين الماضي، عنوان تصعيد جديد في الصراع الذي انطلقت حلقته الراهنة، يوم عملية 7 أكتوبر الماضي باسم «طوفان الأقصى». لا شكَّ أن هذا الطور من التصعيد مهمٌّ بحد ذاته. هو استهدف ودمَّر مبنى دبلوماسياً استُشهد فيه عدد من ضباط «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، أبرزهم قائده في لبنان وسوريا العميد محمد رضا زاهدي. هو تصعيد في الاستهداف، وليس استهدافاً جديداً، لأن الطيران الإسرائيلي قد نفَّذ مجموعة متواصلة من الغارات في سوريا ضد ما يسميه «مواقع لإيران» أو لـ«حزب الله». وهو تمكّن عبرها من اغتيال قائد إيراني كبير في «الحرس الثوري» هو العميد رضي الموسوي (كانون الأول الماضي).الواقع أن الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في دمشق، قد كانت، في هذه المرحلة، ذات طابع دفاعي، رغم مظهرها الهجومي الطاغي. لم يكن الأمر كذلك قبل عملية «طوفان الأقصى» قبل ستة أشهر. كانت حكومة نتنياهو، وقتها، في موقع الهجوم «الوقائي» في عملياتها العدوانية في سوريا. كذلك في التهديدات المتكررة عن نية حكومة العدو ضرب المشروع النووي الإيراني في إيران نفسها. اقترن ذلك بسلسلة اغتيالات في العاصمة الإيرانية لمسؤولين على صلة بالبرنامج المذكور بينهم علماء كبار. إلى ذلك، لم تكن أذرع إسرائيل التجسسية بعيدة عن تغذية الاحتجاجات في إيران ودفعها نحو الاستدامة والعنف.
بعد «طوفان الأقصى»، وعلى خلاف ما تميّز به الدور الأطلسي من احتضان للموقف الإسرائيلي، والموقف الرسمي العربي من صمت وتواطؤ، كان الموقف الإيراني حاسماً من حيث شجب العدوان، والسعي إلى تقديم الدعم السريع للمقاومة في غزة. في السياق، حصل، فوراً، فتح جبهة «المساندة» في لبنان. ثم تحرّكت «أنصار الله» في اليمن داعمةً بالنار وبالحصار. كذلك كانت العمليات ضد القوات الأميركية المحتلة في العراق وسوريا بوصف واشنطن راعية تقليدية مزمنة لاعتداءات تل أبيب، وشريكة في تنفيذها، كما حصل، خصوصاً، منذ بدء العدوان الحالي، على غزة.
ركّز الموقف الإيراني على رفض استفراد المقاومة في غزة (بخلاف الموقف الأميركي الذي تحرّك تحت شعار «عدم توسيع المعركة» لضمان الاستفراد)، من جهة، وبالحرص على على إبراز محورية الحضور والعامل الفلسطينييْن في الصراع، والسعي إلى تعطيل محاولة تصويره صراعاً إسرائيلياً إيرانياً، سيستدرج، بالضرورة، حينها، لاعبين آخرين، إقليميين ودوليين: أبرزهم الولايات المتحدة الأميركية! برز هذا الحرص في الحقل الإعلامي، حيث غابت تعبيرات تردّدت في السابق، على لسان مسؤولين عسكريين إيرانيين، حول «نفوذ» طهران في بيروت ودمشق وغزة وصنعاء وبغداد، ما كان يؤشر إلى خلل في المقاربة، وإثارة لبعض الحساسيات، ويصبح مادة استغلال من قبل واشنطن وتل أبيب والمتواطئين والمطبّعين العرب.

ينبغي أن ينطلق الرد من حاجات وشروط تطوير كل المواجهة (بما في ذلك التخلّص من النواقص والثغرات)، لا من الجانب العسكري فقط

أدّى العجز الإسرائيلي عن الوفاء بالتعهدات التي التزمت بها حكومة نتنياهو، بتحقيق «أهداف الحرب» على غزة، مقابل الحصول على دعم كامل سياسي وعسكري من قبل واشنطن وفريقها، إلى استطالة أمد الحرب. تعاظمت الخسائر والأخطاء الإسرائيلية. لجأت القيادة المتطرفة برئاسة نتنياهو، إلى تصعيد مجنون في القتل والتدمير، بحثاً عن انتصار مفقود. هذا فيما كان العالم يتابع، بذهول، الجرائم الصهيونية العمياء، وبالمقابل، الصمود الأسطوري الفلسطيني: قيادة ومدنيين، «قطاعاً» و«ضفة»، ما حوّل العجز الصهيوني إلى مأزق، انكشف بسببه الكيان بوصفه قوة بطش وإجرام واحتلال وإبادة وليس «واحة للديموقراطية» كما كانت تُصوّر دولةُ الاغتصاب من قبل الإعلام الغربي خلال عقود!
صادف ذلك أن الإدارة الأميركية، المنهمكة في التحضير للانتخابات الرئاسية (وسط تقدّم جدّي للرئيس السابق)، والمنهكة مع حلفائها الأوروبيين بإخفاقات أداتها الأخرى في أوكرانيا، بدأت تضيق ذرعاً بالتأثيرات السلبية لفشل حكومة إسرائيل ولوحشية أساليبها التي أثارت حملة شجب عالمية، وفي الولايات المتحدة نفسها، ضد حكومة تل أبيب والإدارة الأميركية، بالدرجة الأولى.
في هذا المناخ الذي شهد، أيضاً، تفاقم التناقضات في الداخل الإسرائيلي، وتصاعد الاحتجاجات ضد الحكومة ورئيسها المتهم بالإخفاق، وبتغليب مصالحه الشخصية، وبتأزيم العلاقة مع واشنطن… حصل الهجوم على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية. أثار ذلك، بسبب طبيعة الاستهداف، وما حمله من التصعيد والاستفزاز، وما سبّبه من الخسائر، أسئلة كبيرة حول التداعيات على مجمل الصراع، وخصوصاً حول الرد الإيراني: كيف ومتى؟؟ ولقد جرى التركيز، عمداً، في جزء من التساؤلات، على الجانب العسكري، دون سواه: وذلك بغرض التشكيك والإحراج والاستدراج وحتى التشفّي. جرت الاستفادة، في هذا الصدد، مما علق في الأذهان، من مبالغات في إطلاق تهديدات، شارك فيها، «بقوة»، الجانب الإيراني. قبل ذلك وبعده، كانت لبعض المنظمات الفلسطينية حصتها، التي توعّدت عبرها بـ«رد مزلزل» لم يُعثر له على أثر مهم، قبل عملية «طوفان الأقصى»، رغم استمرار النضال الفلسطيني تصدياً للاعتداءات الإرهابية الصهيونية في مخيمات الضفة، وقبل ذلك في غزة نفسها.
استُحضرت المبالغات السابقة، فور حصول الغارة، من قبل كل الفريق الأميركي والدائرين في فلكه. كان لبعض اليساريين، في هذا الحقل، إسهام بارز! وهو لا يقع في ما وصفه لينين بـ«مرض الطفولية اليساري»، بل في الإمعان في سلوكيات والتزامات ومواقف تغرف، بلا تحفظ، من القاموس الرائج لأقصى اليمين. إنها من أعراض حالة اليساري «المتحوِّل» الذي يصبح، أحياناً، أحد أسوأ أنواع اليمين عندما تتداخل وتتفاعل في صياغة رأيه وسلوكه عدة عوامل: اليأس العصابي. التشاوف والاستعلاء على الوقائع والحقائق. الاصطفاف الذي يمليه الانتفاع والتملق والتبرؤ من الماضي… فكيف إذا حصل ذلك في مناخ تراكم الخيبات السياسية، والأزمات الاقتصادية الطاحنة والفقر والنهب والإفلات من العقاب من قبل مُسببيها.
مطالبة إيران بالرد هي أمر صحيح. لكن أي رد؟ أولاً، لا ينبغي الانزلاق إلى التسرّع الذي قد يؤدّي إلى مضاعفة الخسائر بدل إلحاقها بالعدو. ثانياً، ينبغي أن ينطلق الرد من حاجات وشروط تطوير كل المواجهة (بما في ذلك التخلّص من النواقص والثغرات)، لا من الجانب العسكري فقط. لقد أعادت عملية «طوفان الأقصى»، بالإجمال، القضيةَ الفلسطينية إلى موقعها الطبيعي كقضية تحرّرية كبرى يحملها شعب مظلوم ومكافح، تدعمه قوى تحرّرية تناضل من أجل أهداف مشابهة في منطقة عانت، ولا تزال، من التسلط والهيمنة الاستعمارييْن. إنه كفاح تحرّري يثير الإعجاب. وهو يغتني حالياً، بالمزيد من الأبعاد الشعبية والسياسية الدولية، وبالدعم والتعاطف، بما يضع الصهاينة وحماتهم في قفص الاتهام: بالإجرام والإبادة والهمجية.

 

* الأخبار اللبنانية.

قد يعجبك ايضا