جوهر التحرّر العربي: مواجهة مشروع الصهاينة وحماتهم
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
ردَّد مسؤولون إسرائيليون، خصوصاً منذ الشهر الثالث على العدوان البربري على غزَّة، بأن إسرائيل تمر بمرحلة «مصيرية» أو «حاسمة». البعض يعلن ذلك من قبيل تبرير حرب الإبادة التي تشنها قوات العدو، وتأكيداً على المضيّ فيها حتى الانتصار «المطلق» كما ذكر المجرم نتنياهو بعد «كارثة المغازي». لكن بالنسبة إلى البعض الآخر، وربما الأكثرية، فحينما تصف الوضع الراهن بـ«المصيري»، إنما تفعل ذلك من قبيل القلق والهلع بشأن المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني نفسه. أسباب عدة، موضوعياً، تقود إلى هذا النوع من الشعور. وهو في المناسبة، قلق عرفه مسؤولو كيان العدو، لمدة، بعد انطلاق حرب عام 1973 حين حطَّم الجيش المصري «خط بارليف»، وتقدّم الجيش السوري في معظم الجولان: – أولها، عملية السابع من أكتوبر نفسها التي كانت صاعقة ومدوية.
– السبب الثاني، عجز الجيش الإسرائيلي، بعد 110 أيام على بدء الحرب، عن تحقيق أي إنجاز عسكري يُعتدّ به. هذا يعني، بالضرورة، عجزه المتفاقم عن تحقيق أهداف الحرب الثلاثة التي أعلنتها أركان السلطة، وهي: القضاء على «حماس» والمقاومة، استعادة الأسرى، عدم تكرار عملية 7 أكتوبر. كما يعني سقوط ما كسبه، أو نسبه لنفسه، من قدرة على الردع والحسم السريع وفائض القوة لحماية المطبّعين أيضاً!
– السبب الثالث، طول مدة الحرب، وهو استثنائي، وحجم الخسائر، البشرية والعسكرية والاستخبارية والاقتصادية… وهو هائل وإلى ازدياد، ما يرجح، إلى حد كبير، هزيمة إسرائيل في هذه الحرب، مهما أصرت وعاندت حكومة أقصى اليمين والتطرف والفاشية.
– الرابع، هو تعدد الجبهات التي فتحت على العدو وعلى أقرب حلفائه: على الحدود اللبنانية، وفي اليمن والبحر الأحمر، وفي العراق وسوريا (على القواعد الأميركية)…
– الخامس، أن «الإنجاز» الإسرائيلي الوحيد، في التدمير الهائل لكل أسباب الحياة ومظاهرها في قطاع غزة حجراً وبشراً وخدمات… بما هو محاولة تهجير وإبادة جماعية، تحوّل، بشكلٍ متصاعد وسريع، سلاحاً ذا حدَّين. حدّة الثاني، هو تلك الحملة العالمية الصاخبة التي اجتاحت عشرات البلدان، وخصوصاً الغربية، والتي شارك فيها ملايين الأشخاص للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإدانة الهمجية الصهيونية وداعميها والمشاركين، وخصوصاً واشنطن.
– السادس، هو الانقسام الداخلي في إسرائيل، قبل 7 أكتوبر وبعدها. وهو انقسام بين العسكريين والسياسيين، وبين المتطرفين الفاشيين واليمين العنصري التقليدي. تضاف إلى ذلك المشكلات والمتاعب الشخصية لرئيس الوزراء في تقاذف مسؤولية الإخفاق مع العسكر، وفي ملفه القضائي، وارتهانه للمتطرفين الفاشيين.
بشكل مباغت للعدو وشركائه في المقتلة، جاءت الشكوى التي قدمتها حكومة جنوبي أفريقيا لمحكمة العدل الدولية
– السابع، والمهم أيضاً، فإنه بنتيجة الوحشية الصهيونية، من جهة، وتضحيات وبطولات مقاومي غزّة والصمود الأسطوري لشعبها، من جهة ثانية، فقد سقط القسم الأكبر من أكاذيب الكيان وحماته، بشأن طبيعة الصراع وموقع الكيان الصهيوني فيه، وخبرية «الدفاع عن النفس» التي تبنّاها الرئيس الأميركي بايدن وقادة «الأطلسي»، وهم يهرعون إلى تل أبيب: وكأن المقاوم الفلسطيني هو المحتل والمعتدي، وليس الكيان الصهيوني، ومنذ ثلاثة أرباع القرن!
كل ذلك، وسواه، بلور تحوّلات مهمة واستثنائية لجهة إدانة الفاشية العنصرية الصهيونية، من جهة، وفهم جوهر الكفاح الفلسطيني بما هو مقاومة احتلال إحلالي تصفوي لا يتورع، بدعم من الغرب الاستعماري، وواشنطن خصوصاً، عن شن حرب إبادة شاملة ضد الشعب الفلسطيني. لعل أبرز ما يوضح ذلك موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخصوصاً في موقف أمين عام الأمم المتحدة الذي بكّر في العودة إلى الأسباب التي قادت إلى 7 أكتوبر. وهو واظب، رغم السوقية والوقاحة والتهديدات الإسرائيلية، على فضح الكيان الصهيوني الذي يرتكب على حدِّ وصفه مجازر «غير مسبوقة في التاريخ»! (هل يغتالونه؟!). يتضح ذلك حتى في موقف الاتحاد الأوروبي. فهو، رغم انحيازه التقليدي لإسرائيل، وتبعيته لواشنطن، اضطر، تحت وقع المجازر وحرب الإبادة وهولها، وضخامة التظاهرات في دوله، المؤيدة للمقاومة الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني، إلى المطالبة بضرورة إقامة دولة فلسطينية. ولقد بلغ بمسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد أن يتساءل: «ماذا تريد إسرائيل؟ تهجير الفلسطينيين أو قتلهم»! بمعزل عن الجدية ومدى الالتزام، فإن هذا الموقف يتعارض مع المشروع التوسعي الصهيوني ووظيفته في المنطقة: أداة للهيمنة الاستعمارية وهراوة ضد استقلال شعوبها وسيادتها وتقدمها. في السياق. وبشكل مباغت للعدو وشركائه في المقتلة، جاءت الشكوى التي قدمتها حكومة جنوبي أفريقيا لمحكمة العدل الدولية. وهي شكوى حاصرت العدو وفضحت أكاذيب دائماً ما نجح، بدعم واشنطن والحكومات الغربية، بتعميمها إعلامياً، كحقائق: بزعم أنه واحة للديموقراطية وحقوق الإنسان والتقدم والحضارة والتفوق والريادة والقوة!
لا جدال بأن نقطة الضعف الأساسية كانت قبل 7 أكتوبر وبعده، في الموقف الرسمي العربي: في التخلي والتطبيع والتواطؤ والإذعان. رغم ذلك، فرضت الوقائع والأسباب التي أوردناها، بعض التقدم الخجول في بيان الاجتماع «الاستثنائي» الأخير للسفراء المندوبين الدائمين لدول الجامعة العربية. انتقد البيان «الدول التي تزوِّد إسرائيل بالسلاح والتي تعتمد ازدواجية المعايير» واعتبر تلك الدول «شريكة في المسؤولية عن الجرائم التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني»، لكن سقط سهواً (!)، أو فات المجتمعين، مساءلة بعض زملائهم في الاجتماع، بشأن استمرار العلاقات والتطبيع مع العدو، وكذلك بشأن تزويده بما يحتاجه بعد إقفال البحر الأحمر (من قبل سلطات صنعاء)، في وجه السفن الإسرائيلية أو تلك المتوجهة إلى إسرائيل!
قال زعيم المعارضة الإسرائيلية أخيراً: «الإسرائيليون يشعرون بالهزيمة والانكسار ويطرحون أسئلة مُرّة حول المسؤول عن الهزيمة والخسائر». لم يكن مثل هذا القول وارداً، أو حتى ممكناً، خصوصاً بعد موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وآخر «فرسانها» ولي العهد السعودي! بل إن ما ردده بعض قادة محور المقاومة بشأن إمكانية هزيمة ذلك الكيان، قد كان موضع استهجان أو تندر. لقد أكّدت عملية السابع من أكتوبر، بما هي محطة باهرة وانعطافية في الكفاح الفلسطيني والعربي مع العدو الصهيوني والمستعمرين القدماء والجدد الذين تعهدوا تأسيسه ومده بوسائل الحياة والعدوان، أن الصراع مع هؤلاء ومع المتواطئين معهم، هو جوهر النضال والفعل التحرريين الشاملين في هذه المرحلة التاريخية برمّتها. لقد أكّدت هذه العملية، وسواها من المحطات المنتصرة وخصوصاً في هزائم العدو في لبنان، كما التجارب المنتصرة ضد المحتلين في كل مكان، حقيقة أنه لا يضيع وطن أو حق وراءه شعب مقاوم: وإن غلت التضحيات وطال الزمن!