بلينكن: خطّة استفراد غزّة وعزل إيران
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
لا يُحسد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على وضعه في هذه المرحلة. هو أنجز، هذا الأسبوع، زيارته الخامسة إلى إسرائيل، وجولته الرابعة في المنطقة (منذ عملية «طوفان الأقصى» في 7 ت1 الماضي)، وسط ظروف صعبة، بل بالغة الصعوبة. الرجل الذي لم يتردّد في القول، مجهشاً ومنفعلاً، في زيارته الأولى لتل أبيب بعد أيام من «طوفان الأقصى»، إنّه «جاء كـيهودي» قبل أن يكون وزيراً للخارجية الأميركية، مطالبٌ الآن بإنجاز مهمتين معقّدتين. الأولى دفع تل أبيب، الموتورة والجامحة، لعقلنة أولوياتها وخططها وأساليبها. الثانية: تمكينها من حصر خسائرها (وخسائر حلفائها وخصوصاً واشنطن)، عبر الضغوط والوعود، من تحقيق بعض أهدافها، بالوسائل السياسية بعد أن عجزت عن تحقيقها بالوسائل العسكرية: رغم ما ارتكبته من المجازر والحصار والتجويع ومحاولة التهجير الشامل الذي اصطدم بصمود مذهل من قبل الأهالي، وبمقاومة مدهشة من قبل المقاتلين. قلنا لا يُحسد على مهمته هذه، بسبب أنّ واشنطن كانت قد انتقلت إلى «الخطة ب»، منذ جولته الأخيرة في المنطقة، قبل عدة أسابيع، وبعد الإخفاقات الإسرائيلية العسكرية والخسائر «المؤلمة» (كما وصفتها القيادة الإسرائيلية) في قطاع غزّة. لم تفعل تلك القيادة، مذّاك، سوى مراكمة المزيد من الإخفاقات، وارتكاب المزيد من الجرائم المروِّعة، بشكل متواصل ضد المدنيين والمؤسسات الصحية والإعلامية والدينية والتربوية والإغاثية المحلية والدولية، ما أثار حملة إدانة عالمية هائلة، لم تسلم منها واشنطن نفسها: بوصفها داعمة وشريكة ومحرّضة على القتل وعلى استمراره أملاً في تحقيق انتصار ما، لكلّ من واشنطن نفسها ولتل أبيب ولحلفائهما في الأطلسي والمنطقة.
حرجُ الوزير الأميركي ناجم عن أمرين: أولاً موقفه الشخصي الذي يفضحه لسانه دائماً بتبرير الإجرام الإسرائيلي بذريعة «هول» ما حدث في 7 أكتوبر، ولمنع تكراره. هو لا يرى هول حرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضدّ كل أشكال الحياة في القطاع الفلسطيني! لا يرى أيضاً أسباب انتفاضة غزة على الإرهاب الإسرائيلي المفروض عليها، وما كان يرافقه من احتلال وانتهاكات وحصار وغزوات وقتل ودمار. ولذلك، يجد نفسه في موقع المدافع المباشر عن استمرار المجازر وتصعيدها. يضاعف من حرجه، أيضاً، موقف إدارته التي غطت وبرّرت وحمت وقاتلت من أجل إطلاق يد حكومة إسرائيل في ارتكاب المجازر ضد المدنيّين وفي حماية تلك الجريمة، في كل المحافل وخصوصاً في مجلس الأمن والجمعية العامة رغم العزلة والإدانة والسقوط الأخلاقي. لقد ذهبت واشنطن، بعيداً، في دعم الدولة الصهيونية: سياسياً وعسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً وديبلوماسياً، حتى وجدت نفسها، مع تعاظم الخسائر والإخفاقات الإسرائيلية، الخاسر الأول، حتى قبل الكيان الصهيوني، كما أشار الرئيس الأميركي نفسه في تصريح يوم 12 كانون الأول الماضي: «هناك مخاوف حقيقية في مختلف أنحاء العالم من أن تفقد أميركا مركزها الأخلاقي بسبب دعمنا لإسرائيل»!
في السياق، تكرَّست صورة الوزير بلينكن كمستسهل لتكرار روايته، حتى بات يُصنّف «بيّاع حكي» وكاذباً من الدرجة المبتذلة، والأخطر: نذير شؤم ودمار ومذابح أطفال، وحصار وجوع ومرض وأوبئة وتشرُّد!
لم تغيّر حكومة أقصى اليمين والتطرف والعنصرية في الكيان الصهيوني من خطابها وخططها ارتباطاً بإخفاقات الميدان، وبتعاظم خسائرها وخسائر الحلفاء. أصبح من أولويات واشنطن الحدّ من الخسائر وإنقاذ إسرائيل من نفسها. هذا هو جوهر وظيفة الوزير بلينكن في زيارته الأخيرة. جرت العادة، سابقاً، أن تخوض إسرائيل حروبها بدعم كبير من واشنطن خصوصاً، في مرحلتي حصول الحرب وإنهائها. كانت حروب إسرائيل السابقة قصيرة. قليلة التكلفة. محدودة الخسائر البشرية على وجه الخصوص. هذا يجري عكسه الآن، ولذلك مهمة واشنطن أعقد وأصعب، بما لا يقاس. عام 2006، واجهت الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تحرَّكت لغزو لبنان تحقيقاً لأهداف أميركية، بالدرجة الأولى، مقاومة ميدانية عنيدة، وصعوبات مفاجئة وخسائر فادحة. وحين تعاظمت تلك الصعوبات، تولَّت واشنطن العمل لإيقاف القتال بعد أن كانت تعمل لإطالة الحرب. هي سعت، بكل الطاقة، إلى تمكين حكومة إسرائيل من تحقيق جزء من أهدافها، بالديبلوماسية وبالنفوذ إقليمياً وفي المؤسسات الدولية، بعد أن عجزت عن تحقيقها في الميدان. هكذا جاء القرار 1701، بتواطؤ أيضاً من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة آنذاك، متوافقاً مع المصلحة الإسرائيلية، لجهة الانتشار على الحدود اللبنانية فقط، ولجهة خطوط الانسحاب ونقاط التمركز. هذا ما تحاوله واشنطن، عبر الوزير بلينكن الآن، ومنذ زيارته السابقة، وعبر الاتصالات المتوتّرة بين الرئيسين بايدن ونتنياهو، وعبر الوعيد والوعود في زيارات الوزراء والموفدين الأوروبيّين تحت عنوان عدم «توسيع الحرب» أو منعه، خصوصاً في جبهة الجنوب اللبناني. ما هي خطة الوزير بلينكن؟ من هي الأطراف التي تبنّتها أو تلك التي ستشارك فيها؟ ما هي فرص النجاح والفشل؟
تبلورت هذه الخطة، في ضوء تطورات الميدان، وخصوصاً تأكُّد الفشل والعجز الإسرائيليّين، على النحو الآتي:
1- تشكيل فريق إقليمي من تركيا والسعودية والأردن وقطر ومصر والإمارات (أعلن بلينكن بعد لقاءاته «التزام» تلك الدول) للإشراف على عملية سياسية أمنية إعمارية، تبدأ من شمالي قطاع غزة، وتمتدّ، تدريجياً، إلى الوسط والجنوب.
2- عودة حوالى 800 ألف نازح من شمالي القطاع إلى مدنهم وقراهم.
3- تبنّي اقتراح قطر (المنسّق مع بلينكن) لاستئناف مفاوضات تبادل الأسرى على دفعات، وإخراج قيادة المقاومة من القطاع، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية منه.
4- يتولّى ممثلو الدول المشاركة تنظيم عملية العودة ومستلزماتها الأكثر إلحاحاً وضبطها وتمويلها لجعل الحياة ممكنة، تدريجيّاً، بعد أن أصبحت منعدمة كلياً في الحالة الراهنة.
5- تهدئة وضع الضفة الغربية مقرونة بتغييرات في قيادة السلطة، بضم شخصيات «موثوقة» في مواقع أساسية.
6- إدراج ذلك تحت عنوان وقف الحرب، ومساعدة المدنيّين، وإبعاد «حماس» و«الجهاد» وعدم تكرار عملية السابع من أكتوبر، وإبعاد شبح التهجير، وإراحة مصر والأردن، وإعطاء مهلة إضافية للحكومة الإسرائيلية للقبض على قيادة المقاومة، أو لتصفيتها، إذا تمكّنت.
7- إدراج ذلك تحت عنوان التحضير لـ«حل الدولتين» وقطع الطريق على إيران.
رغم ألغام هذه الخطة وتلبيتها، تقريباً، لمعظم المطالب الإسرائيلية، فإنّ مهمة بلينكن لن تكون سهلة، بسبب التطرّف الحاكم في إسرائيل. واشنطن تعوّل، كالعادة، على خدمات حلفائها وأتباعها في المنطقة وتنازلاتهم. «طوفان الأقصى»، الذي فاجأ الجميع، لن يمرّ من دون إزعاج على أولئك الذين يجدر بهم أن يحذروا من أنّ العقاب قد يكون شديداً هذه المرة!