علامات فارقة في «طوفان الأقصى»: فلسطين تفرض وقْعها

حسين إبراهيم – وما يسطرون|

لا يزال ما جرى في قطاع غزة في السابع من أكتوبر، وكذلك ما يحصل منذ ذلك الحين، يحتاج إلى كثير من التفسير، الذي قد يتعيّن انتظار التحقيقات التي يجريها العدو، لتسليط بعض الضوء عليه، باعتبار أن المقاومة ليست معنيّة بكشف أوراقها أمام العدو، ولا حتى الصديق. لكن تلك القدرة على الإدهاش المستمر مذّاك، تمثّل تطوراً نوعياً في أداء المقاومة طوال تاريخها، بما فيه التاريخ القريب جداً، والخاص بالفصائل نفسها، أي معركة «سيف القدس» في أيار عام 2021، والتي لم تخرج عن الأداء العام الذي نعرفه للمقاومة ضدّ إسرائيل، في ساحاتها المختلفة، وهو قتال كان في الأصل متميزاً عن القتال في أيّ من الحروب الأخرى، باعتباره من أجل قضية واضحة العدالة، بالمقارنة مع غيرها من القضايا. الأنفاق التي اكتشف العدو النزر اليسير منها بعد أكثر من عشرة أسابيع على القتال، تفسّر جزئياً الأداء المريح للمقاتلين، لأنها توفّر قدراً كبيراً من الحماية، وتتيح مرونة في الحركة لدى هؤلاء الذين يخرجون منها لتنفيذ ضربات ضدّ أهداف محدّدة، ثمّ يعودون إليها. ولكن الصور التي وزّعها الاحتلال لما اكتشفه منها، تزيد الحيرة، لتصبح تلك الأنفاق هي نفسها بحاجة إلى تفسير: كيف أمكن لمقاومة محدودة الإمكانات في قطاع من بضعة مئات من الكيلومترات المربعة، محاصر منذ غادره الاحتلال عام 2005، بناء مثل هذه الشبكة التي يسمّيها العدو «مترو غزة»، ويقول بعض الخبراء إنها أكبر من شبكة «مترو أنفاق لندن»، من دون أن يمتلك أيّ فكرة عن خرائطها، رغم شبكة العملاء التي يمتكلها في كلّ مكان؟

الحرب البربرية على القطاع، تفسّر جانباً آخر من شراسة المقاومين، لأنها تدفعهم إلى الرغبة في الانتقام لما يحصل لذويهم وأقاربهم على يد جيش الاحتلال. كما أن تخييرهم من قِبل الأخير بين الاستسلام والموت، يُلزمهم بالبحث عن خيار ثالث، فيه حياة لهم ولشعبهم، عبر القتال حتى النهاية لصدّ العدو، وفرض الانسحاب من القطاع عليه، وإطلاق سراح كلّ الأسرى في سجونه. تمكّن هؤلاء المقاتلون القلّة من تغيير الكثير على مستوى العالم منذ عملية «طوفان الأقصى»، فيما قوى الغرب التي تغطّي الطمع الإسرائيلي في إلحاق هزيمة كاملة بالمقاومة، وتُزايد عليه، لا تستطيع مداراة فضيحتها المزدوجة أمام رأيها العام الذي انتفض انتصاراً للمظلومين في غزة، مرّة عبر العجز عن تبرير وحشية إسرائيل التي تُرتكب باسم التحالف الغربي كلّه بحق أطفال ونساء، وبالأسلحة الفتاكة الواردة أخيراً من الولايات المتحدة وغيرها، ومرّة أخرى عبر فشل هذه الآلة العسكرية في إلحاق هزيمة بهؤلاء المقاتلين أو تحقيق أيّ أهداف من تلك التي رفعتها في بداية الحرب.

ما يشهده العالم من موجة تعاطف مع القضية الفلسطينية، لا ينطلق فقط من عدالة تلك القضية، وإنما من تقاطع ذلك مع فهم أكبر لدى الرأي العام العالمي لطبيعة النظام الغربي المتوحّش، الذي يعتاش على الحروب والأزمات، بخاصة لدى الأجيال الشابة، التي كانت قد ضيّقت الحرب الدائرة في أوكرانيا وما رافقها من أزمة غلاء عالمي، سبل العيش عليها. وحتى وإن كانت الولايات المتحدة قد استطاعت أن تقنع الرأي العام في الغرب إلى حدّ كبير، بأن حرب أوكرانيا هي حرب دفاع عن «منظومة القيم» التي يخبّئ الغرب خبثه خلفها، وعن رفاه هذا الجزء من العالم، وهو رفاه قائم على نهب ثروات الآخرين، إلّا أنّ الفشل فيها أدى إلى نتيجة عكسية، إذ وجد الإنسان الغربي نفسه في وسط المعاناة، مقابل لا شيء.
وما زال الصراع الذي كان قائماً منذ عشرات السنين بين الغرب وباقي العالم قائماً، ولكن نوع التصدّي يختلف. في الماضي، أدى ذلك إلى قيام ثورات أو انقلابات عسكرية في عشرات الدول باسم العداء للإمبريالية. والآن، ثمّة موجة عالمية للمطالبة بالعدالة. ولأن القضية الفلسطينية هي الأكثر عدالة في العالم، اليوم كما بالأمس، فإنها تحوّلت إلى قِبلة لرافضي الظلم في المعمورة كلّها. وإذا جاز الحديث عن رموز للتعبير عن تلك الموجة العالمية، فسيحتلّ علم فلسطين والكوفية المرتبة الأولى. والواقع أن القتال الفلسطيني الذي نشهده اليوم يؤثّر ويتأثّر بما يجري في العالم؛ فهو يستلهم روح التمرّد السائدة ضدّ الحكومات الغربية، الحليفة لإسرائيل، ذات الحروب التي لا تنتهي، ولكنه في الوقت نفسه يُلهم، إلى جانب مشاهد الأشلاء والدمار، احتجاجاً تحتّمه الطبيعة الإنسانية على بربرية تعصى على التفسير، يشارك فيها الساسة في الدول المُشار إليها. وربّما كان التأثر بالمناخ العالمي واحداً من أهم الأسباب التي تحفّز القتال العالي الأداء في غزة، أو هو على الأقلّ المتغيّر الأهم عن حروب المقاومة السابقة التي عرفناها ضدّ العدو.

ثمة متغيّر آخر مهم، هو أن حرب تحرير فلسطين، بعد «طوفان الأقصى»، تجري على الأرض الفلسطينية، حيث لا يستطيع حتى من لا يحبّون المقاومة الوقوف في وجهها علناً، أو اتّهامها بالانحراف عن أهدافها للحصول على سلطة هنا أو مغانم هناك. أمّا المتغيّر الثالث، فيتعلّق بالتمرّس، إذ استفادت المقاومة من تراكم تجارب عمرها عشرات السنين لكلّ حركات المقاومة ضد إسرائيل، ومن تحالفات استطاعت عبرها الحصول على أسلحة وإمكانات ما كانت لتمتلكها لولاها. لكلّ ذلك مجتمعاً، عادت فلسطين إلى الوجدان في العالم بشكل لم تَكنه من قَبل أبداً، فلم يسبق أن كانت قضية ساخنة في «هوليوود» مثلاً مثلما هي اليوم، ولم يسبق أن كانت لها أغانٍ عالمية، كما في حالة الأغنية السويدية «تحيا فلسطين» التي ألهبت حماسة الملايين في أنحاء العالم، أو الأغنية الريفية الجميلة «اسمي فلسطين» للمغني البريطاني، غارث هيويت.

بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب، يمثّل الأمر خليطاً بين روح الثورة لدى الجيل الجديد من المقاتلين والحنين لدى قدامى المقاومين. استعاد كثيرون أغاني وأناشيد الثورة الفلسطينية التي ظنّوا أن وهجها خبا مع تراجع القضية الفلسطينية، ودفعهم اليأس إلى نسيان مفرداتها. هذه الحرب أعادت الشعوب العربية التي مزّقتها الحروب إلى التحدث بلغة واحدة، بعدما فرّقهم التآمر. ولذا، فإن ما حصل في 7 أكتوبر كان يوماً أسود لا لإسرائيل وحدها، وإنما للصهيونية العالمية والساسة المتآمرين معها في العالم وعندنا.

 

قد يعجبك ايضا