نعم.. أبحروا إلى القدس، ثمّ كانوا أوّل الواصلين!
مصطفى عامر – وما يسطرون|
لقد أخبرتكم سابقًا، اليمنيُّ لا يخاف الموت! إنّه يُبحر إليه! يصطاد الموت كما يليق بالرّجال، ويذهب إلى الله دائمًا مرفوع الرأس!
الشهادة بالنسبة إليه أمنية، كنزٌ غالٍ، إنّه يفتش عنها في كلّ مكان، في برّ الله وفي أعماق البحر! منذ بدء التّاريخ وحتّى قيام الساعة!
واليوم ذهب ثلّةٌ من المُخلَصين رجال الله، ركبوا قواربهم بسم الله مجرىها، وانطلقوا في رحلتهم إلى فلسطين، أو إلى الجنّة!
كيف نحزن إذن وحقّ لنا الفخر! كيف نكتب رثاءً لمن فاز بالموقف الأشرف، والدار الأفضل، والفخر الأبديّ، واقتنص الحياة.. كلّ الحياة!
فلتشهدي يا فلسطين أنهم يحبّونك، لقد نثرنا كنانتنا أمامنا واخترنا لك أشجع النّاس، وأنقى وأطهر وأشرف النّاس! فرزناهم فرز اللؤلؤ ونادر العقيق، جمعنا لكِ ذروة ما في السّنام، من أعلى الجبال ومن كلّ شجرةٍ درّة التاج.. ثمّ ألقيناهم في اليمّ.. ثمّ لم يكن قلبنا يا فلسطين فارغًا.. فلتذهبوا يا أخوال الوادي ويا أبناء الجبل، فلتذهبوا إلى كلتا الغاليتين يا أطهر من فينا:
فلسطين، والجنة!
هل نبكي! لا والله! نحن لا نجيد البكاء يا فلسطين.. يا قرّة العين! إلّا إذا قصّرنا! لكنّنا ندّخر الغضب! نبذره في حقولنا وفي صدور الرّجال! ثم إذا أينعت الرؤوس وحان موعد القِطاف، أهديناهم لعينيكِ تينًا ولقلبك زيتونا، وأرسلناهم على عدوّك شواظًا من نار!
هااا.. يا قواربنا إلى الله! كيف أنتم أيّها المُبحرون قبلنا، والواصلون قبلنا، ويا من سبقتمونا إلى الشّرف الرّفيع تقدّست دماؤكم، حمراءُ والبحرُ مثلها أحمر، والجمرُ في قلوبنا عيونه حمراء، ويا من رفعتم رؤوسنا إلى السّماء السابعة.. ها نحنُ، تسير قواربكم فوق جبالنا ترافقها سحابتان، وقلوبنا فخورةٌ تدكّ الأرض قدمًا واحدة، ترفع كفّها كما ينبغي، وحين تودّع أرضنا أبطالها فإنّها تعرف كيف تؤدي- كما تعرفون- تحيّتها العسكرية!
ثمّ أنّنا يا أمريكا لا نمزح! لا نعرف يا أحقر ما لفظ التاريخ كيف نمزح! لقد علّمونا أجدادنا العظام أن المزاح قلّة أدب، “عار” الرّجال! وقد شاء الله أن يُباعد بين العار وبيننا “بُعد الأرض عن جو السّماء”!
لهذا فعليكم أن تأخذوا كلامنا على محمل الجد! نحن نحبُّ أن نذهب إلى الله، لكننا نحب أن نذهب إليه برؤوسٍ مرفوعة، بقضيّةٍ هامة! لهذا فرجالنا لم يُبحروا إلى الله على سبيل المزاح!
نكرّرها ونحن نعرف أنكم لن تفهمونا، ولكنّنا نكرّرها إبراءّ للذمة وحتى يكون “الوجه من الوجه ابيض”!
نكررها ونتمنى ألا تفهمونا! نكرّرها ونعلم يقينًا أنكم لن تفهمونا! لأنكم يا حثالات الأمم ويا لقطاء التّاريخ والجغرافيا لن تفهموا كيف يفكّر النّبلاء، وكيف يُهدّد النبلاء، وكيف ينفّذون تهديداتهم، وكيف أن كلمهتم سيفٌ لا يرتدّ إلى غمده بدون دم! وكيف يتسابقون مع الريح لمقارعة الموت! ثم ينتصرون عليه في كلّ مرة!
لن تفهمونا لأنّكم أدنى شأنًا وحضارةً من أن تفهموا فلسفتنا في مقارعة الموت! لأنكم لا تعرفون كيف أنّ اليمنيّ حينما يذهب إلى الله مرفوع الرأس فهذا لا يعني أنّ الموت تغلّب عليه! بقدر ما يعني، وبالضّبط، أن نصر اليمنيّ على الموت كان عزيزا، أنّ نصره عليه كان أكبر وأكثر حسمًا ممّا لو عاد بعد المعركة إلى البيت!
نفهم، وهذا ما لا يمكنكم فهمه، أنّ الموت يغلبك في حالةٍ وحيدة: إذا فررت منه! إذا حدث مثل هذا الأمر فإنه سيغلبك في كلّ يوم، يذلّك في كلّ لحظة!
لهذا فالموت في اليمن ضعيف الشأن! لا يخافه باستثناء أراذلنا أحد! وأرض اليمن على أية حال تلفظ أراذلها في أقرب فرصة، هي أمٌّ طاهرة، كما أنّ أبناءَها حُمران العيون، وبالتأكيد فإنّ حليبها لم يكن يومًا منزوع الكرامة!
لهذا فتذكّروا تاريخ اليوم جيّدًا، لقد حدث في آخر أيام ٢٣م أن خاضت اليمن أعظم معاركها منذ بدء طوفان الأقصى، لقد نصرنا اليوم نصرًا عزيزا، لقد ذهب اليوم فتيةٌ أمنوا بربّهم إلى الله، ذهبوا إلى الرحمن عنّا وفدًا، أعدّوا لهذه الرحلة عدّا، وسافروا إلى الله يحملون معهم إيمانًا ومجدا، صارعوا الموت في طريقهم وانتصروا عليه! أغرقوا الموت في الماء، وفازوا بالحياة الخالدة!
ذهبوا وأبواب السّماء مفتوحةٌ كما يليق: أتاكم يا معشر السّماء أهل اليمن، هم أرقّ قلوبًا على إخوانهم، وألين أفئدة، وهم على العدو نار الله الموقدة!
ذهبوا إلى الله، وفي الطريق إلى الله وجدوا أطفالًا من غزة يسلكون ذات الطريق! ألعابهم وابتسامات الفائزين! نساءً ورجالّا في الموعد المحدد، بالضبط! إنّه موكبُ المُكرمين!
وها نحن! يا أمّنا فلسطين! اشتقنا، سبقنا إليكِ أكرمنا! فاغمريهم بنظرتك الحانيّة يا أمّنا فلسطين: إنهم أبناؤكِ يشبهونكِ كرامًا، وقلوبهم مثل عيونك يا أمّنا صافية!
ملء السّماء! هل تسمعون الأهازيج مثلي؟ مرحبًا بالذين وعدوا ثمّ لم يخلفوا، طبعوا وجوههم لفلسطين: أبشري بعزّك! ولم يقصّروا!
إنهم لا يطلقون وعودهم في الهواء، ذهبوا وتركونا نكمل المهمة: سنقلع عينيك يا أمريكا- وأيمُ الله- ونهشّم أنفك..”واجعليها- إن شئتِ- حرب كبرى عالميّة”!
سنفعلها بقوة الله، وردّها علينا يا بايدن إن استطعت!
كم سنحتاج يا أميركا ويا أذيالها ويا أيها الكيان القذر، ويا أراذلنا الذين “لا يستحون”! كم سنحتاج لتكرارها يا غثاء التاريخ ويا سِفْلَة القوم:
نحن قومٌ لا نمزح، ولا نحبّ المزاح!
وها قد ذهبوا إلى الله، بهاماتٍ مرفوعةٍ لأنّهم قومٌ يستحون! وإذا قالوا فلا يمزحون، وتركّوا “من ينتظر” ليلقّنكم الدّرس ألف مرة، ويمرّغ أنوفكم بالتّراب حتّى يملُّ من أنوفكم التُراب! أو يذهب- كما يفعل الرجال- مرفوع الرأس إلى الآخرة!
ذهب اليوم فتيةٌ آمنوا، إلى الله لا إلى الموت، ذهبوا أحياءً “عند ربّهم يرزقون”!
ذهبوا إلى القدس ثمّ لم يكونوا شهداءً على الطريق!
وإنّما كانوا- رغم أنف أعدائها- أوّل الواصلين!
ذهبوا إذن، ودّعناهم بفخر، وقفنا قليلًا على الشاطئ، واستأنفنا- كما نفعل منذ بدء التاريخ- تجهيز قواربنا!