الحاجة إلى الاستنفار
بدر الإبراهيم – وما يسطرون|
هذه ليست جولةً كسابقاتها في غزة. إنها معركة غير عادية. لم يكن ما حدث في السابع من أكتوبر عادياً، وما تلاه ليس عادياً. شعر الإسرائيليون بحجم الضربة التي تعرّضوا لها، ما جعلهم يتحدّثون عن «حرب استقلالٍ ثانية»، ورغم خلافاتهم الداخلية (التي ستستعر أكثر بعد الحرب) فإنهم مجمعون على خوض هذه الحرب من أجل الحفاظ على وجود الكيان. الوحشية الإسرائيلية في هذه الحرب لا تعبّر فقط عن رغبة في الانتقام والتشفّي، وإنما عن عودةٍ صارمة لجوهر هذا الكيان وأساس وجوده: الإبادة والتطهير العرقي. هكذا يعيد الكيان الصهيوني اكتشاف ذاته الاستعمارية الإحلالية في حرب «استقلاله» الثاني.يدفع إسرائيل لخوض حربها بهذا الشكل أمران وجوديان: استعادة ثقة المستوطنين الصهاينة بمؤسستهم العسكرية، واستعادة وظيفية الكيان نفسه في المنظومة الغربية الاستعمارية.
حين يفشل هذا الكيان في توفير الأمن لمستوطنيه، وحين يخفق في سحق المتمردين على الغرب الاستعماري في هذه المنطقة، فإنه يفقد الأساسات التي يقوم عليها وجوده. الاستنفار الإسرائيلي الناتج عن استشعار الخطر على الوجود يجعل القياس على جولات حربٍ سابقة في غزة غير دقيق في كثير من الأحيان. في هذه الحرب يستهدف الإسرائيلي قتل الناس وحصارهم وتجويعهم بشكل غير مسبوق، ويقصف المستشفيات بصورة غير مسبوقة، وهو أيضاً يسعى إلى التهجير والخلاص من أصحاب الأرض. يقوم الإسرائيلي بتهيئة جمهوره لتحمّل ما لم يعتد على تحمّله سابقاً، مثل الاستمرار في الحرب لفترة أطول، وتقبّل خسائر مادية وبشرية أكبر. كل هذا يعكس استنفار إسرائيل، ومن ورائها الغرب الاستعماري، في معركة يراد منها نفي تراجع سيطرة الغرب الاستعماري في هذه المنطقة والعالم.
إدراك فرادة هذه المعركة، وطبيعة الاستنفار الإسرائيلي، ونتائج فشله الإستراتيجية، تستدعي استنفاراً عربياً مضاداً، من جبهات القتال إلى الإعلام ووسائطه، وما بينهما. أول الاستنفار الغضب، إذ إنّ إبقاء الغضب من الجريمة الصهيونية في غزة، ورفض التطبيع معها بالاعتياد عليها، يعطيان دافعاً للعمل وفق مستوى الحدث. النظرة إلى تضحيات الشهداء في غزة تخضع هنا لمعادلة دقيقة، فمن جهة تُفهم حتمية التضحية في سياق معركة التحرر من الاستعمار، ضمن السياق التاريخي المعروف. لكن، من جهة أخرى، لا ينفي التسليم بحتمية التضحية ضرورة العمل على الحد من الخسائر في الأرواح، وإذا لم تكن هناك قدرة على إنهاء العدوان في لحظة واحدة بفعل ما، فإن أفعالاً أخرى (عسكرية وغير عسكرية) يمكنها أن تزيد من كلفة الحرب على الصهاينة، وتالياً تقصّر مدة العدوان، وتحمي بقية الغزيين، وتسهم في تحقيق هدف المقاومة في غزة من هذه الحرب: الخروج بانتصار إستراتيجي للأمة كلها.
يبدأ الاستنفار عربياً بالغضب، لكنه يتواصل عبر توجيه الغضب في الاتجاه الصحيح: نحو الغرب الاستعماري. إعادة الاعتبار لفلسطين كقضية مركزية للأمة، لا تتعلق بحالة شاعرية وجدانية فحسب، بل تعني بالضرورة أن تكون فلسطين ومجابهة الاستعمار الغربي وقاعدته الإسرائيلية في قلب تفسير الأحداث في هذه المنطقة، واتخاذ الموقف منها. مركزية فلسطين، والغضب من الغرب الاستعماري، يُترجمان عبر نهاية الغرق في التناقضات البينية والحروب الأهلية العربية، والكفّ عن تحويل مسار العداء في اتجاه بعضنا، وإحياء التناقض الرئيسي مع الهيمنة الغربية، والعمل لمصلحة الأمة، لا لمصلحة الطوائف والجماعات الفئوية، التي يمكن أن تبرر الارتماء في أحضان الإمبريالية من أجل مكاسب صغيرة.
الاستنفار يبدأ مع هذه المعركة، لكنه لا ينتهي مع نهايتها. المعركة هي فرصة لإطلاق الطاقات العربية نحو هدف التحرر من الاستعمار. لقد شهد جيلنا إبادة ممنهجة على الهواء مباشرة، تحوّل ما قرأه من مجازر تأسيس الكيان الصهيوني إلى صورة بشعة، وفي قلب صورة المجزرة هذه التوقيع العنصري للغرب الاستعماري، الذي لا يرى هؤلاء بشراً. نسيان هذه الصورة، وتجاوز العداء مع صانعيها هما الجنون بعينه.