لا يا سادة… إنه ليس أبارتايد!
صالح عبدالجواد – وما يسطرون|
ضعف المثقفين الفلسطينيين والعرب الفكري في استخدام إطار نظري ملائم لفهم الصراع (المقصود هنا فهم جوهر السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني منذ عام 1967 وحتى اليوم) يكاد يدفعني للجنون. بعد ما يقارب الـ 60 عاماً من احتلال الضفة الغربية (التي تضم القدس)، هناك استخلاص – أعتقد جازماً أنه خطأ – بأننا نواجه حالة أبارتايد.
ونظام/مصطلح أبارتايد استعرناه من الحالة الجنوب أفريقية باعتبار أننا نواجه الحالة نفسها، وهذا يعني ضمناً أن مواجهة هذا النظام بإستراتيجيات المقاومة التي اتبعت في جنوب أفريقيا ستقودنا لا محالة إلى إنهاء هذه الحالة وتحقيق الانتصار.
وكلمة أبارتايد في لغة الأفريكانا السائدة في جنوب أفريقيا إلى جانب اللغة الإنكليزية، كلمة محايدة بالأصل تعني «الفصل». لكن مع الزمن اكتسب هذا المصطلح الذي تحول ليصف نظاماً قانونياً ممأسساً، دلالات سلبية في أعين العالم، فأصبح مفهوماً لدى الجميع بمعنى نظام فصل عنصري بغيض وغير مقبول إلى درجة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنّت ميثاقاً أمميّاً لـ«حظر جريمة الفصل العنصري الأبارتايد ومعاقبتها» في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، واعتبرته جريمة ضد الإنسانية.
لا أفهم كيف استخلص البعض أننا نواجه حالة جنوب أفريقية نظراً إلى الفروق الكبيرة بين الحالتين (الجنوب أفريقية والفلسطينية). صحيح أن هناك تشابهاً كبيراً: مقومات الفصل العنصري ومظاهره والتركيز على تفوق الأبيض واليهودي موجودة في الحالتين، استعمار استيطاني، ممارسة الاستغلال الاقتصادي، الهيمنة، السيطرة على الموارد بما في ذلك الأرض.
لكن الصحيح أيضاً أن هناك اختلافات كثيرة، يعرف – ويا للغرابة – غالبيتَها، إن لم يكن معظمَها، جزءٌ كبيرٌ من المنادين بأننا نواجه نظام أبارتايد! سأتطرق لبعض هذه الاختلافات، على سبيل المثال لا الحصر.
أول هذه الاختلافات طبيعة الاستعمارَين، فرغم أن كلاهما استعمار استيطاني، إلّا أنه في الحالة الفلسطينية استعمار استيطانيّ إحلاليّ، وهذا فرق جوهري وكبير تترتب عليه نتائج وآثار شديدة الاختلاف بشأن طبيعة الهدف. فأهم ضعف في استخدام الأبارتايد كإطار نظريّ لفهم الصراع هو أن هذا الإطار لا يفسّر الفرقَ في الأهداف والنوايا بين الحكومة الإسرائيلية وحكومة جنوب أفريقيا. ففي حين كان الهدف في جنوب أفريقيا الفصل بين البيض والسود وضمان الهيمنة والسيطرة على الأخيرين، كان هدف الحكومة الإسرائيلية ونيّتها منذ عام 1967 خلق ظروف معيشية للفلسطينيين تصبح غير محتملة بدرجة كافية لأن يقرّر الفلسطينيون مغادرة وطنهم «طوعاً» وليس بقاءهم لاستغلالهم كما في جنوب أفريقيا. كما أن السود ظلوا في جنوب أفريقيا غالبية كبيرة (أقل من 15% من السكان كانوا من البيض، وأكثر من 85% من السكان كانوا من السود)، كما أن الجذور الأيديولوجية التي تبرر الهيمنة والسيطرة والتفوق، رغم المنابع الأيديولوجية العنصرية الأوروبية المشتركة، تتمتع بعنصر إضافي في الحالة الإسرائيلية، ألا وهو الدين.
يا سادة، الفصل العنصري بدأ منذ اللحظة الأولى لتنفيذ المشروع الصهيوني عملياً على أرض فلسطين، أي في عام 1878 عندما دشّن الصهاينة أول مستوطنة يهودية، إذ كان من المحرّم على أي فلسطينيّ، أكان رجلاً أو امرأة أو طفلاً، الإقامة في هذه المستوطنات. أبلغ من ذلك، كان اليهود قبل المشروع الصهيوني يعيشون في عدد من المدن الفلسطينية، مختلطين بالعرب، كالقدس ويافا وصفد وطبريا والخليل وحيفا وحتى نابلس، لكن في المقابل عندما أقاموا نواة أول مدينة يهودية (تل أبيب) عام 1909، التي أصبحت لاحقاً أهم مدينة يهودية على أرض فلسطين التاريخية، فإنهم وضعوا أُسُساً راسخة للفصل، رغم أنهم كانوا تحت نظام حكم إسلاميّ (الدولة العثمانية). ورغم ما سبق وقلناه عن تعايش مشترك في المدن الفلسطينية، فإنّ الفصل العنصري بدأ أيضاً مع القواعد التي وضعتها مؤسسة «الصندوق القومي اليهودي» وإقرار «مبدأ العمل العبري» وهي قواعد ومبادئ قصرت حق العمل في المشاريع اليهودية صناعية كانت أم تجارية أم زراعية على العمّال اليهود، ناهيك عن أن الفصل بين اليهود والعرب بدأ أيضاً منذ أن أنشأ اليهود في فلسطين نظامهم الاقتصادي المنفصل والخاص باليهود.
أن يأتي اليوم شخص، بعد 150 عاماً من الصراع، والنكبة المستمرة التي لم تتوقف ولا ليوم واحد، والترانسفير الصامت في القدس (الحقيقة أنه لم يعد صامتاً إلا لمن لا يرى ولا يسمع)، وأعمال التنكيل الوحشية التي تحدث اليوم في قرانا، وحتى وسط انتهاك حق الحياة (في الآونة الأخيرة يقتل جنودٌ ومستوطنون فلسطينيين أبرياء من دون أي محاسبة)، ويتحدّث لنا وهو يعيش تحت الاحتلال عن أننا نواجه نظام أبارتايد، إنما يقع في خانة وفخ الارتهان لأطر غير مناسبة لفهم هذا الصراع، ليس إلا لكونها أطراً سائدة.