الحرب ما بين الكلفة والثمن
الأمجد سلامة – وما يسطرون|
منذ اليوم الأوّل للعدوان على غزة، استعمل العدو الصهيوني مصطلح «تدفيع الثمن» لتبسيط مرمى حربه. وهذا مصطلح اعتدنا سماعَه في تصريحات قادة العدو وقراءتَه في دراسات بحثية للإستراتيجيين من جنرالات وأكاديميين، حتى بات لفظاً مألوفاً. واعتاد وعينا دلالتَه المباشرة: نحن كأعداء لكيان «إسرائيل» سندفع ثمناً في حروبنا معها. ولكنّ المعنى الأعمق لتكرار هذا المصطلح هو أن العدو يحاول فرض هيكل معياري لتقييم خيارات مجابهته. بمعنى ما، يحاول الكيان الصهيوني أن يملي علينا- كجماعات تعبّأت في مشاريع حركات المقاومة أو في الدول المعادية له- تقييمنا لتبعات المستويات المختلفة من مواجهته. والسؤال البديهي الذي يتبع هذا المنطق هو: هل تعادل التبعات قيمة ما سنحصل عليه من هذه الحروب؟
ولكن هذه المقاربة تختزل طريقاً محاسبياً ذاتياً يجب أن نتبعه كأفراد وجماعات. هذا الطريق سبق أن اتّبعه من وجد نفسه اليوم منخرطاً في الصراع على ضفتيه. ولكن أولى خطواته لا تبدأ عند السؤال أعلاه، بل تبدأ في تعريفنا للقيمة. فمن يواجه الكيان الصهيوني اليوم يضع نصب عينيه مجموعة من الأهداف، مثلاً: التحرير، التحرّر، هزيمة الإمبراطورية، الاستقلال الاقتصادي، السيطرة على الموارد الوطنية وغيرها. كل هدف من هذه الأهداف له قيمة معينة إذا تحقّق، سواء تحقق جزئياً أو كلياً. وعلى هذا المنوال، لتحقيق أي هدف يجب أن نقوم بمجموعة من الأعمال، يصبح لكل عمل منها قيمة محددة. وبداية الطريق، أن نسأل أنفسنا ما هي القيمة التي نقدّرها لكل هدف ولكل عمل؟
وعند الحديث عن تعيين القيمة يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك مدرستين فكريتين: المدرسة الموضوعية والمدرسة الذاتية. المدرسة الموضوعية تقيس القيمة فقط من خلال تكلفة تحصيل الأصل أو إنتاجه (في حالتنا
نحن الأصل هنا هو الهدف والعمل). وبالتالي، فإن قيمة الهدف أو العمل تعتمد عليه بذاته، ومن دون النظر إلى العوامل الخارجية مثل الحاجة أو الرغبة بتحقيقه. وفي المقابل توجد المدرسة الذاتية التي ترى أن العوامل الخارجية تلعب دوراً في العملية. والعوامل الخارجية هنا هي عوامل كالفوائد المستقبلية المتوقّعة نتيجة لتحصيل الهدف والتأثير الحالي على الموارد والأدوات المستعملة في عملية التحصيل. بمعنى أن التبعات المستقبلية لتحقيق الهدف أو نجاح العمل يجب أن تدخل في عملية تعيين القيمة. والحقيقة هي أنّه حين نتحدث عن أهداف على مستوى قيادة مصير شعوب لا يمكن تعيين قيمة هدف أو عمل ما يؤدي إليه من دون النظر إلى فوائده المستقبلية. تصوّروا معي مثلاً أن تقدّر الولايات المتحدة قيمة أهدافها في مواجهة الصين بناءً على التكلفة المباشرة والمحصورة بالأفعال بحد ذاتها، من دون دراسة الآثار المستقبلية لهذا العمل والآثار على كل العوامل المرتبطة بأدوات تحقيقه.
ماذا ندفع؟
ولكن الاستمرار على هذا الطريق، طريق المحاسبة الذاتية، يفترض أن نعترف بأن القيمة ليست شيئاً حقيقياً قائماً بحد ذاته، هي كما شرحنا: المقياس الذي نعيّنه لتحصيل هدف ما. فللانتقال إلى ما هو حقيقي يجب أن نترجم القيمة إلى ما هو حقيقي، أي الثمن والكلفة.
بدايةً يجب أن نوضح أننا في حياتنا اليومية عادة ما نقع في خطأ استعمال «المترادفات الزائفة» حين نستعين بأيّ من مصطلحَي «الثمن» و«الكلفة»، فنستعملهما كمصطلحين قابلين للتبادل وكأنهما مرادفان. ولكن إذا ما أردنا أن نكون دقيقين فإن كلاً من المصطلحين يمثل معنى مختلفاً، ولكن سبب اللغط هو أنّهما يعبّران عن ترجمة «القيمة» في الواقع.
في الحقيقة «الثمن» هو نوع من العلاقات التبادلية، التي تمثل المقابل الذي يطلبه البائع لحصول الشاري على أصل أو خدمة. فحين نذهب إلى أي متجر لشراء سلعة ما، الحقيقة التي تُفرض علينا هي الثمن الذي يطلبه البائع من الشاري، بغضّ النظر عن القيمة التي نعيّنها للسلعة. وطالما أن السعلة لا تزال في ملكية البائع فقيمتها هي الثمن الذي يفرضه علينا. وإذا ما أردنا إسقاط هذا المفهوم على موضوع النقاش في هذه المقالة، نحن نترجم القيمة التي نعيّنها لأهدافنا بشكل حقيقي عبر الثمن إذا ما كنا نبيع. فلنتوسّع قليلاً في هذا المفهوم؛ فإذا ما اعتبرنا أنّ ما يُدفع في سبيل تحقيق هدف من أهدافنا -كجماعات، وجدت نفسها على مقلب العداء من الكيان الصهيوني- هو الثمن، فإذاً نحن نقيّم الهدف كباعة، ونعتبر أن قيمة هذا الهدف هي ما سيتم «تقريشه»، اليوم أو في المستقبل، في سوق ما.
لذا حينما نرى النقاشات تدور حول الأثمان التي نتكبّدها، دائماً ما تعود هذه النقاشات إلى السؤال عن «ماذا جنينا كشعب؟». وهذا السؤال يكون مقدمةً لخطاب التثبيط والعدول عن المقاومة. وهذا الخطاب هو أداة من أدوات التعبئة عند محور الإمبراطورية، نرى من يستولده ويردّده يعمل في وسائل إعلام المحور المعادي. هم يحاولون فرضه على كل من يستفيد من بنية الاقتصاد السياسي الذي تفرضه الإمبراطورية في المنطقة. فيصبح السؤال عن الثمن الذي ستدفعه مقابل قتالك أو موقفك أو انتمائك، وهل هذا الثمن يعكس القيمة الحقيقية لأهدافك؟ هم يرونه من باب البيع، هم كما الموظف الذي يقف خلف منضدة الدكان ينتظر صاحبه أن يملي عليه الأثمان. وحين نقول إنّنا ندفع «الثمن»، نحن ربما نستعمل ما اعتدنا عليه لغوياً، ولكن مع الوقت نكون تبنّينا خطابهم.
فنحن لا ندفع «الثمن» في هذا الصراع، نحن ندفع «الكلفة». «الكلفة» هي العلاقة التبادلية التي تمثل المقابل المطلوب للحصول على الأصل، أو الهدف في حالتنا. مجدّداً إذا ما عدنا إلى رحلة التسوّق، «الكلفة» هي ما سندفعه للبائع للحصول على ما نريد. هذه الكلفة هي الترجمة الحقيقية لـ«القيمة» بالنسبة إلى الشاري، هذه الكلفة التي فرضها البائع. فمن هذا المنطلق نحن ندفع ما نرى أن أهدافنا تستحقّه، ما يفرضه علينا عدونا ونرى أنّه يمثل القيمة التي نضعها على أهدافنا. وحين يخسر أحدنا حياته أو عمله أو يضيق عليه رزقه في خضمّ هذه المعارك، سواء بسبب المشاركة الفاعلة فيها أو لمجرد الاصطفاف، نحن ندفع كلفة هذا الصراع، وهي طبيعية لأن ما نراه في أهدافنا «قيمة» عالية جداً. فالجماعات والأفراد الذين انخرطوا في هذه المشاريع يقدرون قيمة كبيرة للتحرر والتحرير، ويرون هذه الأهداف بعيون عابرة للأجيال. فيصبح من الخطأ الانجرار إلى خطاب العدو، وأن نقول إننا ندفع الثمن. في هذه الحالة حتى نكون ندفع الثمن يجب أن نكون حياديين لنعتبر أنفسنا غير معنيين بالصراع وكلفته، حتى نكون ندفع الثمن يجب أن نكون قد تبنّينا وجهة نظر البائع.
أهمية الصمت
اليوم أكثر من أي زمن مضى يجب أن نحاسب، ليس أنفسنا فقط، بل كل منخرط بالشأن العام، وما أكثرهم في زمن منصات التواصل الاجتماعي. والتمحيص في مقاربة تبعات الحرب أساسي في عملية المحاسبة. فالشخص أو الجماعة التي تستولد وتروّج وتستفيض في استعمال «خطاب الثمن»، يجب تعريتها. لأن هذا الخطاب جوهره وجهة نظر البائع، القابع تحت جناح العدو. وتبني خطابه يعني أن وجهة نظره ستتسرب إلى خطابنا بشكل تدريجي. وسرعان ما سنجد أنفسنا منخرطين في السؤال الذي يريد العدو أن يفرضه علينا، عن أثمان الحرب.
وحين ندقّق في لغة ومصطلحات الكثير من المنخرطين في الشأن العام، سنجد أنّنا أمام جيش من المنخرطين في المحور المعادي، يستعملون غطاء الحرص على الخسائر البشرية والامتعاض والسخط من المجازر لترويج «خطاب الثمن». وفي المقابل سنجد فئة معتبرة من الذين يتبنون هذا الخطاب عن خوف. وهؤلاء في مواقع صناعة رأي، كأكاديميين أو باحثين مرتبطين بشبكات مصالح مموّلة من المحور المعادي. فهم لا يريدون أن يخسروا أرزاقهم، وفي الوقت عينه يريدون أن يحافظوا على اللبوس الأكاديمي، أي أن يحافظوا على مظهر «الموضوعية». فلا يبقى أمامهم سوى الحديث عن «الثمن» أيضاً، فيجدون أنفسهم في محور الإمبراطورية. ولا تنفع كل الكلمات المنمّقة والاقتباسات الأدبية والتاريخية في إخفاء موقعهم في الحرب الدائرة اليوم. فالصمت اليوم أجدى من تبنّي خطاب يريده العدو باباً لفرض منطقه وخطابه.
منذ زمن ليس ببعيد أجد في الصمت ملاذاً محترماً لمن يجد نفسه أمام موقع الاختيار بين التعبير عن تأييده للمقاومة ودفع الكلفة أو الانخراط في المحور المعادي. والصمت في بعض الأحيان، وإن كان يُشعر صاحبه بالعجز، إلا أنه تكون له كلفة أيضاً، حتى لو كانت أقل من كلفة المجاهرة بالتأييد. والأرجح أن الصامت يقف كل يوم أمام المرآة صباحاً ليمشي في هذا الطريق المحاسبي الذاتي، ليؤكد لنفسه ثوابت التفريق بين «الثمن» و«الكلفة»، وبرماً يلوم نفسه على صمته. ولكن من المزعج قراءة موقف يعجّ بالمصطلحات التقنية والأكاديمية عن التضامن مع عذابات الشعب الفلسطيني، ومن ثم ينتهي بلا شيء، ينتهي إلى الخلط المقصود بين «الثمن» و«الكلفة»، وإلى التأكيد على خطاب العدو.
بعد أكثر من شهر على بداية هذه الحرب، من الصعب الادّعاء أن الصورة غير واضحة، هناك محوران يتقاتلان على امتداد غرب آسيا، وإن كان مستوى القتال ووتيرته يختلفان من جبهة إلى أخرى. ومن الصعب أيضاً الادّعاء بأن ما يجري محصور بحق الفلسطينيين أو الغزيين في الحياة في سجن مفتوح. ما لا يمكن إخفاؤه اليوم هو أن ما يجري أعاد أهداف التحرر والتحرير إلى الواجهة، وأن من يشيح بوجهه عن هذه الأهداف ويحصر حديثه بـ«الثمن» يضع نفسه في خندق المحور المعادي. نحن لا ندفع «الثمن»، نحن ندفع «الكلفة». ولكن نحن نشتري حريتنا وتحررنا، نحن نشتري ما قيمته في حساباتنا يفوق أي كلفة. وإن كان تقديرك عن طبيعة الصراع غير هذا، فالصمت أفضل دعم للشعب الفلسطيني، لأنك ستكون تدفع هيكل العدو المعياري إلى الواجهة، ستكون تنشر سرديته عن «تدفيع الثمن».