شواهد من تاريخ الإسلام وفلاسفة الغرب: إلقاء السلاح ينتهي كذبح الغنم

كريم حداد – وما يسطرون|

في الذاكرة التاريخية الإسلامية رواياتٌ قاسية لا تُستعاد بدافع التشفّي ولا بغرض الإثارة، بل لأنها تكشف منطقاً عارياً للسلطة حين تُطلَق من أي قيد أخلاقي أو سياسي.

من بين هذه الروايات ما يُنقل عن مقتل الآلاف من أنصار المختار الثقفي بعد استسلامهم لمصعب بن الزبير سنة 67هـ، وهي الحادثة التي نُسب فيها إلى عبد الله بن عمر قوله المشهور: «لو كانوا غنماً لكان هذا إسرافاً». ليست هذه العبارة مجرّد تعليق أخلاقي عابر، بل شهادة تاريخية على إدراك مبكّر لمعنى الإبادة.

ترد هذه الحادثة في عدد من المصادر التاريخية الأساسية. يذكرها الطبري في (تاريخ الرسل والملوك) عند حديثه عن دخول مصعب بن الزبير الكوفة بعد مقتل المختار، ويورد أخباراً متضافرة عن قتل أعداد كبيرة من أتباعه، خاصة من الموالي، بعد أن أُعطوا الأمان أو بعد استسلامهم. كما يذكر البلاذري في (أنساب الأشراف) أخباراً قريبة المضمون، تشير إلى أن مصعباً أقام محاكمات صورية انتهت بقتل جماعي واسع. ويورد ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) أن القتل تجاوز الضرورة العسكرية وتحوّل إلى سياسة انتقامية.

أمّا تعليق عبد الله بن عمر، فقد أورده أكثر من مصدر بوصفه تعبيراً عن الصدمة الأخلاقية من حجم القتل، لا عن تعاطف سياسي مع المختار.
من حيث المنهج التاريخي، فإن تعدّد طرق الرواية، وتوافقها في الجوهر، وورودها في مصادر مختلفة الاتجاهات المذهبية والسياسية، كل ذلك يمنحها درجة مُعتبرة من المصداقية، حتى مع اختلاف الأرقام الدقيقة للضحايا.

في المفهوم العسكري التقليدي، يُفترض أن الاستسلام نهاية القتال وبداية الحماية: إلقاء السلاح مقابل حفظ الحياة. لكن ما تكشفه هذه الحادثة هو أن الاستسلام قد يتحوّل، في سياق صراعات عميقة، إلى نقطة انكشاف وجودي، لا إلى ملاذ. حين تُجرَّد الجماعة من قدرتها على المقاومة، وتُسلِّم مصيرها كاملاً لخصم لا يعترف بشرعيتها الإنسانية، يصبح الاستسلام انتقالاً من خطر الموت إلى يقين الإبادة.

أنصار المختار، مهما اختلف التقييم السياسي أو العقدي لحركتهم، لم يُقتلوا لأنهم كانوا يقاتلون، بل لأنهم توقّفوا عن القتال. هنا ينقلب المنطق: الحياة لا تُكافأ بالاستسلام، بل تُعاقَب به. وما جرى بعد دخول مصعب بن الزبير الكوفة لم يكن مجرّد تصفية حسابات، بل ممارسة سياسة ردعية رمزية. لم يكن القتل الجماعي موجّهاً فقط إلى المهزومين، بل إلى كل من قد يفكّر مستقبلاً في القتال. الرسالة واضحة: الهزيمة لا تعني النجاة، والاستسلام لا يمنح الأمان.

في هذا السياق، تصبح عبارة ابن عمر شديدة الدلالة. فهو لا يناقش شرعية المختار ولا مشروعية قتال مصعب، بل يقف عند حدّ أخلاقي كوني: حتى الذبح الحيواني له معيار، وتجاوزه يُسمّى إسرافاً. فكيف إذا كان المذبوحون بشراً مستسلمين؟

لا يكمن الخطر الوجودي للاستسلام فقط في فقدان القدرة على الدفاع، بل في فقدان المعنى السياسي والأخلاقي للذات. الجماعة التي تستسلم، وتُقتل رغم ذلك، تُمحى من التاريخ بوصفها فاعلاً، وتُعاد كتابتها كـ«خطأ» يجب محوه. القتل هنا ليس إنهاءً لحياة أفراد، بل محاولة لإلغاء سردية كاملة، وقطع أي استمرارية رمزية لها.

هذا ما يفسّر لماذا كان معظم الضحايا من الموالي: فهؤلاء لم يكونوا فقط أنصاراً عسكريين، بل كانوا تجسيداً لتهديد اجتماعي لبنية السلطة الأموية- الزبيرية التقليدية. لم يشفع لهم استسلامهم، لأن وجودهم ذاته كان يُقرأ بوصفه خللاً في النظام القائم.

ليست هذه الحادثة درساً تاريخياً معزولاً، إنها نموذج متكرّر في التاريخ القديم والحديث: حين تتحوّل الصراعات إلى صراعات وجود، يصبح الاستسلام وهماً أخلاقياً.

في مثل هذه السياقات، لا يُنظر إلى الخصم المهزوم كإنسان خرج من المعركة، بل كـ«بقايا خطر» يجب إزالته.
الخطورة هنا أن الخطاب الذي يروّج للاستسلام بوصفه خياراً عقلانياً أو إنسانياً قد يتجاهل طبيعة الطرف المنتصر، ومنطقه، وسرديته. فالاستسلام لا يكون ضمانة إلا إذا كان الخصم يعترف بحدّ أدنى من القيم المشتركة، وبإنسانية العدو بعد هزيمته.

لا يدعو استحضار هذه الرواية إلى تمجيد العنف ولا إلى تقديس القتال، بل إلى تفكيك وهم الحياد الأخلاقي للاستسلام. فليس كل استسلام نجاة، وليس كل استمرار في المقاومة تهوّراً. السؤال الحاسم ليس: هل نُهزم أو ننتصر؟ بل: هل يعترف الطرف الآخر بحقّنا في الحياة بعد الهزيمة؟

حين يكون الجواب سلبياً، يصبح الاستسلام خطراً وجودياً، لا خياراً عقلانياً. وهذا ما فهمه عبد الله بن عمر تلقائياً حين رأى في قتل المستسلمين إسرافاً يتجاوز حتى منطق الذبح الحيواني. إنها لحظة تاريخية تذكّرنا بأن الأخلاق لا تُقاس فقط بمن انتصر، بل بكيف عامل المهزوم حين لم يعد قادراً على الدفاع عن نفسه.

في هذا المعنى، تبقى حادثة أنصار المختار الثقفي تحذيراً دائماً: في الصراعات، لا يكون الخطر في السلاح، بل في إلقائه.
في اللغة اليومية يبدو الاستسلام موقفاً محايداً أخلاقياً: قرار عقلاني لتفادي الخسارة، أو فعل حكمة يضع الحياة فوق المبادئ. غير أن هذا التصوّر يخفي وهماً عميقاً. فالاستسلام ليس دائماً خروجاً من العنف، بل قد يكون دخولاً في شكل آخر منه؛ عنف صامت، بارد، وجودي، يطاول المعنى قبل أن يطاول الجسد. في هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى تفكيك وهم الحياد الأخلاقي للاستسلام، والنظر إليه بوصفه لحظة فلسفية حرجة، تُختبر فيها علاقة الإنسان بذاته، وبالسلطة، وبالاعتراف.

لا يكمن الخطر الوجودي للاستسلام فقط في
خسارة القدرة على الدفاع،
بل في فقدان المعنى السياسي والأخلاقي للذات. والمستسلم، ويُقتل رغم ذلك

ترى حنة أرندت أن السياسة تقوم على الظهور في الفضاء العام بوصفنا كائنات فاعلة، قادرة على الكلام والفعل. في كتابها (في العنف وأصول التوتاليتارية)، تميّز أرندت بين السلطة التي تقوم على القبول والشرعية، والعنف الذي يظهر حين تنهار هذه السلطة. في هذا الإطار، لا يكون الاستسلام فعلاً محايداً حين يُفرَض من سلطة لا تعترف بالمستسلم كفاعل سياسي، بل كشيء يجب إدارته أو التخلّص منه. فالاستسلام هنا لا ينهي الصراع، بل ينهي الظهور السياسي للذات. إنه انتقال من كائن يُخاطَب إلى كائن يُدار.

هذا ما يجعل الاستسلام خطراً وجودياً: لأنه لا يسلب الإنسان أدواته فحسب، بل يسلبه صفة الفاعلية التي تُعرّف وجوده السياسي. وحين تُمحى هذه الصفة، يصبح القتل – إن حدث – مجرد إجراء إداري، لا جريمة أخلاقية.

ويذهب ألبير كامو، في (الإنسان المتمرّد)، إلى أن التمرّد ليس حباً في العنف، بل رفضٌ للَّامعنى الذي يُفرَض على الإنسان باسم القدر أو القوة. التمرّد عند كامو هو لحظة قول «لا» التي تؤسّس لـ«نعم» أعمق: نعم للكرامة، للحدّ، للإنسان.

من هذا المنظور، يصبح الاستسلام – حين يكون تنازلاً عن هذا الحدّ – خيانة للذات قبل أن يكون تنازلاً سياسياً. ليس لأن المقاومة قيمة مطلقة، بل لأن القبول بالمهانة بوصفها قدراً يدمّر المعنى الذي يجعل الحياة قابلة للعيش. لا يمجّد كامو الانتحار، لكنه يرى أن الحياة بلا كرامة ليست حياة أخلاقية. لذلك فإن الاستسلام الذي يُفضي إلى محو الكرامة ليس حياداً، بل اختيار للعبث.

ويقدّم فرانز فانون، في (معذّبو الأرض)، أحد أكثر التحليلات راديكالية للاستسلام، خصوصاً في سياق الاستعمار. بالنسبة إلى فانون، لا يكون الاستسلام خياراً فردياً بريئاً، لأن بنية الهيمنة الاستعمارية لا تعترف أصلاً بإنسانية الخاضع. المُستعمَر، حتى وهو مستسلم، يظل موضوعاً للسيطرة، لا شريكاً في عقد أخلاقي.

في هذا السياق، يصبح الاستسلام إعادة إنتاج للعنف، لا إنهاءً له. فهو يكرّس صورة الذات بوصفها ناقصة، غير جديرة بالاعتراف. لذلك يرى فانون أن المقاومة ليست فقط فعلاً عسكرياً، بل عملية إعادة تكوين للذات، استعادة للصوت، وللجسد، وللحق في تسمية العالم. الاستسلام هنا ليس خياراً سلمياً، بل هو قبولٌ بموت رمزي طويل.

من زاوية مختلفة، يقدّم فريدريش نيتشه نقداً جذرياً للأخلاق التي تمجّد الخضوع باسم الفضيلة. في (في جينالوجيا الأخلاق)، يرى نيتشه أن تمجيد التواضع والاستسلام قد يكون تعبيراً عن أخلاق عبيد حوّلت العجز إلى قيمة. لا يعني هذا أن نيتشه يدعو إلى العنف، بل إلى كشف الآليات النفسية التي تجعل الإنسان يتصالح مع سحقه الذاتي.

الاستسلام، وفق هذا المنطق، قد يكون شكلاً من الانتقام المؤجّل: تبرير الضعف باسم الأخلاق، وتحويل الهزيمة إلى تفوّق أخلاقي زائف. الخطر الوجودي هنا لا يكمن في الموت، بل في التحلّل الداخلي، في أن يتبنّى الإنسان سردية خصمه عن نفسه.

قد يبدو إيمانويل ليفيناس، بفلسفته الأخلاقية القائمة على أولوية الآخر، مدافعاً عن السلام بأي ثمن. غير أن قراءة دقيقة تُظهر أنه يربط الأخلاق بالمسؤولية، لا بالإلغاء الذاتي. فالوجه، عند ليفيناس، يطالبني بالاعتراف، لا بالاختفاء. الاستسلام الذي يمحو الذات ويمنعها من الظهور كمسؤول وكمسؤول عنه، يناقض الأخلاق لا يحقّقها.

الأخلاق هنا ليست النجاة الجسدية، بل الاعتراف المتبادل. وحين يكون الاستسلام طريقاً إلى نفي هذا الاعتراف، فإنه يتحوّل إلى خطر وجودي، حتى لو أنقذ الجسد مؤقّتاً.

إنّ تفكيك وهم الحياد الأخلاقي للاستسلام يكشف أنه ليس مجرّد إجراء لإنهاء صراع، بل قرار يمسّ معنى الوجود ذاته. فحين لا يعترف الطرف الآخر بإنسانيتك بعد الاستسلام، يصبح هذا الفعل تخلّياً عن الذات السياسية والأخلاقية، لا تعبيراً عن الحكمة.
إنّ الفلاسفة، على اختلافهم، يلتقون عند نقطة واحدة: الحياة لا تُقاس بطولها، بل بقدرتها على حمل معنى. وحين يكون الاستسلام طريقاً إلى فقدان هذا المعنى، يصبح خطراً وجودياً، لا خياراً محايداً. في مثل هذه اللحظات، لا يكون السؤال: هل ننجو؟ بل: من نكون إن نجونا بلا كرامة؟

قد يعجبك ايضا