ليس بالبلطجة أو بالإجرام!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
في امتداد رعاية وتعهُّد المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني في فلسطين، من قِبل عتاة الدول الاستعمارية، تولّت واشنطن هذه المهمة بُعيد إعلان «دولة إسرائيل» عام 1948. بدأ هذه المهمة الاستعمار الفرنسي لفترة وجيزة. ثم حضر بقوة دور الاستعمار البريطاني، منذ وعد بلفور (1917) للمصرفي ورئيس الحركة الصهيونية في بريطانيا اللورد ليونيل روتشيلد، بدعم إقامة دولة الشتات اليهودي في فلسطين. ثم مباشرة، دعمت لندن تنفيذ إجراءات تأسيسية حاسمة في خدمة هذا الهدف، عبر انتدابها على فلسطين أوائل عشرينيات القرن الماضي.
لاحقاً، تبلورت العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الناهضة، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى احتلال المركز الدولي الأول في العالم، ودولة إسرائيل الناشئة بالاغتصاب والإرهاب والمجازر، وفق كيفية فريدة. عومل الكيان الصهيوني على أنه الولاية الأميركية الحادية والخمسين الأكثر تميّزاً واندراجاً في البنية الإمبريالية للولايات المتحدة، ولمؤسستي السلطة والدولة العميقة فيها: خصوصاً في الحقول الأمنية والمالية والمصرفية والإعلامية والديبلوماسية.
بضغط لوبي صهيوني، «مليء» ونافذ وفعّال، أصبحت المؤسسات الأميركية التي تملك سلطة القرار شديدة التأثر، بشكل متصاعد، بالنفوذ الصهيوني، وتحديداً، بشأن منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً منها الشرق العربي. بات معظم المسؤولين والمبعوثين والسفراء إلى تلك المنطقة، من خريجي مراكز الضغط (اللوبي) الصهيونية أو المدعومين من قبلها. أمّا مَن هو ليس كذلك، فإنه محكوم بإثبات ولائه بما يتجاوز أقرانه من الصهاينة، سبيلاً إلى الفوز بالمنصب أو الاحتفاظ به (فيليب حبيب لم يكن الأول، وتوم برّاك ليس الأخير). هكذا باتت المعادلة الثابتة: مَن يمثّل سياسة أميركا في الشرق العربي هو صهيوني بالانتماء أو بالولاء!
في النتائج الناجمة عن ذلك، أنه، فضلاً عمّا أثارته سياسة واشنطن الاستعهارية العامة، حيال المنطقة، من نزاعات وتوترات، فقد أضيف إليها ما نتج من زرع الكيان الصهيوني في فلسطين ودعمها الضخم والشامل له، من حروب متلاحقة واعتداءات مستمرة حتى اليوم. وهي بلورت في مجرى ذلك معادلة أن تكون هي الخصم وهي الحكم أيضاً. لا وسطاء سواها. لا وسطاء معها. اتفاقا العدو مع لبنان (قبل حوالى سنة)، ومع غزة (منذ أسابيع)، لجهة «وقف الأعمال العدائية»، هما نسخة مكررة في الشكل والمضمون.
تكريس النتائج في معاهدات واتفاقيات في حالة انتصار العدو. محاولة تبديل النتائج في حال الإخفاق وعبر مفاوضات يحقق للعدو، من خلالها، ما عجز عن تحقيقه في الحروب! لا تخرج حالة واحدة عن هذه القاعدة: من معاهدات «السلام»، و«فصل القوات»، والاتفاقيات المنفردة، إلى فرض اتفاقيات التطبيع «الإبراهيمي»، إلى الحروب الأخيرة التي انطلقت بعد «طوفان الأقصى» كما ذكرنا.
لنعد إلى حرب «طوفان الأقصى». أطلق كبار زعماء واشنطن والأطلسي حملة دعائية تحريضية إعلامية هائلة لتبرير المجازر التي باشرتها تل أبيب، بعد العملية فوراً، تحت عنوان «حق الدفاع عن النفس». وفروا كل المساعدات الضرورية في الحقول كافة: المالية والعسكرية والاقتصادية والاستخبارية… حركوا وحشدوا الأساطيل. شاركت واشنطن في غرف صناعة السياسات وإدارة العمليات في تل أبيب. قادت حملات ديبلوماسية لا تهدأ ضد أي تعاطف مع الضحايا المدنيين والصحافيين وممثلي الهيئات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة وقطعت التمويل عنها. هدّدت قضاة محكمتي العدل والجنائية الدولية.
ضغطت لمنع حركات التضامن في الشارع وصولاً إلى القمع والعقوبات والطرد والفصل خصوصاً ضد الطلاب المحتجين. لم تتردّد في المشاركة مباشرة في الحرب على إيران. جنَّدت نفوذها في المنطقة للدفاع عن إسرائيل ضد الهجمات الدفاعية الإيرانية. شاركت في توفير المعلومات واللوجستيات والأدوات الضرورية للاغتيالات في إيران ولبنان واليمن (خصوصاً اغتيال الشهيد الكبير القائد حسن نصرالله). حاولت خوض حرب ضد اليمن لمنع الحصار، ولم تتوقف إلا بعد أن جوبهت بمقاومة فعّالة ومفاجئة!
إلى ذلك، اتخذت في مجلس الأمن أبشع وأقذر المواقف منعاً لإصدار قرارات وقف إطلاق النار، أو لإدانة الوحشية الصهيونية. حاولت في لبنان، بكل الوسائل، وقف حرب «الإسناد». أطلقت عشرات الوعود الزائفة بوقف إطلاق النار لتمكين العدو الصهيوني من أخذ كامل الوقت، عبر حربي التدمير والإبادة، لتحقيق «انتصار حاسم». لم توجّه واشنطن لوماً أبداً إلى إسرائيل. هي، بالمقابل، أطلقت أكثر التهديدات إجراماً ضد مدنيين يتعرّضون لمقتلة غير مسبوقة. هذا غيض من فيض. واشنطن لم تتوقف إلا بعد أن عجزت تل أبيب وأصبح موقف واشنطن معزولاً بالكامل، كما حصل في مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي ساحات وشوارع العالم تنديداً بالموقفين الأميركي والإسرائيلي خصوصاً. حينها وضع ترامب خطة وقف الحرب وصرخ في وجه نتنياهو، لا نستطيع أن نحارب العالم!
لكن لم تتوقف الحرب. كما في لبنان، يتكرّر الأمر في غزّة: يستمرّ العدو في الحرب من طرف واحد. تفاعُل العوامل نفسها يؤدّي إلى النتائج نفسها: واشنطن شريكة بقناع وساطة تفرضها بالقوة وبانكفاء الآخرين. الأنظمة العربية والإسلامية لم تفعل شيئاً. معظمها متواطئ. الصين وروسيا لم تمارسا دورهما، في الساحة الدولية وفي نزاعاتها، كما يليق بهما كقوتين كبيرتين ترفعان شعار معارضة التفرّد الأميركي. واشنطن ما تزال القوة العظمى الوحيدة في هذا المضمار خصوصاً بعد أن باتت الحرب الروسية الأوكرانية على أعتاب عامها الرابع.
الصين ما تزال تعتمد المقاربة الاقتصادية كأولوية طاغية… وهكذا تستفرد واشنطن بالمنطقة وبالعالم، دون منازع. لا يفوتها أن ترمي ببعض الوعود لروسيا في أوكرانيا، وللصين في مجال الضرائب… تتلاعب بأوروبا وباليابان بأساليب الإذلال والابتزاز. تفرض خوات وقحة على الخليج، ويتباهى رئيسها بذلك! تهدّد بغزو بلدان وبضم أخرى، من دون أن يحرّك أحد ساكناً إزاء هذه البلطجة المتمادية.
لكنّ واشنطن وتل أبيب مأزومتان: بالمقاومة والصمود الفلسطينيين، بالإدانة الدولية الرسمية للجرائم ولحرب التدمير والإبادة، بردود الفعل الشعبية في عواصم الغرب حيث تتبدّل القناعات ويُكشف زيف الرواية الصهيونية… وفي تحوّل بعض ردود الفعل تلك إلى أفعال مؤثرة كما حصل في بلدية نيويورك.
ليس بالبلطجة تستطيع واشنطن إدارة أزماتها الاقتصادية ومديونيتها الهائلة وعلاقاتها الدولية. ليس بالقتل، والإجرام، والمجازر والاعتداءات المتنقلة في بلدان المنطقة، يستطيع الكيان الصهيوني أن يبني «إسرائيل الكبرى» أو يحافظ على كيانه المغتصب الحالي.