كيف تتكئ السعودية على “المعاناة الإنسانية” في تعاملها مع اليمن
ضرار الطيب|
بعد تحول الحرب على اليمن إلى عبء وتهديد هائل لأمنها ومصالحها، لم تتردد السعودية في أن تعرض إرخاء قبضتها على الملف الإنساني قليلا مقابل وقف إطلاق النار، في اعتراف واضح بتوظيفها هذا الملف كأداة ضغط وورقة مساومة، و”استخدام التجويع كسلاح حرب” مثلما أكد خبراء الأمم المتحدة في أكثر من تقرير برغم المساحة الضيقة للغاية التي كانت متروكة لهم ليقولوا أي شيء يضر بالتحالف، وهي المساحة التي تم إلغاءها تماما بعد ذلك، إذ أصبحت أبسط الحقائق بمثابة فضيحة للرياض وأبو ظبي وواشنطن.
لم يكن اتفاق الهدنة في أبريل 2022 ثمرة لـ”تقارب” دبلوماسي في وجهات النظر بين صنعاء والرياض، بل كان في الأساس نتيجة لضغط سلسلة عمليات عسكرية كبرى نفذتها القوات المسلحة ضد المنشآت النفطية والحيوية في عمق المملكة ردا على قيام السعودية بتشديد الحصار على اليمن بشكل لا يُحتمل، وقد عبرت بنود الاتفاق بشكل صريح عن مدى اتكاء السعودية على المعاناة الإنسانية لليمنيين في الحرب، فمن أجل وقف إطلاق النار، كان المقابل هو إدخال 18 سفينة فقط إلى ميناء الحديدة وتشغيل رحلتين جويتين بين صنعاء وكل من مصر والأردن، أما بقية البنود (فتح الطرقات والاستعداد للمضي نحو اتفاق أوسع) لم تكن محسومة في نص الاتفاق وتم إحالتها إلى مفاوضات لاحقة.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي ينجح فيها الضغط العسكري في إجبار السعودية على التخلي قليلا عن تعنتها بشأن ملفات إنسانية بحتة، فقبل عامين من ذلك الاتفاق، تم إبرام ما اعتبر وقتها أكبر صفقة لتبادل الأسرى، بفعل ضغط عسكري ميداني على جبهة مأرب، وفقا لتصريح ناطق القوات المسلحة اليمنية آنذاك.
لقد وجدت السعودية في الملف الإنساني تعويضا كبيرا عما افتقرت إليه في الميدان خلال عدوانها على اليمن، وكان مسؤولوها يدخلون جولات التفاوض دائما بملفات مثقلة بعذابات اليمنيين، لمقايضة تخفيفها بتهدئة هنا أو تنازل هناك، وقد نجحت صنعاء في وضع سقف منخفض للآمال التي علقها السعوديون على هذا الابتزاز من خلال رفع مستوى الضغط العسكري، وفرض أولوية الملف الإنساني قبل أي شيء آخر، لكن السعودية لم تكن لتتخلى ببساطة عن مكسبها الوحيد: معاناة اليمنيين. ولذلك لجأت إلى حيل متنوعة، كالتجزئة، والمماطلة، والتنصل عن مسؤولية التنفيذ.
كان اتفاق هدنة 2022 محطة مهمة جدا لدراسة طريقة تعاطي السعودية مع الملف الإنساني في اليمن وإدراك مدى حرصها على عدم حلحلته، فبمجرد أن اطمأنت الرياض إلى وقف إطلاق النار، أخرجت بقية البنود عن إطار الاتفاقية، ودفعت بها نحو اتجاه مختلف تماما، حيث حاولت مباشرة ربط إدخال السفن إلى ميناء الحديدة بقرار المليشيات الموالية لها، ولكن ملف الميناء بالذات كان أكثر حساسية من أن يتحمل مناورة كهذه، لذلك كان لا بد في النهاية من الحفاظ على تدفق الحد الأدنى من الشحنات.
لكن ملف مطار صنعاء لم ينج من الالتفاف السعودي على اتفاق الهدنة، حيث كادت الفترة الرئيسية للاتفاق -أول شهرين- تنتهي بدون تشغيل أي رحلة على الإطلاق، قبل أن يتم في النهاية تسيير رحلة واحدة (صنعاء – عمان)، وإلغاء رحلة (صنعاء-القاهرة)، في مشهد آخر من مسلسل استخدام الملف الإنساني كورقة مساومة، إذ تم تقديم تشغيل تلك الرحلة اليتيمة كبادرة حسن نية من أجل تمديد الهدنة لشهرين إضافيين، ومع ذلك لم تقف المناورة السعودية عند حد إلغاء نصف البند المتفق عليه، واستغلال النصف الآخر دبلوماسيا، فهذا النصف المستغل لم يسلم من العرقلة من خلال تأخير ومنع تصاريح الرحلات، مع محاولة فرض اشتراطات جديدة بخصوص الجوازات وأماكن الحجز والإيرادات وغيرها، بما يجعل المليشيات الموالية للسعودية هي المسؤولة عن هذا البند وليست الرياض، وقد استمر هذا المسار إلى ما قبل توقف عمل مطار صنعاء بفعل الغارات الإسرائيلية هذا العام.
أما رحلة (صنعاء-القاهرة)، فلم يفلح تمديد الهدنة مرتين وتفاهمات “خفض التصعيد” بعد ذلك في تشغيلها، وهو ما جعل الأنباء التي تم تداولها في مراحل لاحقة حول تشغيل وجهات أخرى لمطار صنعاء أقل إثارة للتفاؤل، فمن رفض تشغيل رحلة أسبوعية واحدة إلى القاهرة وقد نُص عليها في اتفاق مكتوب رعته الأمم المتحدة لن يكون متلهفا لتشغيل وجهات أخرى بناء على تفاهمات غير معلنة حتى!
بعد أن كاد وقف إطلاق النار ينهار في منتصف عام 2024، بفعل التصعيد السعودي ضد البنوك العاملة في المناطق الحرة وإغلاق مطار صنعاء، حرص المفاوضون اليمنيون على إعادة السعودية إلى التزاماتها الأصلية وتثبيت مطلب تشغيل رحلة (صنعاء- القاهرة) لكن الأمر لم يفلح أيضا.
لقد كشف تعامل السعودية مع بند رحلات مطار صنعاء في اتفاق الهدنة الكثير من الحقائق حول نظرة السعودية للاستحقاقات الإنسانية لليمنيين، فهي حتى إن وافقت على أي مطلب ستحاول بأقصى جهد ممكن الحفاظ عليه كورقة مساومة وفتح مسارات فرعية للتنصل عن مسؤوليتها بشأنه خلف واجهة المليشيات المحلية، وهذا ما حدث بالفعل في ملف فتح الطرقات وملف الأسرى، حيث عرقل وكلاء السعودية جميع مفاوضات فتح طريق (الحوبان) في تعز، ولم يفتح هذا الطريق إلا في منتصف 2024 عندما احتاجت السعودية إلى ما توازن به التصعيد ضد البنوك وإغلاق المطار، على أمل ضبط إيقاع رد فعل صنعاء.
وفيما قدمت السعودية المليشيات المحلية كطرف رئيسي في مفاوضات تبادل الأسرى، فإنها كانت الطرف الذي عرقل المفاوضات، ولم يكتف بذلك، بل منع حتى التجاوب مع الوساطات الاجتماعية المحلية التي استعانت بها صنعاء لعقد صفقات تبادل جزئية وتخفيف معاناة الأسرى، وبناء على العديد من التجارب السابقة يمكن القول إن الرياض تحتفظ بهذا الملف لاستخدامه بشكل جزئي أو كلي عند الحاجة إليه كورقة مساومة من أجل تهدئة تصعيد ما، أو كسب وقت، أو ابتزاز!
وإذا كانت كل هذه الألاعيب والحيل تمارس ضد أوراق بسيطة من ملفات إنسانية بحتة في إطار أجواء كانت توصف بـ”الإيجابية”، فإن حل ملفات مثل “الموارد” و”المرتبات” سيكون أكثر صعوبة من خلال أي اتفاقات بلا ضمانات أو ضغوط عسكرية موازية، في ظل تزايد ملامح ودلائل التصعيد وهرولة الرياض نحو المعسكر الأمريكي الإسرائيلي بشكل أوضح، والحقيقة أن تجربة التعامل مع رحلات مطار صنعاء تكفي لتوضيح سبب عدم مضي الرياض في مسار “خارطة الطريق” فقبل أن تكون هناك أية “ضغوط أمريكية” حسب التوصيف المفضل للبعض، لم يكن هناك أي دليل ملموس على وجود أي رغبة حقيقة لدى الرياض في الذهاب نحو سلام فعلي، بل كان هناك أطنان من الأدلة على انعدام هذه الرغبة.
وحتى على فرض أنه كانت هناك في مرحلة ما رغبة للسعودية للسلام، فإنها ظلت حبيسة طاولة المفاوضات، لأن ما شوهد على الواقع منذ التوقيع على اتفاق الهدنة مرورا بتفاهمات “خفض التصعيد” وحتى الآن، لم يكن سوى حرص على تجنب السلام الفعلي، والمحافظة الشديدة على كل مسارات التصعيد بما في ذلك الاقتصادية والانسانية، وقد برز ذلك بشكل أوضح خلال فترة العدوان الأمريكي البريطاني الإسرائيلي ضد اليمن أثناء معركة طوفان الأقصى، حيث لم يكن استخدام البنك المركزي في عدن كواجهة للتحرك ضد القطاع المصرفي في المناطق الحرة واستخدام شركة “اليمنية” في عدن كأداة لإغلاق مطار صنعاء، أمور خارجة عن السياق المألوف، بل بدا بوضوح أن التعنت السعودي قبل طوفان الأقصى، كان متعمدا لأجل ظروف مثل تلك التي أعقبت الطوفان، وبدا أن الرياض تحاول فقط أن تجني ثمارا زرعت بذورها مسبقا بحرص شديد.
بعبارة أخرى: لقد أخرت السعودية عمدا معالجة الملفات الإنسانية والاقتصادية، حتى تأتي ظروف أفضل لإعادة استخدامها كأسلحة وأوراق ابتزاز وضغط، وقد جاءت هذه الظروف، والحضور الأمريكي والإسرائيلي المباشر في المشهد اليوم لا يجعل الرياض أقل تعرضا للمسؤولية، وكذلك للتداعيات.
عودة التحذيرات الرسمية:
من البديهي أن السعودية التي رفضت تشغيل رحلة جوية أسبوعية إنسانية متفق عليها برعاية الأمم المتحدة، واختلقت ذريعة “الضغوط الأمريكية” للتنصل عن أبسط التفاهمات الإنسانية، لن تمتنع عن استخدم قرار إدارة ترامب بتصنيف حركة “أنصار الله” كمنظمة إرهابية أجنبية وما تبعه من عقوبات -على سبيل المثال- كذريعة لمضاعفة معاناة اليمنيين، وهو ما أوحى به تصريح القائم بأعمال رئيس الوزراء في صنعاء محمد مفتاح مؤخرا بشأن “التضييق على تدفق السلع”، الأمر الذي أكد أن ملف ميناء الحديدة لم يكن استثناء من قاعدة الحرص السعودي على إبقاء معاناة اليمنيين مستمرة، فاستمرار وصول السفن إلى الميناء خلال فترة التهدئة لم يكن مجرد بادرة حسن نية من الرياض، بل كان ثمنا اضطراريا لاستمرار حالة وقف إطلاق النار و”خفض التصعيد”، وقد كانت العودة إلى التصعيد في هذا الملف متوقعة منذ إعلان التصنيف الأمريكي الذي كان في الأساس مطلبا سعوديا قديما، وأصبحت الرياض ترى فيه الآن ميدانا مهما للتصعيد الاقتصادي خلف واجهة المليشيات المحلية مع رفع قميص “الضغوط الأمريكية”!
وبالتوازي مع تصريحات “مفتاح” بشأن القيود على تدفق السلع، وعلى وقع تزايد المطالب الشعبية بإنهاء اتكاء السعودية على المعاناة الإنسانية لليمنيين، أعلن كبير مفاوضي صنعاء وناطق حركة “أنصار الله” محمد عبد السلام عن لقاء جمعه بالمبعوث الأممي هانس غروندبرغ، تضمن “بحث مسار السلام المتمثل بخارطة الطريق المسلمة للأمم المتحدة والمتفق عليها مع الجانب السعودي برعاية سلطنة عمان” مشيرا إلى أنه “تم لفت النظر إلى ضرورة استئناف العمل على تنفيذ ما تضمنته الخارطة وفي مقدمتها الاستحقاقات الإنسانية وأنه لا يوجد أي مبرر للاستمرار في المماطلة”.
هذه العودة إلى التذكير العلني بخارطة الطريق وضرورة تنفيذها، بعد فترة من الصمت، تعكس عدم انفصال الجانب الدبلوماسي وبالتالي القيادة عن الموقف الشعبي، كما تؤكد على أن هامش الـ”لاحرب ولا سلام” أضيق من أن يتم استغلاله لتمرير خطوات تصعيدية جديدة مثل التضييق على تدفق السلع، بالإضافة إلى أهمية إعادة الرياض إلى واقع كونها المسؤول الرئيسي عن الاستحقاقات، برغم كل محاولاتها المتراكمة خلال السنوات الماضية لترسيخ مسألة “الوساطة بين اليمنيين” كواقع بديل.
ويمكن القول إن تصريحات عبد السلام كانت بمثابة تحذير أولي للرياض مع إعادة فتح ملف “خارطة الطريق” خصوصا وأن هذه التصريحات جاءت خلال لقاء كان المبعوث الأممي يركز فيه على قضية مختلفة تماما، هي قضية منتسبي المنظمات الذين أوقفتهم الأجهزة الأمنية على خلفية أنشطة تجسسية بعد عملية اغتيال رئيس وبعض وزراء الحكومة اليمنية في صنعاء.
وبينما يبدو واضحا أن الأولويات الدبلوماسية للأمم المتحدة وللسعودية، في الوقت الراهن، بعيدة تماما عن استئناف العمل على خارطة الطريق، برغم كل التكهنات التي تزعم وجود محادثات جارية، فإن تجاهل الإشارات التي حملتها تصريحات عبد السلام ستكون مخاطرة، لأن تصريحات القائم بأعمال رئيس الحكومة في صنعاء محمد مفتاح بشأن التضييق على تدفق السلع، جاءت مرفقة بتأكيدات صريحة على أن “معادلة الميناء بالميناء والمطار بالمطار والبنك بالبنك لا تزال قائمة” وأن “اللعبة” التي يمارسها التحالف “لن تستمر” وهو ما يعكس إدراك صنعاء لحقيقة أن الوضع لم يختلف كثيرا عما كان عليه دائما، إذ لا يزال الضغط العسكري هو الوسيلة الأمثل لإقناع السعودية بالتخلي عن هوسها الدائم بمضاعفة معاناة اليمنيين!
*المصدر/ منصة رادار 360