‏من فيتنام إلى البحر الأحمر… أزمة الجاهزية الأمريكية تعود بأشد صورها

متابعات _المساء برس|

 

منذ سنوات طويلة كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحاول إخفاء التشققات العميقة التي بدأت تفتك بالبنية العسكرية لقواتها المسلحة، خصوصا القوات البحرية التي طالما جرى تصويرها في وسائل الإعلام الغربية باعتبارها “الأسطول الذي لا يشيخ”، أو “القوة التي لا يمكن تحديها” في أي بقعة من العالم.

هذا الخطاب كان جزءاً من صناعة الهيمنة، ووسيلة لإرهاب الشعوب، وإقناع الحكومات الضعيفة بأن التسليم والاصطفاف تحت المظلة الأمريكية هو “القدر” الذي لا يمكن دفعه. غير أن معركة البحر الأحمر الأخيرة التي خاضها اليمن انطلاقاً من موقف أخلاقي وإنساني وسيادي واضح، كشفت أن تلك الهيمنة لم تكن أكثر من وهم ضخم، وأن القوة الأمريكية ليست سوى “فورة صدى” لما كانت عليه ذات يوم، وأن لحظة الانحدار التي كان كثير من المحللين الشرفاء يتحدثون عنها أصبحت الآن واقعاً ملموساً تتحدث به الوثائق الرسمية الأمريكية وليس تقارير الخصوم.

التقرير الأخير الصادر عن مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي (GAO) جاء بمثابة اعتراف نادر ومباشر بأن الولايات المتحدة تواجه أزمة حادة في البنية اللوجستية والعسكرية لأسطولها البحري. التقرير لم يأت في سياق نقد إعلامي أو تصريحات متبادلة داخل المؤسسة السياسية، بل صدر من جهة رقابية أمريكية حكومية رفيعة، ما يعني أن الكلام لم يعد يحتمل الإنكار. التقرير أكد بوضوح أن أطقم البحرية الأمريكية اضطرت إلى “تفكيك” قطع من طائرات وغواصات عاملة من أجل استخدامها كقطع غيار لمعدات أخرى، في مشهد يعيد إلى الذاكرة مباشرة ما سُمّي في التاريخ العسكري الأمريكي بـ “الجيش الأجوف” خلال فترة ما بعد حرب فيتنام، حين انهار الجاهزية القتالية للجيش وبدأت الوحدات العسكرية تتآكل تحت ضغط الإنهاك وعدم القدرة على التعويض.

لكن الفرق بين أزمة “الجيش الأجوف” القديمة والأزمة الحالية أن الأولى كانت نتيجة حرب خاضها الأمريكيون بعيداً عن أراضيهم، بينما الأزمة الجديدة تكشف انهيار القدرة على الحفاظ على البنية العسكرية حتى في زمن السلم النسبي، أي أن المشكلة ليست ظرفية مرتبطة بجهد قتالي، بل هي بنيوية داخل النظام العسكري والصناعي الأمريكي نفسه.

التقرير تحدث عن آثار خطيرة لسياسة تفكيك المعدات لا تقتصر على ارتفاع التكاليف أو زيادة الضغط على الأطقم الفنية، بل تمتد إلى إضعاف جاهزية الأسطول القتالية على المدى الطويل. وهذا بحد ذاته، في علم الاستراتيجيا العسكرية، مؤشر على مرحلة ما قبل العجز الاستراتيجي. الأساطيل البحرية ليست مجرد سفن وطائرات وغواصات، بل هي شبكات متشابكة من الإمداد والصيانة والدعم اللوجستي والاستخبارات والجاهزية الدائمة. أي خلل في حلقة واحدة يؤدي إلى شلل كامل في بقية السلسلة.

وفي جانب آخر من التقرير، جرى الكشف عن أن برنامج الطائرة F-35، وهو البرنامج الذي تفتخر به الولايات المتحدة وتقدمه على أنه ذروة الصناعات العسكرية الغربية، يعاني من نقص خطير في البيانات التقنية اللازمة لإجراء الصيانة والإصلاح.

بمعنى أن القوات البحرية الأمريكية نفسها لا تستطيع إصلاح طائراتها دون العودة إلى الشركات المصنعة. أي أن الجيش الأمريكي تحول إلى زبون تجاري لشركات الأسلحة، وليس قوة سيادية تمتلك القدرة المستقلة على صيانة سلاحها. هذا ليس ضعفا تقنيا فحسب، بل انهيار في مفهوم الاستقلال العسكري نفسه.

هذه الحقائق لم تكن لتظهر بهذا الوضوح لولا ما جرى في البحر الأحمر. فبفضل الله، ثم بفضل إرادة الشعب اليمني وقيادته المجاهدة، ومعركته الأخلاقية دعماً لأهل فلسطين في غزة، اصطدمت الولايات المتحدة في البحر الأحمر بجدار الحقيقة التي ظلت تهرب منها لعقود.

فالمعركة لم تكن مجرد مواجهة تكتيكية بالصواريخ والطائرات المسيّرة كما يحاول بعض المحللين الغربيين تصويرها، بل كانت مواجهة بين منطقين: منطق الهيمنة الذي يقوم على التهويل والادعاء، ومنطق الصمود والإيمان والقدرة على توظيف أدوات بسيطة ومحدودة بعبقرية استراتيجية تكسر قواعد اللعبة.

لقد حاولت الولايات المتحدة بكل ما تبقى لديها من أوراق أن تظهر بمظهر القوة المتماسكة. نشرت حاملات طائرات، دفعت بالغواصات النووية، أعادت تنشيط شبكات الاستطلاع الفضائي، واستنفرت قواعدها العسكرية في المنطقة. لكنها رغم ذلك فشلت في تحقيق شيء. أصبح البحر الأحمر بالنسبة لها “منطقة تهديد” وليست “منطقة سيطرة”.

السفن التجارية بدأت تتجنب المرور. شركات التأمين رفعت أسعارها. التحالفات السياسية الغربية اهتزت. حتى الحلفاء التقليديون لواشنطن، من أوروبا إلى الخليج، بدأوا يشككون في قدرة البحرية الأمريكية على حماية خطوط الملاحة.

ثم جاءت الواقعة التي هزّت صورة الهيبة بشكل لم يكن ممكناً إصلاحه: سقوط طائرتين أمريكيتين من طراز إف 18 سوبر هورنت وسي هوك من على متن الحاملة يو إس إس نيمتز، خلال دقائق متتابعة، أثناء تنفيذ مهام عملياتية. كان هذا المشهد كافياً ليعيد إلى الأذهان ما تحدث عنه تقرير GAO: أسطول غير قادر على الحفاظ على جاهزية معداته، وطواقم مرهقة، وسفن تحتاج إلى صيانة طويلة، وحاملات طائرات ستخرج قريباً من الخدمة.

حاملة الطائرات نيمتز غادرت البحر الأحمر باتجاه بحر الصين، في واحدة من أكثر الحركات الانسحابية “الناعمة” التي حاول الإعلام الأمريكي تغليفها بعبارات من قبيل “إعادة تموضع” أو “نشر استراتيجي”. لكن الحقيقة أن الحاملة هربت من ساحة أصبحت مكشوفة فيها، وغير آمنة، وغير مناسبة لفرض الاستعراض الذي اعتادت عليه البحرية الأمريكية في العقود الماضية.

وبحسب خطط وزارة الدفاع الأمريكية نفسها، فإن العام 2026 سيشهد بقاء عشر حاملات طائرات فقط في الخدمة الفعلية، ولكن ليس جميعها ستكون جاهزة للعمل. حاملة الطائرات ترومان تحتاج إلى صيانة قد تمتد لعامين أو أكثر، بينما ما تزال الحاملة أيزنهاور واقفة في موانئ الصيانة منذ عشرة أشهر، ولم يعد أحد قادراً على إعطاء موعد نهائي لعودتها إلى الجاهزية.

هذه الحقائق ليست تقنية فحسب، بل استراتيجية بامتياز. القوة البحرية ليست مجموعة سفن. إنها الهيكل المركزي المسيطر على التجارة العالمية، وذراع السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية في العالم. وحين تسقط هذه الذراع، تسقط الإمبراطورية.

الولايات المتحدة اليوم لا تواجه أزمة مؤقتة، بل أزمة نهاية دورة تاريخية. فالنموذج العسكري الأمريكي بُني على الهيمنة البحرية. ولكن ماذا يحدث حين تخرج منطقة حيوية مثل البحر الأحمر عن السيطرة؟ ماذا يحدث حين تصبح حاملات الطائرات عبئاً لا ميزة؟ ماذا يحدث حين يصبح الوجود الأمريكي في البحار محفوفاً بالخطر؟

الذي يحدث هو ما نراه الآن: تصدّع التحالفات، ارتباك الاستراتيجيات، وتراجع القدرة على فرض الإملاءات. والفضل في ذلك، بعد الله سبحانه وتعالى، يعود إلى الإرادة التي خرجت من جبال اليمن، وإلى الصواريخ التي انطلقت من الصحاري والسهول والجبال اليمنية، وإلى الطائرات المسيّرة التي صنعتها عقول اليمنيين تحت الحصار، وإلى القرار السياسي الذي لم يخضع، وإلى الإيمان الذي جعل من شعب محاصر قوة تكسر جبروت أسطولٍ كان يقال عنه إنه يهيمن على سبعة محيطات.

الولايات المتحدة اليوم تواجه “أزمة الجيش الأجوف 2.0″، لكن هذه المرة ليس بعد هزيمة خارجية طويلة، بل أثناء مواجهة مع شعب محاصر، لا يمتلك سوى إيمانه، وصناعته العسكرية المحلية، وقرار سياسي حر. وهذا وحده كافٍ ليقول إن التاريخ يعيد كتابة نفسه، ولكن من زاوية مختلفة تماماً.

 

*المصدر: منصة رادار 360

قد يعجبك ايضا