زيارة الجولاني للسعودية وارتباطها بمخططات “إعادة تشكيل الشرق الأوسط”

محمد بن عامر – المساء برس|

في خطوة لافتة للأنظار، زار أحمد الشرع (المعروف باسم أبو محمد الجولاني)، رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، المملكة العربية السعودية في أول زيارة خارجية له منذ تسلمه السلطة في أعقاب سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024.. تفاصيل:

هذه الزيارة التي جاءت بعد أيام من زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد إلى دمشق، تكشف عن تحركات دبلوماسية نشطة في المنطقة ترمي إلى إعادة رسم خارطة العلاقات في ظل المستجدات السياسية الجديدة في سوريا. فماذا تعني زيارة الجولاني للرياض؟ وما هي الأهداف والأبعاد الاستراتيجية المرتبطة بها؟ وما هي انعكاساتها على المشهد السوري المستقبلي؟.الصورة التي نشرتها الرئاسة السورية للشرع ووزير خارجيته، أسعد الشيباني، جالسين في طائرة سعودية، ليست إلا إعلانٌ عن تحول جيوسياسي يعيد رسم خريطة التحالفات، ويفتح ملفات ساخنة عن “مشروع الشرق الأوسط الجديد” و”صفقة القرن”، التي تسعى أمريكا لفرضها على المنطقة.

لا يخفى على المراقبين أن مسيرة الجولاني الذي ولد وتربى في الرياض (كما يؤكد بنفسه على ذلك) من قيادي بتنظيم القاعدة في العراق،  إلى كرسي الرئاسة في دمشق، لم تكن مجرد صدفة، بل هي نموذج متقن لـ”إعادة تدوير الإرهاب” ضمن استراتيجيةٍ أمريكيةٍ تتبنى مبدأ “العدو اللازم”، كما يبدو وكأنه سيناريو مخابراتي صمم بعناية أمريكية صهيونية.

فبعد أن أدرجته واشنطن على قوائم الإرهاب عام 2008، تحوّل فجأةً إلى “شريك” في الحرب على الإرهاب! و”رئيس شرعي” تستقبله السعودية بحفاوة!كيف ؟ هنا تجيب نظرية “الشرق الأوسط الجديد” التي طرحها برنارد لويس وتطبقها الحكومات الأمريكية المتعاقبة، المتمثلة في تفكيك الدول العربية إلى كيانات طائفية وعرقية ضعيفة، تدار عبر وكلاء محليين، وتوجه من قبل القوى الكبرى.

الجولاني، بمرجعيته السنية وعلى أساس ارتباطاته بالسعودية، هو الوجه الأنسب لقيادة “سوريا الجديدة”، التي ستتحول إلى دولة تابعة للمحور السني- الخليجي، تكمل المثلث مع العراق المقسم ولبنان المنهك، لخدمة المخطط الإسرائيلي بإنشاء “حزام أمني” يحيط بإيران ويضعف محور المقاومة.

إعادة تدوير “إرهابي” أم شريك سياسي؟

بعد سقوط النظام السوري السابق، استيقظت سوريا على تحولات جذرية غيرت الموازين بشكل دراماتيكي في جميع المجالات، خاصةً السياسية والأمنية، برز فيها الجولاني الذي تولى الرئاسة في مرحلة انتقالية، كبيدق جديد يحمل على عاتقه مسؤوليات مرتبطة بمخططات طويلة الأمد للقوى الكبرى لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، بعد أكثر من قرن على معاهدة سايكس بيكو 1916” التي تجاهلت التنوع الديموغرافي والعرقي في المنطقة.

تحولات ومؤامرات

ولدت هذه التحولات في خضم مسار تاريخي طغت عليه المؤامرات، وما زيارة الشرع إلى السعودية في ظل حراك سياسي دبلوماسي كثيف، إلا خطوة جديدة محكمة التخطيط والتنفيذ، لتأتي في سياق البحث عن تقارب يجمع وجهات النظر حول المشهد السوري، خصوصا بين المملكة وتركيا اللتين تتزاحمان على قيادة الملف السوري، في إطار محاولة الوصول إلى توازن بين اللاعبين الإقليميين للعبة الدومينو الدولية.

الزيارة –  كما لم تبدو على منصات الإعلام الرسمي للدول ذات الصلة – تمثل حدثاً مفصلياً في المشهد السوري المعقد، لتتجاوز أهميتها البعد المالي الضروري لإعادة إعمار البلاد المدمر إلى حمل أبعاد سياسية واستراتيجية عميق، تعيد تشكيل خريطة النفوذ الإقليمي والدولي وتثير تساؤلات حول مستقبل سوريا ودورها في مشروع الشرق الأوسط الجديد.

السعودية وقطر.. وجهان لعملة التطبيع

الزيارة السعودية لم تكن منفصلة عن زيارة أمير قطر تميم بن حمد إلى دمشق قبل أيام، فكلا التحركين يشيران إلى تنسيق خليجي تحت المظلة الأمريكية الإسرائيلية.

السعودية—التي تظهر نفسها كـ”زعيمة العالم السني”—تسعى لضمان ولاء سوريا المستقبلية لمرجعيتها الدينية والجيوسياسية، بينما تلعب قطر دور الوسيط والداعم المالي لضخ أموال الإعمار، لكن الهدف الأعمق هو تفريغ سوريا من هويتها القومية، وتحويلها إلى “دولة تابعة” تدار من الرياض والدوحة وأنقره، تحت مظلة أمريكية-إسرائيلية، وهذا ما تؤكده التصريحات السعودية القطرية التركية الأخيرة التي تخفي وراءها اتفاقيات أمنية واقتصادية تكرِس التبعية.

لذلك سوريا أمام تحديات كبيرة، وضغوط إقليمية ودولية مع أجندات متضاربة تعقد المشهد بشكل كبير، وبالتالي زيارة الجولاني للسعودية، وما رافقها من تلميع إعلامي من الشرق والغرب، تدل على الارتباط الوثيق بمخططات تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة وإعادة تدوير النظام السوري الجديد كحارس لحدود كيان الاحتلال من الجهة السورية والمحافظة على المصالح الإسرائيلية.

معركة النفوذ وأنابيب النفط وشبكة التحالفات

تشير المعطيات على أرض الواقع إلى جهود دولية حثيثة لإيجاد موطئ قدم في سوريا بعد صعود الجولاني، والرياض تعتبر في طليعة الدول التي كلف لها لعب هذا الدور من خلال مشروع لمد أنابيب نفطية عبر الأراضي السورية إلى الأسواق الأوروبية مما من شأنه أن يُشكّل ضربة قويةً للمصالح الروسية، التي بدورها، تعمل على ضربه في مهده من خلال محاولات تعزيز علاقاتها مع تركيا، وفتح مركز نفطي عملاق لتزويد أوروبا بالطاقة.

وهكذا، يتحول الصراع في سوريا إلى معركة على النفوذ والطاقة، بين قوى إقليمية ودولية تتسابق على اقتسام “الكعكة السورية، بعد أن تأمروا على إسقاط النظام السوري السابق برئاسة بشار الأسد والذي أعقب سقوطه احتلال إسرائيلي للمنطقة العازلة وتوسعها في الاستيطان السوري، بما يشير إلى مؤامرة خطيرة قطف ثمارها الإسرائيليون.

رغم أن النظام الجديد يروج لشعارات “الإنقاذ الاقتصادي” و”منع الانتقام الطائفي”، إلا أن الوقائع تكشف أن الأولوية الحقيقية هي:

– ترسيخ السيطرة الميدانية عبر إخضاع الفصائل المسلحة لقيادة الجولاني، الذي حوَّل من “قائد إرهابي” إلى “رجل دولة” بضغطة زر أمريكية.

– إعادة سوريا إلى الجامعة العربية كغطاء شرعي لتمرير التطبيع مع الاحتلال، بعد أن أصبحت الدول العربية المساندة—مثل السعودية والإمارات—أكثر انفتاحاً على الكيان الإسرائيلي.

– تصفية القضية الفلسطينية بإغلاق مكاتب الفصائل الفلسطينية في دمشق، كما أشارت التغريدات الناقدة، تمهيداً لـ”صفقة القرن” التي ستنهي الصراع على حساب الحقوق الفلسطينية.

وفي هذا السياق جاءت تصريحات ملفتة للنظر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد لقائه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تُنذر بقرب تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد، دون أن تلقى أي رد عربي رسمي، ما يؤكد أن الأنظمة العربية بما فيها تلك التي ترفع شعارات القومية أصبحت جزءاً من الآلة التي تديرها واشنطن.

كان سقوط النظام السابق، الذي استغرق ما يقرب من أربعة عشر عاماً من الصراع، نتيجة مؤامرة معقدة ضمت جهات دولية وإقليمية، عملت على إضعاف النظام من الداخل والخارج، مستغلة الانقسامات الاجتماعية والسياسية، واللافت هنا الدور الأمريكي المدفوع بمجموعة من الأهداف، أبرزها إضعاف نفوذ إيران وروسيا في المنطقة، وضمان أمن “إسرائيل”.

إضعاف النظام السوري، الذي كان يعتبر قوة مناوئة لـ”سرائيل”، كان هدفاً استراتيجياً رئيسياً. وقد تم ذلك عبر دعم الجماعات المسلحة المعارضة، وتوفير التدريب والتسليح، بالإضافة إلى شن عمليات عسكرية مباشرة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بتنسيق مع الولايات المتحدة، وذلك انتهى باحتلال الإسرائيلي للمنطقة العازلة في هضبة الجولان، وتوسيعها للاستيطان بشكل ملحوظ، كما تؤكده تقارير صحيفة “واشنطن بوست” التي تتحدث عن بناء مواقع عسكرية استيطانية جديدة في القرى السورية المحتلة.

سوريا على سكة التطبيع مع إسرائيل

ليس من قبيل المصادفة أن تتزامن تحركات الجولاني مع تصريحات بنيامين نتنياهو، الذي أشار من جديد إلى إمكانية إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من خلال التعاون مع الإدارة الأمريكية في مؤشر على اقتراب اكتمال تحقيق المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. ويدل بناء القواعد العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في الأراضي السورية المحتلة ، كما ذكرت صحيفة واشنطن بوست ، إلى خطة طويلة الأجل للتوسع الإقليمي.

نموذج مضغر

المشهد السوري اليوم هو نموذج مصغر لـ”الشرق الأوسط الجديد” المتمثل في التفتيت الطائفي من خلال تحويل سوريا إلى كانتونات سنية وعلوية وكردية، تديرها نخب موالية للخارج، والتبعية الاقتصادية من بوابة السعودية وقطر وتركيا في إعادة بناء النظام السوري بقيادة “معتدلين” يُسهِّلون التطبيع تحت ذريعة الاستقرار.

كانتونات طائفية

والتقرير الاستراتيجي الصادر عن مركز “راند” الأمريكي عام 2016، والذي حمل عنوان “إعادة تشكيل الشرق الأوسط”، حدد بوضوح أن تفكيك سوريا إلى كانتونات طائفية هو السبيل الوحيد لضمان أمن “إسرائيل”. واليوم، وبعد أن نجحوا في إسقاط النظام السابق، تم تسليم السلطة لـ”وكلاء” ينفذون أجندت واشنطن، تحت غطاء “الشرعنة الدولية”، وهذا السيناريو يعيد إلى الأذهان “الاتفاق الإبراهيمي”، لكن بطبعة سورية أكثر خطورة، لأنها تعني عملياً تثبيت الاحتلال الإسرائيلي للجولان ومناطق سورية أخرى، وربط مصير هذا البلد العربي بالتحالفات الأمريكية-الخليجية.

سيناريو مرسوم مسبقا

السيناريو المرسوم مسبقاً يقول إن العرب في طريقهم إلى غروبٍ لا شروق بعده، لكن ربما… فقط ربما… يكون هذا الغروب هو الليل الأخير قبل فجر جديد تبعث فيه الأمم من رمادها، لأن الشعوب الحرة التي مرت بتجارب مماثلة—من فيتنام إلى الجزائر—استطاعت أن تستعيد كرامتها وحريتها رغم كل المؤامرات والخيانات.

قد يعجبك ايضا