في النصر والهزيمة
موسى السادة – وما يسطرون|
«مفهومنا للانتصار والهزيمة مفهوم أي حركة مقاومة في التاريخ، أي منع العدو من تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية، أمّا عدم المقاومة، فهو الهزيمة الكاملة والاستسلام المذل وهذا ما لم يكن ولن يكون» ـــــ الشهيد الحاج محمد عفيف
تقف الليبراليتان العربيتان على مسافة واحدة من الكفاح المسلح ضد الصهيونية، بل إن هذا الموقف أحد شواهد الجذر البنيوي والتاريخي المشترك بينهما. فمذ أن أسست لحظة حزيران 67 لسلّم صعود ليبرالية الأنظمة العربية، فقد ترهلت هذه الليبرالية مع ترهل الدولة العربية وأزمتها، وهو ما استدعى ظهور متحورها الجديد، ليبرالية «الربيع العربي». خاضت الليبراليتيان صراعاً تحت عنوان ثورة وثورة مضادة على مدى العقد الأخير، وحتى لحظة «طوفان الأقصى»، حيث وجدت الليبراليتان نفسيهما في الحاجة إلى التمترس في الموقع ذاته. فقد غطّت لحظة السابع من أكتوبر على لحظة حزيران 67 جذرهما المشترك. وعليه، وصلنا لوضع تجهد فيه الليبراليتان، كل بأدواتها، في إعادة بث الروح في نفسيهما، عبر العمل على إثبات أن ما حدث منذ أكتوبر ما هو سوى تكرار لحزيران. وكل ذلك لإعادة ترميم السّلم ذاته الذي صعَدوه منذ عقود وبالمال ذاته ريع دول الخليج وتمويل الدول والمؤسسات الغربية.
تنطلق من هذه الخلفية محاولات رسم سردية الهزيمة من الليبراليتين، فمن جهة تعمل ليبرالية الأنظمة، وفي تحالف مباشر وغير مسبوق مع الصهيونية، على هزيمة المقاومة العربية، إعلامياً وعسكرياً، وذلك لإثبات المبدأ ذاته أن القوة والضعف ليستا صفاتاً مكتسبة وأن الواقعية هي الهزيمة وإلى آخره من الديباجة المعهودة. أمّا ليبراليو «الربيع العربي»، فيعملون بالذهنية ذاتها التي انبثقوا عبرها، وهي أنهم يمثلون الليبرالية العربية الجديدة والشابة، أمام ترهّل الأنظمة ورموزها، وأنهم «الأذكى» والمتعلمون والأكاديميون والقارئون للحداثة والملتزمون بالليبرالية الغربية وقيمها كاملة، اقتصاداً حرّاً ونظام حكم ديموقراطياً.
ولذلك، يحاول ليبراليو «الربيع العربي» تقديم الهزيمة وتقييمها بأدوات مختلفة وإن كانت من مورد ليبرالية الأنظمة ذاته. فما يعملون عليه يقوم على وجهين: الوجه الأساسي تقديم هزيمة 67 كلحظة مرجعية ونموذجية، وعبرها يقومون بتوليد المقياس المعياري للنصر والهزيمة. أمّا الوجه الآخر، ولأنهم الليبرالية المتعلمة والتي تلتمس المعرفة العلمية، فيقومون بإعادة تقديم تجارب التحرر الوطني الناجحة السابقة عبر قراءة تؤول لإثبات أنها في الحقيقة لم تكن ناجحة كما يصوّر، أو أن نجاحها كان لظرف تاريخي له خصوصيته النادرة وغير متكررة، وتشير هذه الندرة إلى لحظة كانت فيها الإمبريالية الغربية في حالة ارتباك أو ضعف، وما هو بالنسبة إلى الليبرالية استثناء نادر لقاعدة القوة المطلقة لإمبريالية الديموقراطيات الغربية وتعاليها الأيديولوجي والقيمي.
ما يهمنا هنا، هو الوجه الأساسي، والذي يجعل حزيران 67 لحظة معيارية للنصر والهزيمة. فما يقوم به ليبراليو «الربيع العربي» هنا هو خلط -قد لا يكون متعمداً لأن 67 جزءاً من تركيبة حمضهم النووي فيقومون باستعادتها كنوع من الحنين للماضي- بين معيار الهزيمة والنصر للجيوش في الحروب المتناظرة مع حالة كفاح مسلّح لحركة تحرر وطني وحروب اللاتناظر. ويبنون على ذلك معيار أن المقاومة العربية لا تحقق «انتصاراً عسكرياً» بل «صموداً بطولياً» في أفضله، أو كوارث ومآسي ونكبات إستراتيجية.
المسألة أن مفهوم النصر والهزيمة في الكفاح المسلح وحروب التحرر الوطني هو مفهوم قائم بذاته، وأن النتيجة والثمن الإستراتيجي الذي تحصله الجيوش النظامية في الانتصارات المتناظرة، تحصل عليه حركات التحرر بالانتصار اللامتناظر. يضاف إلى ذلك، أن آلية عمل إستراتيجية الكفاح المسلح هي عملية تراكم هذه الانتصارات اللامتناظرة في إفشال أهداف العدو وصلابة المقاومة، والأهم تحويل هذه المعادلة إلى عملية تاريخية متراكمة تؤول للتحرير، وهذا تحديداً هو جوهر الصراع ومعيار الانتصار فيه، ومن دون هذا المعيار تكون جميع تجارب فييتنام والجزائر لم تحقق انتصاراً عسكرياً بل هي عبارة عن هزائم متلاحقة وتراكم للكوارث أدت بشكل ما للتحرير والاستقلال.
إنما، وفي الوقت ذاته، تبرز هنا مسألة أساسية حول جبهة المقاومة والكفاح المسلّح، وبما يتصل بأهمية النقد الذاتي، وهو أن أحد أبواب تسلل منظور ليبرالي «الربيع العربي» كمعيار، وحاجتنا اليوم إلى إعادة تقديم مفهومنا للانتصار، هو أننا عانينا من حالة بث انتصارية إعلامية مفرطة، وحرمية تقييم الواقع والذات خارجهما، وبحراس لهما أشبه بخصال الأنظمة العربية منه للحركات الثورية، بما غيّم على مفهومنا للنصر. ولذلك يجب أن نذكر أنفسنا دائماً، أن خيارنا وإستراتيجيتنا القائمة على الكفاح المسلح ضد المشروع الصهيوني تخضع لمعيار انتصار حركات المقاومة في النجاح في الصمود وإفشال الهدف المركزي للعدو في تحييد المشروع عن منهجه ومساره وتطوّره، كما نجح مع مشروع النظام الرسمي العربي بقيادة مصر الناصرية بعد حرب أكتوبر 73. وبهذا المعيار والتطلع يمسي تقييم الوضع والعلاقة النفسية مع الحرب و«الطوفان» ليست مختلفة فقط، بل بشكلها الأسلم والأكثر صوابية.
من هنا أيضاً علينا الوعي أنه وحتى من مظلة انتصار حركات التحرر، فطبيعة المشروع الصهيوني وحالة الوطن العربي تمثلان خصوصية وظرفاً خاصاً بما يؤثر على معيار النصر. ففي حين أن كفاحنا المسلح ضد الصهيونية هو كسائر حروب التحرر في كونها عملية تاريخية طويلة من مراكمة الصمود وترسيخ المعادلات وتخطي مراحل توحش العنف الاستعماري حتى تتفكك المستعمرة وفرض رحيل الجيوش الغازية. فهو لظرف تقسيم الوطن العربي، يدخل عامل آخر في المسار، وهو أن عملية الصراع والانتصار على الصهيونية لا يمكن لها أن تكون موضعية، إذ إن مجال معيار النصر والهزيمة هو مجال عربي واحد. وأن الكفاح المسلح ضد الصهيونية في جوهره التاريخي كفاح ضد مشروعين غربييّن: بلفور 1917 وسايكس بيكو 1916. إذاً هو عملية تاريخية ضد هذين المشروعين في آن واحد، نقض الحدود ونقض «وطن اليهود».
ولذلك، كان من مفهوم النصر بالنسبة إلى «إسرائيل» النجاح في تسديد ضربات للجيوش العربية للقبول بحدود سايكس بيكو بما يؤول للقبول ببلفور. وعليه، يقع التنظير لإستراتيجية مقاومة وكفاح مسلح حبيسة في إطار الحدود الوطنية أو ما دون الوطنية في حيز خارج عن معيار النصر ومساره. وبما يعطف عليه، كارثة المحاولة التوفيقية بين الحدود وفكرتها وعملية التحرر من الصهيونية، والتي أوجدت الثغرات التي استغلها العدو. بل إن معيار الانتصار على الصهيونية يقع في مزاوجة بين نجاحنا في الصمود والنصر العسكري والانتصار الأيديولوجي لهوية الأمة ورسم مشهدية المنطقة المستقبلي عبرها. وهذا ما خطونا عبر «الطوفان» فيه خطوات كبرى وبتضحيات كبرى، وهو مكسبنا الإستراتيجي الأساسي في هذه الحرب، ومعيار انتصارنا فيها، الذي نذخّر فيه عمليتنا التاريخية الطويلة لإزالة «إسرائيل» من الوجود، وهذا تحديداً ما تقع علينا أمانة التمسك والمراكمة عليه في هذه المرحلة والمراحل المقبلة.