هل باتت أوروبا أقل «ارتكازية» لإسرائيل؟

عبدالمنعم عيسى – وما يسطرون|

حدثان لم يفصل بينهما سوى ساعات: الأول، كان وقوف الولايات المتحدة، يوم 20 تشرين الثاني الجاري، أمام 14 دولة تمثل «شرعة» هذا العالم في «مجلس الأمن»، لتقول لا لمشروع قرار يقضي بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار في قطاع غزة؛ أما الثاني، فتمثل في التوصيف الذي استخدمه الرئيس الأميركي، جو بايدن، للتعليق على مذكرتَي التوقيف اللتين أصدرتهما «المحكمة الجنائية الدولية» بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. إذ وصف بايدن، المذكرتين، في بيانه أصدره بعد ساعتين فقط من صدورهما، بـ«الأمر الشائن»، رغم أن الأمر نفسه لم يعتبره «شائناً» عام 2009 عندما أصدرت المحكمة عينها مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير بالتهمة نفسها، ولا كان كذلك عام 2023 عندما صدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في السياق ذاته.
ولعلّ المشهد المرتسم على ضفاف الحدثين كفيل برسم خريطة «العزلة» الأميركية، في وقت بدا فيه المشهد المشار إليه هو «الأصعب» مقارنةً بما مر على الولايات المتحدة منذ بروزها كقطب عالمي أوحد عام 1991. إذ لم يكن الحدثان، رغم أن مضامينهما تنبئ بتداعيات عدة، «محرجَين» للولايات المتحدة التي اندفعت بقضها وقضيضها للدفاع عن «عالمية التهديد الذي تتعرض له إسرائيل»، علماً أن كلتا الحالتين ترافقتا مع استثناءات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة برزت في مواقف بعض أعضاء الكونغرس الذين مالوا، في الحالة الأخيرة، إلى القول إن «الأمر هو قانوني بحت، ومن الواجب النظر إليه من هذه الزاوية». ولعلّ للموقف الأميركي «الحاد» أبعاداً عدة، بعضها يتعلق بحالة الارتباط القائمة بين الطرفين منذ عام 1967، حيث استطاعت إسرائيل في ما بعد حربها التي شنتها خلال صيف هذا العام الأخير، وصولاً إلى ما قبل حرب 2006، أن تحقق نوعاً من «استقلالية» القرار بعيداً عن «التبعية» التامة، انطلاقاً من كونها «ذراعاً» قادرة على أداء وظيفتها.
ومع ذلك، الذراع يجب أن يبقى على «مسافة ما» من «الأوامر» الأميركية، لاعتبارات تتعلق بطبيعته وتركيبته وما تتطلباته، الأمر الذي يفسر المسعى الإسرائيلي البادي بوضوح، منذ بدء حربي غزة ولبنان، إلى المضيّ نحو مزيد من التمرد على واشنطن. وربما يمكن فهم المواقف الأميركية، القائمة على حال من التماهي التام مع تل أبيب بالتزامن مع العزلة الدولية التي باتت تحيط بها، على أنها محاولة لاستعادة السيطرة تماماً على «الحالة» الإسرائيلية التي اشتد تمردها في المرحلة القريبة الفائتة، وخصوصاً بعدما هددت مذكرات التوقيف بانتهاء رحلة الكيان «الشرعية» على الساحة الدولية. لكن رغم ما تقدم، ثمة حاجة إلى إجراء تقييم، لا بديل منه، يأخذ في الحسبان ظروف التكوين والنشوء، والتي قد تفضي إلى «تماثلية» قد تكون داعمة لحبال الربط القائمة بين الطرفين. فبعد حالة «البلطجة» التي أظهرتها واشنطن، بضفتيها الديموقراطية والجمهورية، تجاه قرار «الجنائية الدولية»، بات لزاماً التفكير في جدلية تلك التماثلية.

تدرك «الدولة العميقة» الأوروبية أن تحول بوصلة «الرأي العام» سوف يؤدي إلى عودة «المشكلة اليهودية» إلى مجتمعاتها

والجدير ذكره، هنا، ما أوردته «روزنامة العام 2010» من أنه «كان عديد السكان الأصليين عند تنامي الهجرات الأوروبية إلى الأراضي المسماة اليوم بالولايات المتحدة الأميركية نحو 130 مليون نسمة، وهم اليوم بعدد لا يزيد عن المليون الواحد». ويشرح تقرير الروزنامة المشار إليها، الأسباب التي أدت إلى هذا التناقص الهائل في عديد السكان الأصليين، بالقول إن «ذلك كان لأسباب عدة لا تشكل الحروب سوى جزء منها، ولعل الأبرز منها هو الأوبئة والأمراض التي تعرّض لها هؤلاء، في الوقت الذي فرض فيه عليهم القادمون الجدد حصاراً كان كفيلاً بتعرضهم لموجات (تطهير) بدت وكأنها من نتاج الطبيعة، لكن الفعل البشري كان واضحاً فيها». وبالتالي، لعلّ ما تفعله إسرائيل، منذ قيامها، يكاد يستنسخ تماماً ذلك النموذج، أي الفعل الذي ينتج «رباطاً» جديداً لا يمكن إغفاله.
وعلى الضفة المقابلة، كانت المواقف الأوروبية متناقضة تماماً إزاء الحدثين المشار إليهما، مع استثناء مجري وحيد حيال قرار «الجنائية» تماهى مع المواقف الأميركية. ولعل هذا يشير إلى دلالة واضحة هي أن أوروبا باتت أقل «ارتكازية» للمشروع الصهيوني، ومرد ذلك يعود إلى عوامل عدة راحت تتبلور منذ عقود، أبرزها أن الأوروبيين أيقنوا تماماً بأن تطورات المشروع ومآلاته، ستفضي حتماً إلى خروجه تماماً عن دور «التخادم» الذي كان قائماً، مع محور باريس – لندن ، منذ عام 1948، ثم استمر برتم أقل ما بعد محطتي 1956 و1967. على أنه بات محكوماً، في طبعته المستجدة، بعوامل عدة تصب قنواتها، شيئاً فشيئاً، عند الشطآن الأميركية فحسب. ذلك أن «الدولة العميقة» الأوروبية باتت تدرك أن تحول بوصلة «الرأي العام» الذي شهد هزات عنيفة على خلفية التظاهرات التي اندلعت في أرجاء القارة بعيد أشهر على اندلاع المجازر في غزة، سوف يؤدي إلى عودة «المشكلة اليهودية» إلى مجتمعاتها من جديد.
لكن العودة هنا ستكون في سياق آخر غير ما كانت عليه مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى «المحرقة» التي كانت نتاجاً لصعود «اليمين الفاشي» في ألمانيا. وإذا ما كانت الأدبيات المطروحة، آنذاك، لحل تلك «المشكلة» قد نجحت عبر المزج ما بين «معاداة السامية» و«معاداة الصهيونية»، لإنتاج حالة مجتمعية – ثقافية داعمة للحل الذي ارتأته أوروبا، والذي تمثل بالإعلان عن «دولة» إسرائيل عام 1948، فإن أوروبا باتت مضطرة إلى إعادة النظر في هذه المسألة على خلفية الانزياحات الحاصلة في المزاج العام لشعوبها، وهي من دون شك تلحظ أن ثمة رياحاً باتت على وشك أن تهب على أراضيها، كنتاج للانزياحات نفسها التي تشق طريقها نحو مظاهر أشد بروزاً سيكون من الصعب، على صانع القرار، تجاهلها.

* الأخبار اللبنانية.

قد يعجبك ايضا