عن «إضافات» بوب وورد المصرية

عبدالمنعم علي عيسى – وما يسطرون|

لم يقذف لنا بوب وورد، الصحافي الأميركي الاستقصائي ومفجر فضيحة «ووترغيت» الشهيرة التي أودت بالرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1974 ، في كتابه الأخير «الحرب»، بجديد تجاه المواقف السعودية من الصراع الدائر في المنطقة منذ انزراع إسرائيل فيها عام 1948. فالسياقات التي قدّمها، والتي استند فيها إلى ما قاله ولي العهد السعودي للوزير الأميركي أنتوني بلينكن خلال اللقاء الذي جمعهما بالرياض في أعقاب عملية «طوفان الأقصى»، لربما كانت «متأخرة» عن تلك التي اتخذها «أعمامه» تبعاً لوثائق عدة باتت في المتناول. فابن سلمان الذي قال للوزير الأميركي إنه «مهتم بالتطبيع»، وإن «ما قامت به حماس لن يغير الكثير في توجهات المملكة السعودية الرامية إلى تطبيع العلاقة مع إسرائيل»، لا يمكن إدراجه، فحسب، في سياق حسابات ابن سلمان السلطوية، رغم أن الأخيرة تلعب دوراً لا بأس به، بل تتعداها لحسابات تتعلق بالعرش السعودي برمته وكيف ينظر إلى موقعه وسبل استمراره في ظل تمدد النار الحاصل على امتداد المنطقة، والتي إن استعرت أكثر فإن شبه الجزيرة العربية لن تكون بمنأى عنها بالتأكيد. «التأخرية» هنا تتأتى من محطات ومواقف سابقة عدة؛ يورد الكاتب حمدان حمدان في كتابه «عقود من الخيبات» الصادر عام 1995، وثيقة يعود تاريخها إلى 27 كانون الأول 1966، وهي تحمل الرقم 342 من سجلات مجلس الوزراء السعودي، وهي عبارة عن رسالة موجهة من الملك فيصل إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون، وفي تضاعيفها يعرض الملك للطلبات التالية: أن تقوم أميركا بدعم هجوم إسرائيلي خاطف على مصر «تستولي به على أهم الأماكن الحيوية»، لتضطر مصر معه «لا إلى سحب جيشها من اليمن صاغرة فحسب، بل لانشغالها عنا بإسرائيل لمدة طويلة لن يرفع بعدها أي مصري رأسه خلف القناة، أو يحاول من جديد إعادة مطامع محمد علي في وحدة عربية». ثاني المطالب يخص سوريا التي «يجب أن لا تسلم من هذا الهجوم، مع ضرورة اقتطاع جزء من أراضيها كيلا تتفرغ هي الأخرى فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط مصر». أمّا ثالثها، فيذهب إلى ضرورة «الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة، كيلا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك، أو تستغلهم أي دولة عربية بحجة تحرير فلسطين». والرابع يوصي بـ«تقوية الملا مصطفى البارزاني شمال العراق بغرض إقامة حكومة كردية فيه، تكون مهمتها إشغال أي حكومة في بغداد عنا». وتشير الرسالة في هذا السياق إلى أن المملكة «بدأت منذ عام 1965 بخطوات في هذا الاتجاه». سياق الوثيقة يوضح تماماً أن الإستراتيجية العليا للمملكة السعودية تقوم على هدف واحد هو حماية عرش آل سعود، وهذا لا يكون إلا بضرب مراكز الثقل التي كانت متمثّلة آنذاك بالقاهرة وبغداد ودمشق، حتى ولو أدى ذلك إلى انهيار المنطقة برمتها. ولم لا؟ طالما أن «البقاء» يتطلب ذلك؟ أمّا اندفاعة ابن سلمان الجديدة، فمردّها على الأرجح هو شحذ «اتفاق كوينسي»، الموقع ما بين الجد عبد العزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت شباط من عام 1945، بعدما تبين أنه بات يحتاج، سريعاً، إلى فعل من هذا النوع. لكن إضافات بوب وورد على الضفاف المصرية كانت مثيرة للاهتمام، ففي اللقاء الذي أجراه بلينكن مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهو الأول بعد «طوفان الأقصى»، قال الأخير للأول: «لا يهمنا سوى المحافظة على اتفاقية كامب ديفيد، وما يحصل في غزة لا يهمنا بالكثير». وإذا ما كان الشق الثاني من القول «مفهوماً» لاعتبارات تتعلق بكون نظام السيسي لا يخرج في سياقاته عن التركيبة التي فرضتها تلك الاتفاقات منذ عام 1977 فصاعداً، ناهيك بأنه لا يرى في «حماس» سوى طبعة من نظام محمد مرسي الذي قام أساساً على أنقاضه، حيث للفعل أن يغيب أي رؤيا مفادها أن «حماس» حركة تحرر وطني كان لبوسها إسلامياً بسبب فشل المشروع القومي، الذي يمثل وجوده هو في السلطة أحد تجلياته، في التصدّي للهجمة الغربية الحاصلة منذ ربيع عام 2003 فصاعداً، فإن الشق الأول يبدو غير مفهوم. فالاتفاقية التي مثلت الموافقة المصرية عليها أقصى درجات الجهل بالتاريخ، وحقائق الصراع المفروض على المنطقة، لدرجة أن مصر لم تطلب، عند توقيع الاتفاقية، ربط ما يجري التوقيع عليه بتوقيع إسرائيل على اتفاقية الحد من انتشار السلاح النووي، وهذا كان متاحاً في حينها بالتأكيد، لجهة أن السيسي لم يرَ أن إسرائيل انتهكت تلك الاتفاقية، منذ 7 تشرين الأول 2023، ما لا يقل عن خمس مرات وفقاً لتقرير نشرته مجلة «فورين بوليسي» شهر تموز المنصرم. أمّا في اللقاء الحاصل ما بين بلينكن وعباس كامل، رئيس الاستخبارات المصري المقال أخيراً، فإن مكاشفات بوب وورد تفضي إلى أن الأخير قدّم للأول «خارطة طريق» متكاملة لهزيمة «حماس». ففي اللقاء وضع كامل خارطة الأنفاق التي استحصلت عليها استخباراته أمام الوزير الأميركي قائلاً له «انظر إلى هذا، إن أي هجوم إسرائيلياً برياً سريعاً سوف يكون ذا تكاليف باهظة»، ولذا فنحن «ننصح بتأخير الهجوم البري ريثما يخرج مقاتلو حماس من أنفاقهم»، وعندها، فقط، يمكن «قطع رقابهم». وهنا قد لا تكون «النصائح» التي قدمها عباس مهمة من حيث الشكل، لكن المهم فيها، من حيث المضمون، هو أنها تذهب بمصر نحو تراصفات تضعها في جبهة واحدة كحليف في مشاريع أقل ما يقال فيها إنها تهدد الأمن القومي المصري نفسه، الذي تقول تجارب التاريخ إنه يبدأ عند بلاد الشام مروراً بجنوبها الفلسطيني، كان ذلك مفهوماً للسلطان قطز الذي أصر على مطاردة المغول حتى آخر بلاد الشام بعد هزيمته لهم في مصر عام 1259م.
ما تشي به مكاشفات بوب وورد المصرية هو أن قاهرة السيسي تستجدي السلام الإسرائيلي بأي ثمن، حتى ولو أدى الأمر لقبول دخول المنطقة «العصر الإسرائيلي»، وذاك فعل لوحده قد يشكل مدخلاً للحرب، ألم يكن استجداء نيفل تشمبرلين، رئيس الوزراء البريطاني 1939، لسلام هتلر هو المدخل الأكبر لنشوب حرب كادت أن تزيل بريطانيا تماماً لولا أن طموح الزعيم النازي كان يتخطى هذا الهدف ليصل إلى كل «أخواتها» الأوروبيات، اللواتي كانت أراضيهن مسرحاً لأهم التحولات التي يشهدها العالم منذ ستة قرون على الأقل؟

قد يعجبك ايضا