أميركا وإسرائيل بمواجهة الوعي الجمعي لبيئة المقاومة
علي مراد – وما يسطرون|
هذه الحرب ليست كسابقاتها، من حيث ظروف اندلاعها وتسارع أحداثها، ودخول عناصر جديدة فيها. لكن أبرز ما يمكن ملاحظته فيها، مقارنة بحرب تموز 2006، يكمن في إضافة العدو الإسرائيلي إليها أهدافاً غير معلنة، تستهدف الوعي الجمعي للبيئة الحاضنة للمقاومة. إنّ السعي إلى تفكيك هذا الهدف غير المعلن للعدو من الحرب أمر ملحّ وضروري، أولاً لتحطيم آليات التأثير المعادية خلال الحرب، وثانياً، والأهم، للتحضّر لليوم التالي، الذي قد يكون أشدّ على المقاومة وبيئتها من الحرب الخشنة.
منذ بدء العدوان على لبنان في 17 أيلول الفائت، مع تفجير أجهزة البيجر، وفي اليوم التالي تفجير أجهزة اللاسلكي، ثم اغتيال قادة في الجسم الجهادي للمقاومة، ووصولاً إلى الذروة، باغتيال السيد حسن نصرالله، يمكن الاستنتاج أنّ العدو بنى خطته الحربية بناءً على توظيف معلومات ذات طابع استخباراتي لتنفيذ سلسلة ضربات، أُريد لها أن تُحدِث مجموعة من الصدمات، كان الهدف منها سلب المقاومة التوازن، وبالتالي دفعها نحو الانهيار وخضوعها لشروطه، بما يخدم أهداف واشنطن أيضاً لتغيير وجه لبنان وإضعاف محور المقاومة. إن خطأ العدو الأكبر في هذه الحرب هو اعتقاده أنّ طبيعة مقاومة حزب الله لا تختلف عن طبيعة النظام الرسمي العربي عشية نكسة 1967. آنذاك، أُخِذَ العرب على حين غرّة، بعد تدمير العدو حوالى 80% من القدرات العسكرية العربية في الساعات الأولى للعدوان، ما أفضى بعد خمسة أيام إلى تسليمهم بالهزيمة. ترتّب على هذا التسليم بالهزيمة تحقيق العدو أهم مكاسبه في تاريخ الصراع، عندما نجح لعقود بتثبيت خرافة أنّه «الجيش الذي لا يُقهَر» لدى الجزء الأكبر من العقل الجمعي العربي، مع استفادة أنظمة التطبيع من آثار هذه الخرافة.
كما بات معلوماً، حاولت واشنطن – ولا تزال – استثمار «إنجازات» كيان العدو التكتيكية خلال الحرب الحالية على المقاومة لضرب ركائز أساسية، تعتقد أنّ التأييد الشعبي لحزب الله في لبنان يقوم عليها. لا يستند الأميركيون اليوم إلى خطوات ارتجالية ضمن مساعيهم إلى تحقيق هذا الهدف الرامي لضرب أسس تأييد شعب المقاومة لمقاومته. لدى وزارة الحرب الأميركية مؤسسة كبيرة اسمها «مؤسسة راند» تعمل منذ عقود على تطوير برامج بحثية لدراسة حركات التحرّر والمقاومة حول العالم (تسميها واشنطن حركات التمرّد)، لاستخلاص تقييمات وتوصيات تُرفَع للجنرالات ليجري تبنّيها في حروبهم متعدّدة المسارات ضد هذه الحركات. عام 2012، نشرت «راند» ورقة مهمة بعنوان «فهم الدعم الشعبي للتمرّد والإرهاب والتأثير عليه»، كشفت فيها بعضاً مما أنتجه مفكّرو المؤسسة من تقييمات لأسباب التأييد الشعبي لحركات «التمرّد»، عبر دراسة مبنية على «نظرية الحركة الاجتماعية» لأربعة تنظيمات، هي: تنظيم القاعدة، حركة طالبان، حزب العمال الكردستاني، والماويون في نيبال. لا تأتي الدراسة على تناول حركات المقاومة في منطقتنا إلا في موضع واحد، عندما يُذكَر اسم «حماس» و«حزب الله» في معرض الحديث عن فعالية التنظيم قيد الدراسة.
بحسب الدراسة، يقوم الدعم الشعبي لحركات المقاومة و«الإرهاب» على أربع ركائز هي: فعالية التنظيم، الدافع، الشرعيّة المتصوَّرة، وقبول التكاليف والمخاطر. تتفرّع من كل ركيزة من هذه الركائز مكوّنات ضرورية لبناء الركيزة، فمثلاً في «فعالية التنظيم»، هناك القيادة الكاريزمية، والذخيرة الأيديولوجية والتأطير، والقدرة على تعبئة الموارد واستغلال الظروف والتكيّف معها (تحويل التهديد إلى فرصة)، والحضور والتكتيكات والأفعال على الأرض. إن عامل الفعالية بحسب معدّي الدراسة يكاد يكون مولِّداً للركائز الأخرى التي تحكم حجم التأييد الشعبي للتنظيم. إذا ما أسقطنا ما نصّت عليه فروع هذه الركيزة على حالة حزب الله، سنجد أنّ كيان العدو (كمنفّذ مباشر لمهمّة ضرب هذه الركائز) عمل على تحييد القيادة الكاريزمية التي تمثّلت بقائد تاريخي كالشهيد السيد حسن نصرالله، لحرمان بيئة المقاومة من القائد الذي حاكى هواجس هذه البيئة وهمومها وتطلّعاتها، ونقلها من نصر إلى نصر، على امتداد أكثر من ثلاثة عقود. وربطاً بهذا الفعل، أراد العدو، ومن خلفه واشنطن، زرع فكرة خطيرة في اللاوعي الجمعي لبيئة المقاومة، مفادها أنّ اغتيال السيد نصرالله يعني انهيار مسيرة الحزب برمّتها، وبالتالي ستصبح الركائز الفرعية الأخرى التي أتقن السيد الشهيد الإمساك بها وتوجيهها بلا معنى، مع غياب من أتقن تحويل التهديد إلى فرصة، وحرص على حضور حزب الله على الأرض، وعرف كيف يعبّئ بيئته بالذخيرة الأيديولوجية (الإسلامية الحسينية الثورية).
وأمّا الركيزة الثانية، وهي «الدافع» لتأييد التنظيم أو قضيته، فقد أدرج باحثو «راند» ركائز فرعية من نوعين: هوياتية ومصلحية. أمّا الركائز الهوياتية، فهي تقوم على ركائز فرعية هي: المفاهيم الأيديولوجية والدينية، والمفاهيم الثقافية (الحمية والشرف والانتصار للكرامة ورفض المحتل). والركائز المصلحية تتمثّل بالسعي إلى الحصول على التقديمات الاجتماعية وتحسين المكانة الاجتماعية، والحماسة والجاذبية والمجد. كل هذه الركائز، كما سبق ذكره، يربطها الباحثون بالركيزة الأساسية الأولى (فعالية التنظيم)، كمؤثّر ومولّد كبير. صحيح أنّ العدو لم ولن ينجح بضرب هذه الركائز التي تعبّر عن الهوية الثقافية الراسخة لبيئة المقاومة، والتي تعود في جذورها إلى النموذج الحسيني الكربلائي، إلا أنّ العدو حاول أن يستعين بعملائه الذين يرتدون ملابس دينية تشبه ملابس قادة حزب الله ورموزه الدينيين، سعياً إلى مخاطبة بيئة المقاومة ومحاولة التلاعب بعواطفها وهواجسها، للتأثير على خياراتها، عبر كسر تصوراتها وما بنته من مفاهيم تتماهى مع ثقافتها الهوياتية.
في ركيزة «الشرعية المتصوَّرة»، يدّعي الباحثون أنّ التنظيمات «المتمرّدة» تحظى بتأييد شعبي على قاعدة أنّ العنف مسموح وشرعي استناداً إلى الأيديولوجيا الدينية، أو المعتقدات الأخلاقية، أو الحاجة إلى الأخذ بالثأر، أو النزوع الثقافي، أو ببساطة الضرورة. لا يمكن في حالة «حزب الله» أن نتجاوز الخطاب الذي صيغ منذ 8 تشرين الأول 2023 لاستهداف الأسس التي شرّعت تحرّك المقاومة لفتح جبهة إسناد للشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة. بل إنّ الخطاب المشكّك بشرعية تحرّك المقاومة بلغ ذروته بعد اغتيال السيد نصرالله وبعض القادة الجهاديين، عبر تكثيف الضخ والنفخ في سردية «ما لنا وغزة؟» أو مثلاً: «حزب الله هذه المرة فاقد لشرعية ما يقوم به لأنه هو من بدأ استهداف إسرائيل». لقد كان تطرّق الشيخ نعيم قاسم، في خطابه الأول بصفته أميناً عاماً لحزب الله، إلى مسألة الشرعية أمراً بالغ الأهمية، لتذكير من نسي أو تناسى طبيعة العدو ونواياه، وأيضاً لإعادة الشرح والتأكيد على المنطلقات الإنسانية والأخلاقية، التي دفعت حزب الله لخوض هذه الحرب، بعد أن كان السيد الشهيد حسن نصرالله قد شرح مراراً في خطابات سابقة بعد «الطوفان» هذه المنطلقات.
في ركيزة «قبول التكاليف والمخاطر»، تقسّم الدراسة الركائز الفرعية إلى: تقييم المنتصر، المخاطر الشخصية والتكاليف، وتعويض التكاليف والضغوط الاجتماعية. هنا تبرز كل ممارسات العدو الهادفة إلى رفع منسوب التكاليف على صعيد الخسائر البشرية المدنية والمادية لدى بيئة المقاومة، وهي تشمل المجازر وتدمير البيوت والأرزاق، واستهداف أفرع مؤسسة «القرض الحسن»، ناهيك بالضغط لتهجير أكبر قدر ممكن من المدنيين في بيئة المقاومة من الجنوب والبقاع والضاحية إلى مناطق وبيئات أخرى، تُعتبَر في معظمها بيئات تختلف معهم حول مبدأ المقاومة إما مصلحياً أو ثقافياً، لرفع منسوب الأعباء الاجتماعية والمعيشية.
لا بد من التنبّه هنا إلى خطاب إعلام «الليكود العربي»، الذي يحاول من بدء العدوان الضرب على وتر التكاليف التي تدفعها بيئة المقاومة لخدمة هدف العدو بإثارة التساؤل حول جدوى التمسّك بخيار المقاومة، والاستمرار بتأييدها، من باب المصلحة في ظل التكاليف الباهظة التي تدفعها البيئة الحاضنة للمقاومة. أياً تكن نجاحات العدو الصهيوني ومن خلفه أميركا في ضرب هذه الركائز السالفة الذكر، يبقى الخلل الأبرز في تصورات تفكيريّي «راند» وغيرها من مؤسسات الجبهة المعادية متمثّلاً في قصور العقل الغربي عن تفكيك شيفرة «حزب الله» وبيئته، كونه يغفل عمداً الاعتراف بما هو غير مادي في أسباب التأييد الشعبي للمقاومة.