كيف تحوّلت العملية البرية في لبنان إلى معركة استنزاف قاسية لكيان الاحتلال؟
خاص – المساء برس| تقرير: يحيى محمد الشرفي|
مع بدء العملية البرية الإسرائيلية “المحدودة” في جنوب لبنان خلال أكتوبر 2024، يبدو أن القيادة الإسرائيلية تتخبط بين أهداف ضبابية ونتائج باهتة. فما أعلنه الكيان كعملية سريعة وفعالة لتغيير الواقع الأمني على الحدود الشمالية، بات يحمل طابع التخبط والارتباك، ويتحول إلى عملية استنزاف تلقي بظلالها على المؤسسة العسكرية والسياسية في الداخل الإسرائيلي. فهل ينجح الكيان في تحقيق أهدافه أم أنه يتجه نحو مواجهة مفتوحة مع مقاومة لبنانية تتقن الردع وتدير معركة النفس الطويل؟
عملية برية بلا هدف واضح
في تصريحات متتالية لمسؤولين إسرائيليين وأخرى لوسائل إعلام صهيونية، يتضح أن الكيان يدخل في عملية عسكرية غير محسوبة العواقب، يعاني من انقسام في الرؤية حول استراتيجيات التعامل مع المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله. فبينما أعلن اللواء أوري غوردين، قائد قيادة المنطقة الشمالية، عن هدف “ضمان أن حزب الله لم يعد يهدد الشمال”، تشير تسريبات إعلامية إلى أن المؤسسة الأمنية لا ترغب في توسيع نطاق العملية.
الكيان يواجه صعوبة في تحقيق أهدافه على الجبهة الشمالية، ويجد نفسه عالقًا في مواجهة مقاومة أظهرت صلابة واستعدادًا عاليًا في حماية أرضها وشعبها. وما كان يعتبره الاحتلال انتصارًا سريعًا يضمن له الهدوء على الجبهة، بات اليوم عبئًا مع تزايد العمليات النوعية للمقاومة وردودها الاستراتيجية.
مقاومة صلبة وقيادة ثابتة
منذ اغتيال الشهيد الأمين العام لحزب الله، توقع العدو أن تفقد المقاومة قدرتها على القتال. ولكن ما جرى فعليًا هو العكس، حيث أثبتت المقاومة اللبنانية قدرة فائقة على توجيه العمليات والردود المدروسة التي تتناسب مع تطورات الميدان. فمع كل خطوة يتخذها العدو، تظهر المقاومة تكتيكات دفاعية وردعية أثبتت فعاليتها، مما أربك خطط العدو وأسقط رهاناته على حسم سريع.
في الحقيقة، تعد المقاومة اللبنانية اليوم رمزًا للصمود والاستبسال، مستعدة للتعامل مع كافة أنواع التحديات التي يطرحها الاحتلال. وحيثما كانت قوات الاحتلال تضع قدمًا، كانت المقاومة تبث الرعب من خلال عملياتها المحددة. هذا الثبات يؤكد أن المخططات الإسرائيلية لم تعد ترهب المقاومة أو تؤثر في معنوياتها.
تخبط السياسة الإسرائيلية وضغوط الداخل
تبرز التصريحات المتباينة بين السياسيين الإسرائيليين كأحد عوامل الضعف التي يعاني منها الكيان، ففي حين يشدد رئيس الوزراء نتنياهو على استمرار العملية لتغيير موازين القوى، فإن هناك أصواتًا أخرى تطالب بوقف العملية والتراجع قبل أن تتحول إلى كارثة استراتيجية. تأتي هذه الانقسامات على خلفية قلق واسع من كلفة العملية البرية وما تسببه من ضغط نفسي واجتماعي على المجتمع الإسرائيلي، وخاصة على سكان المستوطنات الشمالية الذين يعانون من تهديد دائم.
لقد أدرك الاحتلال الآن أن كسر قوة المقاومة ليس سهلاً، وأن الثمن سيكون غاليًا، وهو ما يدفع الإعلام الصهيوني إلى الحديث عن “إعادة السكان” في الجنوب كأولوية، بدلاً من التفكير في تدمير بنى المقاومة. فبينما يشير غانتس وغلانت إلى “عدم السماح بعودة حزب الله إلى المناطق الحدودية”، يعي الكيان جيدًا أن استمرارية المقاومة لا تتوقف على الوجود في منطقة جغرافية محددة، بل هي إرادة شعبية راسخة تجد في كل قرية ومدينة ملاذًا ودعامة لصمودها.
رهانات فاشلة على كسب حرب نفسية
حاول الكيان منذ بدء عملياته البرية، استخدام أساليب الحرب النفسية للتأثير على المقاومة وتخويف سكان لبنان، لكنه فشل في تحقيق أي نتيجة ملموسة. فما من مكاسب حقيقية تحققت على الأرض، رغم إطلاق العدو لدعايات متواصلة عن “نجاحات كبيرة على خط التماس” و”تفكيك بنى تحتية للمقاومة”، إلا أن هذه التصريحات لا تعكس سوى اليأس والتوتر داخل منظومة الاحتلال. فالواقع الميداني يظهر أن المقاومة اللبنانية ثابتة وقادرة على إجهاض أي تقدم.
العملية البرية المحدودة التي قام بها الاحتلال باتت اليوم تتبدل معالمها شيئًا فشيئًا، لتتحول إلى عملية استنزاف تُرهق الكيان الصهيوني سياسيًا وعسكريًا. إذ يبدو أن المستوطنين الإسرائيليين بدأوا يدركون تدريجيًا أن قيادتهم أخطأت الحسابات، وأنهم يدفعون ثمن طموحات غير قابلة للتحقيق على جبهة الشمال.
المقاومة مستعدة للمواجهة الطويلة
ما يجهله الكيان الصهيوني هو أن المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، تدرك تمامًا أهداف الاحتلال وتسير بخطط استراتيجية قادرة على استنزاف العدو وإحباط محاولاته لفرض سيطرته. ومع عدم وجود خطة واضحة لدى الاحتلال بشأن انسحابه من الأراضي اللبنانية، يدرك أن استمرار العمليات البرية سيدخله في مواجهة طويلة الأمد، وهو ما يراهن عليه حزب الله لإرهاق العدو ودفعه إلى التخبط وإعادة حساباته.
ومع مرور الوقت، يصبح واضحًا أن المقاومة اللبنانية جاهزة لمواصلة المعركة، وأن استراتيجيات الاحتلال لم تعد تقابلها سوى استراتيجيات صمود وابتكار تجعل من كل خطوة تقدمية للعدو مغامرة محفوفة بالمخاطر.
احتلال مؤقت ومقاومة دائمة
في ظل الوضع الراهن، يبدو أن معركة الكيان الصهيوني في لبنان قد دخلت في مرحلة استنزاف تتجاوز حدود الحرب البرية المحدودة. فالمقاومة اللبنانية قادرة على تحويل كل اعتداء إلى فرصة لإظهار صمودها، وإثبات أن هذا الاحتلال لا مكان له في المستقبل. وفي الوقت الذي يحاول فيه الكيان توسيع نطاق عملياته، تدرك المقاومة أنه لا خيار أمامها سوى مواصلة الكفاح، لتظل المعركة النفسية والسياسية قائمة، ولا تزال قوة الردع والمقاومة أقوى سلاح في مواجهة مخططات الاحتلال، الذي سيجد في النهاية أنه أمام واقع لا مجال لتغييره.