طبيعة الحرب الحاليّة: الاستنزاف أُفُقاً
ورد كاسوحة – وما يسطرون|
ثمّة حاجة إلى قراءة أعمال الاغتيال التي تنفّذها إسرائيل بحقّ قادة المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، على ضوء معطيات لا تضعها فحسب في خانة «المردود العسكريّ والإستراتيجي» على الدولة الصهيونية. حتى ما يبدو أنه انعطافة في توازنات الإقليم لمصلحة إسرائيل، بدفعٍ من عمليات «قطع الرأس» المتوالية، ليس في الحقيقة إلا امتداداً لإستراتيجيةٍ أبعَد، تتعلّق بالدور الذي يقوم به هذا الشكل الجديد من الحروب الإمبرياليّة في خدمة المنظومة الغربية. فالتماثُل الحاصِل بين أنماط الاغتيال المُتّبعة بحقّ القادة العسكريين والسياسيين، غالباً ما يكون نتاجَ عملٍ استخباري تراكُمي، لا يصل إلى «مرحلة القطاف» إلا حين تتقاطع مجموعة من المعطيات التي تسمح بتحقيقه، وعلى رأسها التغطية الكاملة من المنظومة الغربية، بدليل فورة التصريحات الغربية التي أعقبت اغتيال الشهيد يحيى السنوار بغرض الاستثمار سياسياً في عملية الاغتيال حتى على الصعيد الداخلي في الغرب.
التوحُّش في خدمة توسيع الحرب
هذا يعطي فكرةً وافية عن مدى ضلوع الغرب في حرب الإبادة الحالية، ليس لجهة التغطية فحسب، بل كذلك لناحية الاستفادة مما يعتبره، على ضوء هذه العملية أو تلك، خلخلةً في توازنات الإقليم لمصلحة إسرائيل، بعد مرحلة من الفراغ الإستراتيجي هنا، وانزياح الثقل الغربي للتصعيد الجيوسياسي المنخفض الحدّة باتجاه أوكرانيا، حيث التدخّل الروسي الذي أعاد صياغة التوازنات في شرق أوروبا لغير مصلحة الغرب.
جعَلَ ذلك المواجهة تبدو، حين انتقلت مجدّداً إلى هنا، تعويضاً ليس فقط عن الانحسار السابق، بل كذلك عن العجز الوظيفي الذي أظهرته إسرائيل حين لم تكن أدواتها القتالية على هذا القدر من التوحُّش في مواجهة حركات المقاومة طوال العقدين ونصف العقد السابقين. والحال أنّ ذلك قد ضاعَفَ من وطأة أعمال اجتثاث المقاومة وبيئتها، إذ لم تعد مجرّد إستراتيجية تدميرية تقليديّة للعدوّ، بل ثمّة نمط متكرّر، من غزّة إلى جنوب لبنان والضاحية والبقاع، يفيد بأنّ الهامش المُعطى لأعمال التوحّش الصهيونية الحالية يثبّتها في سياق يتجاوز حتى الإستراتيجية الغربية التي تدعمها تقليدياً وتوفِّر لها كلّ سُبُل الإسناد، العسكرية والسياسية والاقتصاديّة. وهو ما يضع الحرب الحالية، على حِدة، بين حروب إسرائيل السابقة جميعاً، ضدّ العرب والفلسطينيين، كونها لا تحصل هذه المرّة بموجب ضوء أخضر أو شراكة كاملة فحسب، بل على ضوء «تعطُّل الكوابِح» التي كانت تمنعها سابقاً من توسيع الحرب لتشمل خصومها جميعاً. هذا بالإضافة إلى توظيف نمط التوحّش في الحرب الحالية، إذ يتحوّل إلى نموذج في حروب الإبادة، يمكن ليس فحسب تكرارُه بعد التعديل والتطوير ليتناسب مع جغرافيا كلّ منطقة يُراد اجتثاثُها، بل أيضاً وضعه في خدمة الإستراتيجية الغربية، ليكون بمنزلة الأداة الجديدة لتطويع الإقليم، بعدما فَشِلت كلّ الإستراتيجيات الغربية التي سبقته في جبي ثمن كبير من المنطقة وشعوبها، بما في ذلك الفاعلين غير الدولتيين وحركات المقاومة المسلّحة التي يُراد اجتثاثها حالياً.
التصعيد الحالي، في دقّة الضربات الموجَّهة عبر المسيَّرات، والمقترِن بعمليات تضليل نوعيّة ومعقّدة، هو بهذا المعنى نتاج عدم المساس جديّاً بالهيكل العسكري الذي كان يقود العمليات القتالية
أُفُق الحرب كاستنزاف متدحرِج
قد لا يبدو، في ضوء الإستراتيجية الجديدة التي تنفِّذها إسرائيل لمصلحة الغرب، أنّ ثمّة أُفُقاً لاستعادة حركات المقاومة المسلحة، ليس فقط عافيَتها، بل أيضاً فاعليَّتها التي استُنزِفت كثيراً في هذه الحرب. والحال أنّ ذلك ليس إلا جزءاً من المشهد، أو لِنَقُل من ديناميّة الحرب المستمرّة، على اعتبار أنّ الاستنزاف هنا هو طريق في اتجاهين، فكما استُنزِفَت المقاومتان الفلسطينية واللبنانية إلى حدٍّ كبير، كذلك حصل للجيش الصهيوني، لا سيّما في اللحظة الحاليّة التي يجري فيها اختبار قدرته الفعليّة على القتال برّاً، لا من الجوّ وباستخدام الوحشية الفائِقة المقترِنة بتكنولوجيا عالية. لكن حتى هنا ثمّة اختراقات كبيرة، حقّقتها المقاومة اللبنانية، تشي بحصول تناظُر جزئي، في القتال الجويّ المقترِن بتكنولوجيا، أمكَنَ تطويرها لمعادَلة التفوّق الجوّي الإسرائيلي، نسبياً، إذ يصبح في حوزة المقاومة، بدورِها، بنك أهداف عسكري، وحتى لوجستي، يمكن استهدافه عبر ذراعها الجوّية، المتمثّلة في سلاح المسيَّرات. وهو الإضافة النوعيّة الجديدة، والفارِقة، في هذه الحرب، على سلاح الصواريخ، الأقدَم نسبياً. يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ تواتُر وصول مسيّرات المقاومة اللبنانيّة إلى أهداف عسكريّة، وحتى سياسية، نوعيّة، داخل «إسرائيل»، ليس مجرّد مؤشّر على التعافي، بل هو أساساً بمنزلة استكمال للمنهجية التي لم تنقطع حتى حين كانت الضربات الإسرائيلية الموجَّهة إلى رأسِها في ذروتها.
التصعيد الحالي، في دقّة الضربات الموجَّهة عبر المسيَّرات، والمقترِن بعمليات تضليل نوعيّة ومعقّدة، هو بهذا المعنى نتاج عدم المساس جديّاً بالهيكل العسكري الذي كان يقود العمليات القتالية، لا سيّما توجيه منصّات الصواريخ وإطلاقها، حتى حين كانت القيادتان العسكرية والسياسيّة تتلقّيان الضربة تلو الأخرى. وهذا ما يفسّر، من بين أمور أخرى تحدث حالياً في إسرائيل على وقع صدمة «الاختراق النوعي بالمسيّرات»، السجال الذي وقَعَ داخل حكومة الحرب، عَقِب استهداف منزل نتنياهو في قيسارية، حول الردّ الباهت من رأسها على هذا الاختراق الكبير من جانب مسيّرات المقاومة اللبنانيّة للعمق الصهيوني وصولاً إلى عُقر دار صناعة القرار في إسرائيل. أضعَفَ ذلك نسبياً ما بدا، قبل عملية المسيّرة، أنه إنجازات تكتيكية وإستراتيجية لحكومة نتنياهو، لجهة المسّ المباشِر بالجسم المركزي للمقاومة اللبنانيّة، عبر عمليات الاغتيال واجتثاث البيئة الحاضنة.
خاتمة
الثمن الباهظ الذي تم التباهي بجبيه هنا، عادَ ليبدوَ جزءاً فحسب من تدحرُج المعركة نحو أفُق «الاستنزاف المتبادَل»، مع تبلوُر منهج التعافي، وإن على نحو تدريجي وغير متناسِب، عملاً بمبدأ الحرب غير المتناظِرة ككُلّ. ثمّة انعطافة حدثت بهذا المعنى، لناحية، ليس فقط نفاد «بنك الأهداف» الفعلي، بل كذلك اقتصار منهج التدمير والاجتثاث على مستويات لم تكن لتُحدِثَ الأثَرَ المطلوب منها لو تمّ افتتاح أعمال القتل بها بدلاً من اغتيال القادة واجتثاث المدنيين. بالمقارَنة مع طول أمَد القتال في غزّة، ومراحِلِه المختلفة، يبدو ذلك «عمراً قصيراً للحرب»، وللأهداف التي وُضِعَت لها من جانب الصهاينة. وهذا لا يعود إلى اختلاف طبيعتها فحسب بين البلدين، بل كذلك إلى تمرُّس المقاومة اللبنانية أكثَر بمنهج القتال غير المتناظِر، حتى جوّاً، تساعِدها في ذلك البيئة التضاريسيّة الوعرة غير المنبسِطة، والتصويب النُقَطي، منهجياً، بالصواريخ والمسيَّرات ومضادّات الدروع، على أهداف العدوّ، بما يجعل مهمَّته في تحقيق أهداف الحرب، لجهة تفكيك البنية القتالية لحزب الله في الجنوب، أكثر صعوبة، قياساً بقطاع غزّة.