أميركا وإسرائيل في مخاض قانون دولي جديد

محمد محمود شحادة – وما يسطرون|

منذ الحادي عشر من أيلول 2001 دخل القانون الدولي الإنساني بشكل رسمي في الموت السريري، حين أعلن جميع الخبراء الدوليين أن مرحلة ما بعد 11 أيلول ليست كما قبل 11 أيلول، وكان المقصود هنا أمرين أساسيين: الأول تعطيل الأمم المتحدة ومجلس الأمن كضابطة دولية لموازين السلم والأمن الدوليين، والثاني الإطاحة ببنود واتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها التي تشكل القانون الدولي الإنساني كمعيار للتجاوزات الإنسانية في الحروب.
اليوم، ماذا فعلت إسرائيل بالقانون الدولي الإنساني؟ فهو القانون الذي يسمى بقانون الحرب ويضع حدوداً وإطاراً للعمليات العسكرية، فهو يمنع قصف المدنيين أثناء الصراعات العسكرية والحروب، وكذلك يمنع قصف الأشخاص الذين لا يشتركون بالمعارك، ويمنع ضرب المستشفيات والجامعات والمدارس والأطباء والمسعفين، والأهم من ذلك كله فهو يجرّم ويمنع الإبادة الجماعية والتهجير القصري، فماذا فعل العدو الصهيوني بهذا القانون في غزة، والآن ماذا يفعل به في لبنان؟
إذا رجعنا إلى عام 2001 وبعد أيام من أحداث 11 أيلول، قرر المجتمع الدولي ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية محاربة الإرهاب وبدأ البطش المشرعن في أفغانستان والعراق، وعندما لوّح جاك شيراك بالفيتو على قرار لغزو العراق بررت أميركا بأن حربها شرعية في وقت اتفق فيه جميع أساتذة القانون الدولي على أنه احتلال وعمل غير شرعي، وعندها دعا ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، إلى إلغاء الأمم المتحدة، باعتبار أن العالم أصبح بقيادة الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فكان كل العالم، بين الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة، يحترم ميثاق الأمم المتحدة وشرعية قراراته، ولكن بعد هيمنة أميركا على العالم مطلع التسعينيات ضربت بعرض الحائط ميثاق الأمم المتحدة، لا سيما المادة الثانية-الفقرة السابعة المتعلقة بعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول. وبدأت أميركا بإسقاط أنظمة وتركيب أنظمة.
كل العالم شاهد تمزيق المندوب الإسرائيلي لميثاق الأمم المتحدة، ولا يزال العالم يشاهد كيف أن إسرائيل لا تكترث للقانون الدولي الإساني، والأكثر من ذلك هي لا تكترث لمجلس الأمن والشرعية الدولية ولا تعطي أي اعتبار للتدخلات الدولية لوقف ومنع إحراق البشر في غزة وتدمير مراكز الإيواء على رؤوس النازحين والمشردين في غزة ولبنان… هذا التمادي، من دون أدنى شك، يدل على ضوء أخضر من راعية إسرائيل.
من هنا، تتوارد المعطيات لتشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى نحو تعديلات جوهرية في قانون الحروب والقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني الذي سيقوم على قواعد جديدة أميركية تسعى عبرها في تبرير الضربات بكل الاتجاهات بهدف المحافظة على الأحادية القطبية للعالم بقيادتها. ليصبح القانون الدولي الجديد يبيح قصف المستشفيات والإسعافات والطواقم الطبية والصحافيين والجمعيات الدولية الإنسانية في حال الدفاع عن النفس وملاحقة «الإرهابيين» حسب تعبيرهم.

هذه المؤشرات، وبحسب التجارب التاريخية، تشير إلى إلغاء القانون القائم والذهاب إلى قانون جديد يبيح لأميركا وإسرائيل استخدام القوة المفرطة

لقد تم عملياً ضرب ميثاق الأمم المتحدة والديباجة الأساسية، فهذه المؤشرات، وبحسب التجارب التاريخية، تشير إلى إلغاء القانون القائم والذهاب إلى قانون جديد يبيح لأميركا وإسرائيل استخدام القوة المفرطة بحجة الدفاع عن النفس ولاحقاً بحجة الضربات الاستباقية وثم بحجة الدفاع عن الأمن القومي لأميركا، ولكن السؤال: من يحدد الجهات الإرهابية؟ ومن يحدد حدود الأمن القومي لأي دولة؟ ومن يؤكد صوابية الضربات الاستباقية تجاه منظمة أو دولة لم تعتدِ أصلاً على أخرى؟
إن ما فعلته إسرائيل في غزة يفوق عشرات آلاف المرات ما فعلته حماس في جدار غلاف غزة يوم 7 تشرين، ولم يكن ليستنكر أحد حصار إسرائيل لغزة طوال عشر سنوات من الجوع والاضطهاد والأسر وأربع حروب مدمرة، حتى اعتُبرت غزة أكبر سجن في العالم، فهل من غير المسموح لثلة من شباب غزاويين فعل أي شيء لفك هذا الحصار؟
ومع ذلك، لم يتدخل أحد لوقف الإبادة في غزة. ومن الذي يبرر لإسرائيل أن تفعل ما تفعله في لبنان من قتل ودمار مفتوح وذلك فقط بسبب تحرك ثلة من شباب المقاومة في لبنان بهدف إيقاف المجازر التي تقع في فلسطين وليس أكثر. إسرائيل تتغطرس بكل الأسلحة المحرمة دولياً وتمنع أحداً من التفوه لا بالكلمة ولا برصاصة، هذا التغطرس المبرر أميركياً هو المؤشر لمخاض قانون دولي إنساني جديد وليس فقط لشرق أوسط جديد.
من اللافت أن الولايات ليست عضواً في عدد من الاتفاقات الدولية كمحكمة الجنايات الدولية، فقد هددت مدعي عام المحكمة بعقوبات عندما أراد إصدار أمر توقيف لنتنياهو وغالانتس؛ حتماً إنها تفرض قانوناً جديداً لأنها تبرر استخدام القوة المفرطة والمحرمة وهي تعطي تفسيرات جديدة خارج إطار الشرعية المعترف بها دولياً وخارج إطار الأعراف والاجتهادات السابقة. فهي تبرر، باسم الضربات الاستباقية والوقائية، وخاصة أنها تصف المقاوم في أرضه بأنه إرهابي، وتبرر للمعتدي أنه مدافع عن نفسه، وهذا ما فعلته بنفسها بالسابق في العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، قتلت العراقيين وأسقطت النظام واحتلت العراق. وبحجة ملاحقة بن لادن، قتلت الأفغان واحتلت أفغانستان، وكذلك احتلت ليبيا. لا ننسى أن جورج بوش هو من صنع سجن غوانتانامو الذي لم تُحترم فيه اتفاقيات جنيف من حيث معاملة الأسرى حيث منع عنهم حق الدفاع عن النفس وتوكيل محامين ولاقوا أشد التعذيبات وهم عراة والتُقطت لهم صور لا تليق بالآدمية.
كل هذا أساسه 11 أيلول 2001 وصدور قرار 1373 الذي أعطى لأميركا الحق بمحاربة الإرهاب، لقد فتحت لها أبواب الهجوم الجهنمي على كل الشرق وكل من لا يقف معهم حسب نظرية بوش، عندها لم تعد تنظر إلى أي مدني ولا إلى أي معالم حضارية وثقافية واستشفائية وصحافية، بفسفور أبيض ويورانيوم وقنابل الألف طن الارتجاجية لتدمير المغاور، كل ذلك استُعمل في أفغانستان. وهكذا بررت أميركا لنفسها استخدام كل شيء محرم دولياً لمواجهة خصم قد يكون أكذوبة أميركية أو وهماً بالحد الأدنى، إنما الغاية هي السيطرة. لقد منعوا بالأمس المساعدات الغذائية عن غزة، وثم أحرقوا بالفسفور خيام قماشية للنازحين، ويقصفون في العاصمة بيروت بنايات أحياء مكتظة بآلاف النازحين، وثم قصفت إسرائيل قافلة مساعدات إنسانية عليها علم الصليب الأحمر في بعلبك، وهم علناً يهددون المسعفين ويضربون جرافات الإنقاذ، وهددوا قوات اليونيفيل الدولية بإخلاء الشريط الأزرق بعمق 5 كيلومترات، فيما القانون الدولي يمنع قطع المياه والكهرباء. نحن لا ننعي فقط القانون الدولي الإنساني، إنما أيضاً نتوقع قانوناً جديداً يبيح ما يجري.
بعد كل ذلك، بايدن وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وأستراليا وكندا يحملون شعار حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، ويبررون كل شيء لإسرائيل. بالأمس قالت وزيرة الخارجية الألمانية: «إن الدفاع عن النفس لا يقتصر على مهاجمة الإرهابيين فقط بل تدميرهم حتى لو استهدفت المدنيين، هذا هو موقف ألمانيا، وهذا هو أمن إسرائيل». عندما نسمع تصريح الخارجية الألمانية نفهم مباشرة الرسالة الأميركية واليهودية التي يراد لها أن تعبّر عن القانون الجديد.

قد يعجبك ايضا