مؤشرات توحّش اللوبي الصهيوني

علي حسن مراد – وما يسطرون|

حين أقدمت غالبية المشرّعين في مجلس النواب الأميركي على المصادقة على مشروع القانون HR.6090 المسمّى «قانون التوعية بمعاداة السامية» في الأول من أيار الفائت، كان طلاب الجامعات المطالبون بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة في ذروة احتجاجاتهم. آنذاك، كانت موازين القوى بين تيار مناهضة الحرب من جهة، والتيار الصهيوني من جهة ثانية، تميل إلى الأخيرة، ولا تزال.

لكن مسار التحوّل هذا يعني أنّ النظام السياسي الأميركي آخذ في الانزياح نحو التشدّد والقمع، إذ لم يعد في الإمكان للأميركيين أن يبقوا يتغنّون بما يسمّونه «ديموقراطيتنا الاستثنائية».فماذا يعني أن ينجح الصهاينة بإقناع النخبة السياسية الأميركية بتبنّي تجريم معاداة «إسرائيل» والصهيونية على المستوى الفيدرالي، كما كانوا قد نجحوا خلال السنوات الماضية – بشكل جزئي – بفرض تجريم حركة المقاطعة BDS على مستوى التشريعات المحلية في بعض الولايات؟

لقد وصل الحال اليوم باللوبي إلى حد فرض تبنّي تعريف ما يُسمى «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست» لمعاداة السامية، عبر إضافة أنّ معاداة إسرائيل أو الصهيونية يُصنَّف أيضاً معاداةً لليهود والسامية. صحيح أنّ مشروع القانون HR.6090 لا يزال بحاجة إلى مصادقة مجلس الشيوخ عليه، ليُرفَع إلى مكتب الرئيس الأميركي لتوقيعه ليصبح قانوناً نافذاً، إلا أنّ مضمونه يناقض التعديل الدستوري الأول، الذي ينصّ على قدسية «حرّية التعبير»، وهو ما يؤجّل ربما التصويت عليه في مجلس الشيوخ.

اليوم، يخوض تيار مناهضة الحرب على غزة معركة حامية مع أذرع اللوبي الصهيوني للضغط على أعضاء مجلس الشيوخ، للحؤول دول مصادقتهم على مشروع القانون، متسلّحين بعبارة: «إذا كان في إمكاننا انتقاد حكومتنا، سيكون بكل تأكيد في استطاعتنا انتقاد إسرائيل». لكن هذه المعركة التي أرادها الصهاينة في قلب مؤسسة التشريع الأميركية، وبالتحديد لفرض واقع جديد في المؤسسات التعليمية الأميركية، تعكس بالدرجة الأولى توتّراً ناتجاً من الصدمة التي فجّرها التيار الطالبي في وجوههم في الربيع الفائت، وثانياً تعبّر عن اندفاع وتهافت صهيوني لاستعمال أدوات القمع الفكري في المؤسسات التعليمية، أملاً بإنتاج أجيال قادمة تتبنّى ما يريدون لها أن تتبنّى، من دون تشكيك أو تفلّت كما حصل مع الجيل Z، الذي يواجههم اليوم.

من السذاجة بمكان الافتراض أنّ التشدّد الحاصل في فرض تشريعات من شأنها تقييد حرّية التعبير، وممارسة الإرهاب الفكري على جيل بأكمله، سيبقى بلا رد فعل. بات اللوبي الصهيوني، وخاصة الجناح اليميني الذي يتحرّك بناءً على توجيهات نتنياهو، يرى في الواقع الذي أفرزته حالة التمرّد لدى جيل Z في أميركا خطراً على مستقبل نفوذه في الولايات المتحدة. أحد مصاديق هذه الخشية كان يمكن تلمُّسه في خطاب نتنياهو أمام الكونغرس في 24 تموز الفائت، حين تحدّث بحدّة عن المعترضين خارج مبنى الكونغرس، محرّضاً على قمع الشباب المتمرّدين، ومتّهماً إياهم بالجهل بتاريخ الصراع وتفاصيله.

الأمر لم يقتصر على خروج «آيباك» بكل وضوح وعلانية لتنسب الفضل لنفسها بإسقاط المرشّحين التقدّميين، بل اتّضح أنّ غالبية مصادر الأموال التي تُضَخّ في United Democracy Project كانت من متموّلين جمهوريين مقرّبين من دونالد ترامب

تثبت الأرقام والداتا أنّ ذعر اللوبي الصهيوني من فقدان القدرة على التأثير لا يُترجَم في الخطاب الدعائي والتحريض فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى المقدّرات والأصول التي يُضطر اليوم إلى زيادة حجمها لصرفها في المواقع التي دأب على الصرف فيها بمستوى أقل، لضمان المحافظة على القدر الكافي من النفوذ لصون قوته.

بحسب أرقام خدمة تتبّع المال في السياسة في موقع OpenSecrets.org، تصاعد الحجم المصرَّح عنه من إنفاق المؤسسات التابعة للوبي الصهيوني في مواسم الانتخابات الأميركية من أقل من 5 مليون دولار في انتخابات 1990 النصفية، إلى أكثر من 50 مليون دولار (حتى الآن) في انتخابات 2024 العامة. وكما يُظهِر الرسم البياني لبيانات التمويل، يمكن ملاحظة الصعود الصاروخي للتمويل منذ ما بعد انتخابات 2018 النصفية، مع احتدام الانقسام السياسي الأميركي عشية انتخابات 2020، وصولاً إلى السباق الحامي اليوم في انتخابات 2024. يمكن أن تُفسَّر هذه الظاهرة بأنّ اللوبي الصهيوني يرى في تعمُّق الانقسام السياسي الأميركي تهديداً له يفرض عليه تحدّيات، وبالتالي يستنفر لزيادة حجم رشاويه لمرشّحي الكونغرس من الحزبَين، مع مراعاة الحصص المعهودة، بمعدّل 60% للديموقراطيين مقابل 40% للجمهوريين.

من المؤشّرات على أنّ اللوبي الصهيوني (الليكودي تحديداً) يرى بأنّه مضطر إلى تجاوز مربّع التحيّز العلني لحزب على حساب الآخر، أنّ «آيباك»، المنظّمة الأكبر في منظومة التأثير التابعة للوبي، اضطرَّت إلى تعديل أسلوب عملها في مواسم الانتخابات. في كانون الأول 2021، أعلنت «آيباك» تأسيس ما سمّته «مشروع الديموقراطية المتّحدة» أو United Democracy Project، وهو «لجنة عمل سياسي كبرى» أو ما يُسمى Super PAC، لتمويل حملات مرشحين محدَّدين بشكل مباشر.

دائماً ما كان أسلوب «آيباك» المعتاد يتمثّل بالإيعاز إلى مؤسسات وصناديق ولجان عمل سياسي مقرّبة منها بتحويل أموال لحملات بعينها، إذ تبقى نشطة خلف الكواليس. هذا التجاوز لثوابت في أسلوب عملها، سلّط الضوء على حركتها في مجال تمويل الحملات الانتخابية. مع انطلاق موسم الانتخابات التمهيدية أواخر العام الماضي، كُشِف عن أن «آيباك» بصدد إنفاق مبلغ 100 مليون دولار عبر United Democracy Project في موسم انتخابات 2024. تبيّن لاحقاً أنّ ذراع «آيباك» سالف الذكر صرف مبلغ 14.5 مليون دولار لإسقاط جمال باومان، المرشّح الديموقراطي التقدّمي لمنصب نائب عن ولاية نيويورك، كما أنّه صرف ما يقارب 8 ملايين دولار لإسقاط كوري بوش، المرشّحة الديموقراطية التقدّمية لمنصب نائب عن ولاية ميزوري.

الأمر لم يقتصر على خروج «آيباك» بكل وضوح وعلانية لتنسب الفضل لنفسها بإسقاط المرشّحين التقدّميين، بل اتّضح أنّ غالبية مصادر الأموال التي تُضَخّ في United Democracy Project كانت من متموّلين جمهوريين مقرّبين من دونالد ترامب، وهو ما شكّل عبثاً بأعراف ثابتة في لعبة الانتخابات بين الحزبَين، وفي الوقت نفسه رنّ جرس الإنذار لدى نخب الحزب الديموقراطي، لناحية الطريقة التي باتت «آيباك» تتجاوز فيها الأعراف الانتخابية، عاكسة الانحياز الصهيوني لمصلحة الجمهوريين على حسابهم.

قد يعجبك ايضا