كيف كتب اليمن نهاية “دبلوماسية المئة ألف طن”
زكريا الشرعبي – المساء برس|
عادة ماكانت تحركات حاملات الطائرات الأمريكية مكشوفة ويصحبها تغطية إعلامية، فحاملة الطائرات ليست مجرد قطعة حربية أو مطار عسكري، بل يتعامل معها الأمريكيون كأداة “دبلوماسية” لفرض قوتهم وهيمنتهم على الآخرين، فهي كما يصفها كيسنجر “تعادل مئة ألف طن من الدبلوماسية”.
تقوم العقيدة العسكرية الأمريكية على كون الولايات المتحدة الأمريكية قوة بحرية، ويستلهم الأمريكيون أفكار الضابط في قواتها البحرية الجيوسياسي ألفريد ماهان بأهمية “اجتياح البحر وإحكام القبضة عليه”، وعلى حد تعبيره فـ“إن القوات البحرية هي أدوات العلاقات الدولية… إن نطاق القوات البحرية… أوسع كثيراً [من نطاق الجيوش]. ويمكن الشعور بوجود القوات البحرية حيث لا تستطيع الجيوش الوطنية أن تذهب، إلا تحت الحماية البحرية… إن المسألة المطروحة على الولايات المتحدة فيما يتصل بحجم قواتها البحرية لا تتلخص في ما ترغب في تحقيقه بقدر ما تتلخص في ما هي على استعداد للتنازل عنه أو عدم استعدادها للتنازل عنه”.
وينص أحدث إصدار للعقيدة البحرية الأمريكية أن “الدبلوماسية البحرية هي تطبيق القدرات البحرية في السعي لتحقيق الأهداف الوطنية أثناء التعاون والمنافسة تحت الصراع”.
وحتى قبل ظهور حاملة الطائرات كانت الولايات المتحدة قد اعتمدت ما يسمى بدبلوماسية الزوارق الحربية لإخضاع الآخرين، ففي 1853، أبحر ضابط أمريكي بأسطول مكون من أربع سفن حربية سوداء صلبة إلى خليج طوكيو في اليابان التي لم تكن تملك حينها أي قطع حربية، وفور وصول القوة الأمريكية، وافقت اليابان بسرعة على فتح موانئها للتجارة مع الغرب لأول مرة منذ أكثر من مائتي عام، وفي عام 1903 أرسل الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت أسطولا من السفن الحربية لدعم انفصال بنما عن كولومبيا، ورغم أن هذه السفن لم تطلق طلقة واحدة، إلا أن استعراض القوة البحرية أجبر كولومبيا على التسيلم بانفصال بنما، وأعطيت الولايات المتحدة امتياز شق قناة بنما.
وفي العام التالي أقر روزفلت رسميا مبدأ مونرو القائم على استخدام القوة العسكرية كأداة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ، وأعلن إضافة عشر سفن حربية وأربع طرادات إلى البحرية الأميركية، وأعاد روزفلت في العام 1905م تكرار تجربة دبلوماسية الزوارق لفرض الهيمنة على جمهورية الدومنيكان، لكن الطموح الأمريكي واستعراض القوة البحرية في كل العالم كان أكثر وضوحا ورمزية في العام 1907م حينما أطلق روزفلت عملية “العصا الكبيرة” حيث أرسل 14 سفينة حربية بيضاء لامعة وسبع مدمرات في رحلة استعراضية حول العالم، استمرت أربعة عشر شهرا، وقطعت مسافة 43000 في ست قارات.
واستمرت واشنطن منذ ذلك الحين في فرض سيادتها على البحار بقوة متنامية انتقلت من الزوارق والسفن إلى حاملات الطائرات التي تم توجيهها مئات المرات منذ الحرب العالمية الثانية إلى مناطق تشهد نزاعات لدعم الأطراف الموالية لأمريكا، كما لعبت أدوارا حاسمة في الحرب الباردة والحرب الكورية وحين تم إرسالها لدعم الهند في الحرب الهندية الباكستانية في سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى استخدامها في دعم الحروب الأمريكية على العراق وأفغانستان.
وينسب إلى الرئيس الأمريكي كلينتون أنه عندما كانت تصل إليه أنباء أزمة في أي مكان من العالم إلى غرفة العمليات في البيت الأبيض، يسأل دائماً عن أقرب حاملة طائرات إلى موقع الأزمة، بينما عبر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن أهمية حاملة الطائرات ضمن وزن القوة الأمريكية بالقول: “إن حاملات الطائرات الأميركية تشكل جوهر القوة العسكرية الأميركية في الخارج. فنحن نقف اليوم على مساحة تبلغ 4.5 فدان من القوة القتالية وعلى أرض أميركية ذات سيادة، وهي مساحة لا ينافسها أحد. ولا يوجد من ينافس هذه الحاملة. إنها نصب تذكاري للقوة الأميركية”.
ويعبر وزير البحرية الأمريكي الأسبق راي مابوس، بالقول “تصل إلى هناك في وقت أقرب، وتبقى هناك لفترة أطول، وتحمل معها كل ما تحتاج إليه، ولا تحتاج إلى طلب الإذن من أي شخص. [إنها] توفر لقادة أمتنا خيارات في أوقات الأزمات”.
اليمن ينهي دبلوماسية حاملة الطائرات
مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حركت الولايات المتحدة الأمريكية حاملتي طائرات هما يو اس اس أيزنهاور و يو إس إس فورد بقصد إرهاب أي طرف ومنعه من إسناد قطاع غزة، وكانت الرسالة من تواجد هذه الحاملات كما عبرت الإدارة الأمريكية بشكل صريح موجهة إلى إيران وحزب الله، والجمهورية اليمنية.
وقد تحركت حاملة الطائرات يو إس إس أيزنهاور في جولة استعراضية في الأسبوع الثاني من العدوان على غزة شملت البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي، ولم يكن مستغربا أن هذه الجولة كانت مصحوبة بدعاية إعلامية تواكب مسافات الإبحار بالأميال، لكن هذا الاستعراض لم ينجح حيث أعلن اليمن عن بدء عمليات بحرية تستهدف الملاحة الإسرائيلية، ليصيب بذلك عمق العقيدة البحرية الأمريكية والتفوق القائم منذ أكثر من قرن، وكان من الطبيعي أن تتحرك الولايات المتحدة لاستعادة تواجدها في ما تعتبره ملكا لها من أعالي البحار، ولحماية الكيان الإسرائيلي من الهجمات اليمنية، وبالفعل عادت حاملة الطائرات يو اس اس ايزنهاور مع مجموعتها من السفن الحربية لتتمركز في البحر الأحمر مع انتشار للسفن حتى خليج عدن، وجمعت تحالفا أسمته حارس الازدهار تم الإعلان عنه في التاسع عشر من ديسمبر 2023م.
اعتقدت الولايات المتحدة الأمريكية أن التحالف سيرهب اليمن وأن العمليات اليمنية ستتوقف كما هو الحال مع من استخدمت معهم سابقا “دبلوماسية المئة ألف طن”، غير أن اليمن صعد موقفه وأعلن عن توسيع عملياته ورفض التهديدات الأمريكية مثلما رفض عروض الترغيب، وصولا إلى الثاني عشر من يناير حيث بدأ العدوان العسكري المباشر من قبل أمريكا وبريطانيا ضد اليمن، ولم يكن الأمريكيون يتوقعون أن العمليات اليمنية ستستمر بعد هذا العدوان سوى لفترة محدودة، قبل أن يضطروا للاعتراف وعلى لسان كبار المسؤولين أن العدوان ضد اليمن لم يردع القوات اليمنية وأن عملياتها مستمرة ومتصاعدة، بل وامتدت لتشمل الملاحة الأمريكية والبريطانية قبل أن تتوسع إلى المرحلة الرابعة.
مالم يكن يتوقعه الأمريكيون أيضا هو أن تتعرض قطعهم الحربية للهجمات وأن اليمن سيشن كما يعترف وزير الدفاع البحرية الأمريكي “كارلوس ديل تورو” أكثر من 300 هجوم على السفن الحربية لأمريكا وحلفاءها في البحر الأحمر حتى مطلع مايو الماضي، وبأسلحة لم تعتد عليها القوات البحرية الأمريكية من قبل، أسلحة يقول عنها قائد الأسطول الأمريكي الخامس براد كوبر، أسرع من الصوت لا تمتلك معها قوات أمريكا سوى ثوان معدودة لاتخاذ قرار الاعتراض، وكانت معركة هي الأكثر استدامة منذ الحرب العالمية الثانية كما يؤكد مسؤولون في البحر الأمريكية، حتى أن قائد سفينة أيزنهاور “تشوداه هيل” يقول معبرا عن هذه المعركة” في بعض هذه الحالات، كنت أرتدي ملابس النوم طوال الوقت – ولست خائفًا من قول ذلك – بحذاء المنزل. لم يكن لدي وقت لارتداء الزي الرسمي”.
هروب أيزنهاور..اختباء روزفلت
المعركة اليمنية مع القطع البحرية الأمريكية كتبت نهاية عصر حاملات الطائرات وأكدت أنها قابلة للاستهداف، فقد استهدفت القوات اليمنية حاملة الطائرات يو اس اس أيزنهاور ثلاث مرات بين 31 مايو و20 يونيو، ورغم أن الولايات المتحدة لم تعترف صراحة بهذا الاستهداف لما يحمله من دلالات على تراجع الهيمنة الأمريكية وما قد يشكله اليمن من نموذج في جرأته على ضرب هذه القطعة العسكرية الدبلوماسية حسب التعريف الأمريكي، إلا أن قادة مجموعة أيزنهاور اعترفوا بعد عودة المجموعة إلى موطنها، في تصريحات لمعهد البحرية الأمريكية، أنها “المرة الأولى التي تتعرض فيها حاملة طائرات أمريكية لتهديد مباشر مستمر من عدو منذ الحرب العالمية الثانية”.
انسحبت مجموعة حاملة الطائرات أيزنهاور بعد فشل تام أكده قائد القيادة الأمريكية ايريك كوريلا في رسالة إلى وزير الدفاع وفق ما ذكره تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، لكنه لم يكن فشلا فقط، بل تعرضت للاستهداف لأول مرة، وأصيبت كما أكدت القوات المسلحة اليمنية في 31 مايو، فاضطرت إلى الهروب بشكل مُذل ومهين إلى شمال البحر الأحمر، وقبل أن تنسحب تماما بعد عشرين يوما من الاستهداف الأول تحولت السفن الحربية الأمريكية من حارس للملاحة الإسرائيلية إلى حارس لسفينة أيزنهاور.
تقول الولايات المتحدة إن انسحاب أيزنهاور لم يكن نتيجة لاستهدافها وإنما لأنه قد تم تمديد نشرها لفترة إضافية، وستحل محلها حاملة الطائرات يو اس اس روزفلت، وفقا لبيان القيادة المركزية الأمريكية في 22 يونيو.
ورغم إعلان القيادة المركزية الأمريكية أن روزفلت وصلت بالفعل إلى منطقة العمليات بهدف حماية الملاحة في الثاني عشر من يوليو الجاري إلا أنها لم تدخل البحر الأحمر وظلت مختبئة لأيام في أقاصي شرق البحر العربي قبل أن تتجه للتمركز في منطقة الخليج قبالة سواحل البحرين كما تظهر آخر صور الأقمار الصناعية، وعلى غير العادة الأمريكية في تغطية تحركات حاملات الطائرات، أغلقت روزفلت أجهزة تتبعها كما تقطع طائرة الإمداد الخاصة بها إشارة التتبع في منتصف الطريق.
إن توجه روزفلت إلى الخليج جاء مناقضا لما هو معلن من قبل الولايات المتحدة إذ أن الخليج ليس منطقة للعمليات اليمنية، لكنه مسار اضطراري يظهر الخشية من تعرض الحاملة للهجوم من قبل اليمن، وهو هجوم توعد به قائد حركة أنصار الله عبدالملك الحوثي عقب أيام من إعلان واشنطن نية نقل روزفلت إلى البحر الأحمر.
تقول صحيفة ناشيونال انترست إن الحوثيين أصيبوا بالذعر مع تحرك روزفلت من المحيط الهادئ إلى البحر الأحمر، لكن ما يبدو واضحا هو أن روزفلت هي التي أصيبت بالذعر وتخشى من استهداف محقق إن هي عبرت باب المندب، وتخشى الفضيحة إن هي عبرت إلى البحر الأحمر عبر الرجاء الصالح ومضيق جبل طارق والسويس، لذلك لا بأس من الاستعراض على مستوى الإعلام بأنها موجودة وإن ظهرت كما بات يصفها الصينيون نمرا من ورق، مع أن مشهد الاختباء لا يقل في مستوى الفضيحة عن مشهد هروب أيزنهاور بل يؤكد أنها تعرضت للاستهداف.
إن كسر اليمن لهيبة الردع الأمريكية وإسقاط الهيمنة البحرية قد انعكس على قرارات دول أخرى مثل الصين التي باتت تتحرك بجرأة أكبر في محيط تايوان والفلبين، أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد تحدث في مؤتمر بطرسبرج في يونيو الماضي بسخرية عن حاملات الطائرات الأمريكية مؤكدا أنها لم تعد تٌخيف وقائلا لمحاوره: دعهم ينفقون الأموال عليها..
لقد انتهى زمن حاملات الطائرات، هذا ماكتبه اليمن، وقد طٌردت البحرية الأمريكية بشكل مٌهين..يقول القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية جوزيف فوتيل(2016-2019) في مقال نشره في 23 يوليو الجاري:
لا بد من الاعتراف بأننا لم نعد نحافظ على مصلحة حيوية للأمن القومي الأميركي..الوضع الحالي ليس فقط لا يطاق ــ بل إنه غير قابل للاستمرار. وحان الوقت للاعتراف بأن الحوثيين، في وضع يسمح لهم باحتجاز ليس فقط الولايات المتحدة بل والنظام العالمي بأكمله تقريبا رهينة.