ترسيخ نهج ونفضة شاملة
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
تكاد «المناورة البرّية» الإسرائيلية في قطاع غزة، حسب إعلان عسكري إسرائيلي مناور هو الآخر، تبلغ محطّتها الأخيرة. يحصل ذلك في امتداد مخاض مرير من القتل والتجويع والتدمير والحصار إلى حدود الإبادة الصافية، والصمود والبطولة والصبر والتحدّي إلى حدود الإعجاز وصناعة التاريخ. في تداعيات ذلك، تتراءى في الأفق معالم مرحلة جديدة في المنطقة وفي ما يتعدّاها. نسارع إلى أن عملية «طوفان الأقصى» هي النموذج الجديد لحركة الكفاح الراهنة. إنها حالة نوعية انبثقت عن تراكمات كمّية في الوسطين الفلسطيني والعربي، والإقليمي، في مجرى الصراع مع العدو الصهيوني وداعميه، وفي مقدّمهم الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ 4/3 القرن إلى اليوم.
بعد «نكسة» عام 1967، ومن ثمّ وفاة القائد التحرّري الكبير جمال عبد الناصر، بشكل مريب، في أيلول عام 1970، خلفه أنور السادات الذي تولّى إجهاض «حرب الاستنزاف» التي قادها ناصر تحت شعار «ما أُخذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة». مذّاك، بدأت مرحلة «العصر الإسرائيلي» عبر «معاهدة كامب ديفد» ( 1979)، ثمّ الاتفاقيات الثنائية بين العدوّ و«دول الطوق» العربية (مؤتمر مدريد 1991 و«اتفاق أوسلو» 1993)، وصولاً إلى «الاتفاقيات الإبراهيمية» التي كانت، كسواها من الاتفاقيات السابقة، ثمرة ضغوط وجهود ورعاية و«وساطة» الولايات المتحدة الأميركية.
عام 1982، شكّل علامة فارقة أولى بعد بداية المرحلة المذكورة. يومها نشأت «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» مُتوّجةً نهجاً في صفوف الشيوعيين اللبنانيين وحلفائهم اليساريين، توسَّع ليصبح خياراً فعّالاً في منع العدو من إدامة احتلاله واستثماره في مكاسب جغرافية وسياسية في لبنان بالدرجة الأولى. الحزب الشيوعي اللبناني لعب دوراً مبادراً ومحورياً في هذا التوجّه، وهو مدين بذلك، بالدرجة الأولى، لقائده الشهيد الكبير فرج الله الحلو الذي عبَّر عنه برفض «قرار التقسيم» لعام 1947، والذي سارعت إلى تأييده (بعد رفض) القيادة السوفياتية، كنتيجة لسلسلة اختلالات في موقفها انعكست، بشكل ببغائي، في مواقف معظم قادة الأحزاب الشيوعية العربية خصوصاً. إلى هذا النهج المقاوم انضم، بشكل مبكِّر، تنظيم «حزب الله» الناشئ حديثاً والذي سرعان ما شغل موقعاً فاعلاً ومؤثّراً وتحوَّل إلى ظاهرة نوعية في مسار مقاومات متعددة، أدى إلى تحرير معظم الأراضي اللبنانية المحتلة من قِبل العدوّ الإسرائيلي، وإلى طرد القوّات العسكرية الأطلسية التي جاءت لدعمه وتمكينه من جني مكاسب استراتيجية على حساب الحقوق الفلسطينية وعلى حساب سيادة لبنان واستقلاله.
شكّل طرد المحتل الصهيوني من لبنان، من دون قيد أو شرط، بقوّة المقاومة المسلّحة، محطّة أولى كبيرة (تعمّقت في حرب تموز 2006) في مسار حفّز وعزّز كفاح الشعب الفلسطيني من أجْل قضيته وأرضه وحقوقه. إثر ذلك، تلاحقت الانتفاضات وتطوّرت واغتنت بتحوّلات متلاحقة في المجالين الفلسطيني والإقليمي، قادت جميعها إلى عملية «طوفان الأقصى» التي ما زالت تداعياتها، منذ 9 أشهر، تتقدّم كبريات أحداث المشهد العالمي: في حقلي الإجرام والهمجية، من جهة، والصمود والبطولة والتضحية، من جهةٍ ثانية.
في الأثناء، تميّزت المرحلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية في أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، باندفاع وجموح أميركييْن لتكريس واشنطن قوة عظمى عالمية وحيدة مهيمنة و«غير قابلة للتحدّي». تداعت عن ذلك حروب الغزو والاحتلال (أبرزها غزو العراق 2003). تفاقمت، أيضاً، الاضطرابات السياسية والأمنية والأزمات الاقتصادية التي جرى استغلالها لأحداث فوضى مقيمة (بذريعة «الربيع العربي») في بداية العقد الماضي، ضربت وأعطبت عدّة دول عربية ولا تزال. دخلت المنظمات الإرهابية، «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما، بتدبير أميركي، لاعباً ظلامياً وتدميرياً مشبوهاً. برزت تباعاً الموجات القومية الشعبوية والشوفينية، وتكاثرت التيارات اليمينية الفاشية: من أميركا ترامب، إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا والسويد…
في السياق، كان على القوى الساعية إلى التحرّر من الهيمنة والاضطهاد والإرهاب والاحتلال والنهب، والتي باتت تعمل في ظروف أصعب، أن تشتقّ مقاربات وصيغ عمل وعلاقات جديدة، وسط تراجع ملحوظ ومديد ومتفاقم لدور اليسار وحضوره (باستثناء أميركا اللاتينية). برزت تباعاً أدوار مهمة على المستويين الاقتصادي والعسكري لكلّ من الصين وروسيا. نشأت، بالارتباط بذلك، تكتلات ومشاريع ذات أبعاد دولية. تحرّكت أطراف إقليمية وأقامت لنفسها حيثية وازنة في مجال الأمن أو الاقتصاد أو القدرات العسكرية. استمرّ الشرق الأوسط مختبراً محورياً لنجاح الاستراتيجيات أو لمقاومتها وإسقاطها. الأميركيون قدّموا صيغاً جديدة للهيمنة عليه، والصهاينة سرّعوا مشروع تحويل إسرائيل إلى قوّة محورية فيه بأبعاد أمنية واقتصادية وسياسية في خدمة مخطّطات الهيمنة الإمبريالية على ثرواته وأسواقه وموقعه.
برز، في أثناء ذلك، دور متعاظم الأهمّية للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تجاوزت الكثير من العثرات لتحجز لنفسها، سواء بالمفاوضات (الاتفاق النووي) أو ببناء القدرات والعلاقات ومواقع النفوذ، موقعاً مؤثّراً في المشهد الاستراتيجي في المنطقة وحتّى في العالم. كان، ولا يزال، الدور الإيراني إلى تصاعد، بمقدار ما بلورت القيادة الإيرانية نهجاً موجّهاً، بالدرجة الأولى، ضدّ مشاريع الهيمنة الأميركية والعدوانية الصهيونية الموجَّهتين، دائماً ومعاً، ضدّ قضية الشعب الفلسطيني وضدّ مصالح شعوب المنطقة.
الحلقة الأبرز، في النهج الإيراني، تمثّلت في دعم حركات مقاومة المشروع الصهيوني، من جهة، ومشاريع واشنطن وتابعيها في منطقة الخليج، من جهةٍ ثانية. في خضمّ ذلك، جهدت الجمهورية الإسلامية لبناء محور تبلورت، وتتبلور، أهدافه وسياساته وعلاقاته وأساليبه وتحالفاته… تباعاً، على ما لا يستهان به من مقوّمات التأثير والفعّالية.
يشكّل هذا المحور في الصراع الراهن، وأبرزه التصدّي الفلسطيني البطولي لحرب الإبادة الصهيونية الأطلسية ضدّ الشعب الفلسطيني، قطب المواجهة الأساسي وشبه الوحيد. يستدعي ذلك، بل يفرض، ضرورة الانخراط في نقاش معمّق يطاول، في ما يطاول، تطوير وتوسيع هذه المواجهة. ما يقتضي مراجعة وتفحّص أدوار ومواقف قوى متضرّرة أخرى لا تزال تتعثّر وتتهمّش بسبب الاحتكام إلى صيغ جامدة في مقارباتها، وبسبب اضطرابها في ترتيب أولويات الصراع في المرحلة التاريخية الراهنة. إنّ في رصيد بعض هذه القوى مبادرات مؤثّرة وتاريخية، كما أشرنا آنفاً، وهي ينبغي أن تكون ملهمة سياسات وتجارب مماثلة، لا مدعاة افتخار في موقع الإنكار!
سيكون لهذا النقاش تتمّة في تناول لاحق، خصوصاً لجهة نقد بعض المقاربات في عدد من الحقول: ممارسة السلطة، الشعارات، أدوات التعبئة… وضرورة الاستفادة من تجارب سابقة تهاوت نتيجة أخطاء كان يمكن تداركها.
يصبح مثل هذا النقاش شديد الأهمية بمقدار ما أنّ الصراع طويل ومصيري وبالغ التكلفة غالباً. كذلك بمقدار ما أنّ الفرز شديد الوضوح: الاصطفاف يجب أن يصبح كذلك!