شاحنات طروادة: عن الإبادة بالمعونات
عوني بلال – وما يسطرون|
عندما يبلغُ العنفُ نهايتَه القصوى، يصبحُ كلُّ شيءٍ مُترعاً بالرمز. لا يحتاج الأمرُ إلى تكلّف حينها بحثاً عن دلالة، فالمعنى ينطقُ عن نفسه بنفسه. منذ أشهرٍ ونحن هناك تحديداً، عند النهاية القصوى لفكرة العنف: النهاية التي تنطبق فيها حدودُ الجريمة مع حدود السلاح، ولا يبقى حدٌّ للقتل إلا بما تحدُّهُ آلةُ القتل وقدرتُها الناريّة. ها هو الكيان الذي بدأ قصّةَ وجوده تسلّلاً في سفن النازحين، الهاربين مِن هول محرقةٍ أوروبّية، ليُشهروا سلاحاً خَفيّاً بعد وصولهم ويؤسّسوا دولةً مِن رحم الخديعة… ها هو الكيان ذاته يُكمِلُ الدائرةَ في مخيّم النصيرات بعد 76 عاماً، ويعيد مشهدَ التسلّل الأوّل على نحوٍ أكثف وأسرع، وبثلاثمئة روحٍ أُزهقت في دقائق. ومرّةً أُخرى، تحت غطاء خديعةٍ تتخفّى بزيّ النازحين.
ليست هذه المرّة الأولى. في كانون الأوّل الماضي حصلتْ أولى محاولات استخراج الأسرى باستخدام سيارة إسعافٍ كان الإسرائيليون تَخفّوا داخلها. لم يُعرف لليوم -على وجه اليقين- نقطة انطلاق تلك المركبة، لكنّ شبهاتٍ حامت وقتها حول أحد المشافي الميدانية العربية. ما مِن دليلٍ قاطع على هذا، لكنّ تولّد الشبهة يحكي -بذاته- هواجسَ الناس حتّى تُجاه أكثر المواضع براءةً وحرمة: المشافي. ومهما يكن، فمذبحة النصيرات كانت تتويجاً لقوسٍ أطلقه الكيان منذ اليوم الأوّل لهذه الحرب: قوس بدأ بتسييس الإنساني (تجويع البشر لتأليبهم سياسياً) وصولاً إلى عسكرة الإنساني (تمويه عملٍ عسكري بغطاء النزوح والمعونات).
قبل عقدين تقريباً، صدر كتابٌ بالإنكليزية تحت عنوان «النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة». العنوان باهتٌ بالعربية (ويصعب للإنصاف أن تفكّر بتعريبٍ أفضل)، لكنّ القصّة التي يرويها مهمّة مَهما كانت الترجمة. يحكي الكتاب شيئاً لا يكاد يَخفى عن أحد، لكنّ مؤلّفه، نعوم تشومسكي، يرويه كما يصعب على غيره أن يروي: عن استغلال المآسي الإنسانية لتشريع الحرب وتحقيق أهدافها السياسية؛ أهدافها التي لا علاقة لها بالمأساة الأولى وحسب، بل وكثيراً ما تَخلق مكانها مآسيَ أكبر. هذا التلطّي خلف المعاناة البشرية لشرعنة العمل المسلّح هو المعنى المقصود مِن «عسكرة الإنسانيات»، وهذه -بمعنىً من المعاني- هي الحرب في الزمن الليبرالي، حيث ينحلّ التوتّر بين ما هو إنساني وما هو عدواني لأنّ الأوّل يغدو رافعةً أخلاقية للثاني.
هذا التلطّي خلف المعاناة البشرية لشرعنة العمل المسلّح هو المعنى المقصود مِن «عسكرة الإنسانيات»، وهذه -بمعنىً من المعاني- هي الحرب في الزمن الليبرالي
لكنّ إسرائيل مضت شوطاً أبعد في النصيرات، وأخذت «عسكرة الإنسانيات» صوب نهايتها القصوى ومعناها الحَرفيّ العاري: تحويل شاحنة، تبدو وكأنها لنازحين أو محمّلة بالمعونات، إلى محرقةٍ شاملة. الإنسانية لم تعد هنا تبريراً مزعوماً لفعل عسكري، بل تذخيراً مباشراً لسلاح المذبحة.
اقتران المعونات بالسياسة لم يبدأ اليوم. حتى قريش سيّست في زمانها قوتَ الناس لإيقاف دعوة النبي، وفرضت حصارها على بني هاشم وبني المطلب لقاء هدفٍ سياسي، ولثلاث سنواتٍ متتالية. لِمن يمسك مقاليد القوة، هناك دوماً «وكالة غوث» و«معبر رفح» من نوع ما يمكن توظيفه للقهر السياسي. لكنّ الأمر أسوأ اليوم مِن زمن الجاهليّة الأوّل. لا أدري إن كان «تسييس المعونات» تعبيراً يفي ما يفعله الكيان. الأمر أقرب إلى «مَعْوَنة السياسة» إن كان لنا أن نلفّق مصطلحاً لِما يجري: هذا التمحور المطلق حول هدفٍ سياسي وجعل كلّ تفصيلٍ إنساني رهناً به ومضبوطاً بإيقاعه.
داخل سؤال المعونات تحضر أيضاً مسألةٌ طبّية. لقد انفتح بابٌ كبير -ومقيّدٌ في الوقت ذاته- أمام وفودٍ صحّية وأطبّاء متطوّعين ومشافٍ ميدانية مِن أنحاء العالم، خصوصاً بعد الدكّ الإسرائيلي الممنهج لمستشفيات القطاع. ومع التقدير البالغ لأكثر هؤلاء، المخاطرين بحياتهم وأمنهم والمتحرّكين بوحي قناعةٍ قيمية عليا، فإنّ طبيعة هذا الكيان تجعل الاستغلال الأمني لملفٍّ كهذا أمراً حتميّاً. عام 2021، أصدرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية إعلاناً لافتاً على موقعها الرقمي لتوظيف أطبّاء بشريّين ومعالجين نفسيّين للمساهمة في «حفظ أمن أمّتنا» و«خدمة مهامّ وكالة المخابرات حيثما تقاطعت تلك المهامّ مع الاحتياجات الطبّية». وقد حمل الإعلان وقتها تنويهاً بأنّ العمل سيستلزم السفر «إلى دول أجنبية» وأنه سيتضمّن «تدريباً على مهاراتٍ طبّية وغير طبّية». وإذا كان العمل الإعلامي غطاءً تقليدياً ومعروفاً لحركة وكالاتٍ كهذه، فالوضع الإنساني في قطاع غزّة يفتح الأفق أمام أغطيةٍ مِن كلّ نوع، وسيستلزم الأمر زمناً طويلاً حتّى ندرك حقّاً أي دورٍ أمني لعبه بعض مَن دخلوا غزة «ببركة» التدمير الممنهج لقطاعها الصحي.
ما يُسمّى «ملفّاً إنسانياً» في هذه الحرب لم يعد ملفّاً على الإطلاق. هو اليوم في قلب قتالها وقلب سياستها. لم يعد الأمر مسألة تداخلٍ بين الأمرين بل مسألة انطباق. يتحدّثون كثيراً عن الحروب غير المتناظرة في فهم القتال الدائر في غزّة اليوم، لكنّي أتساءل إنْ كان هذا النموذج العسكري يصلُح حقّاً أمام الحرب القائمة ويجدي في إدراك أبعادها، فتعقيداتها تتجاوز كثيراً مسألة تناظرٍ غائب أو فارقٍ في القوّة. بكلّ معنىً موضوعي ممكنٍ، هذه معركة بلا نظير، وهذا ليس تكريماً لها بالمقام الأوّل، بل تكليفٌ هائلٌ على كاهل أهلها ومقاوميها.