من الإغريق إلى جزيرة السلحفاة: فلسطين واختراع الرجل الأبيض
ليث معروف – وما يسطرون|
يناقش هذا المقال العلاقة التاريخية بين الاستعمار الأوروبي لمنطقة بلاد الشام وبداية تكوين الهوية الأوروبية، والاستعمار الأوروبي في الأميركَتين واختراع هوية الرجل الأبيض، وكيف أن الاستعمار الصهيوني في فلسطين يمثّل قمّة هذا المسار والتحام التاريخ بالحاضر
في الغزوات الصليبية، عاد الأوروبيون إلى محاولة تعزيز مكانة بلاد الشام في مخيلة الهوية القومية، في محاولةٍ لتكوين هوية جامعة لشعوبهم ذات اللغات والثقافات والتقاليد غير المتجانسة. هنا من المهم التذكير بأن البابا الكاثوليكي كان هو من يقدّس ويبارك حكم الملوك في أوروبا بزعم أن العائلات المالكة هي سليلة المسيحيين الأوائل وتلاميذ نبينا عيسى ومبشّريه. لذلك، عند إعلان البابا فتوى تحليل الغزوات الصليبية، قال إن أرض الميعاد يجب أن يتم تحريرها على أيدي أصحابها المحقّين، أي ملوك أوروبا سلالة المسيحيين الأوّلين، من براثن الغزاة الكفار العرب، وذلك سيقود إلى عودة المسيح المنتظر ومجيء يوم القيامة. وللعلم، كان أول ضحايا الصليبيين هم المسيحيون الشاميون لأنهم كانوا أرثوذكساً أو يتبعون لكنائس محلية لا تعترف بقدسية البابا. ولا داعي للتفصيل في كيف أن كل الحجج الواهية التي ابتدعها الصليبيون (Crusaders) للقتل والاستعمار أعاد تكرارها اليهوديون (Jewsaders أي الصهاينة وليس اليهود).
بعد فشل الاحتلال الصليبي في بلاد الشام، اتجهت أنظارهم إلى الأندلس وما كان إلا أن طهّروا هذه الأرض من العرب والمسلمين. لحظة سقوط الأندلس هي حلقة الوصل بين تاريخ علاقة بلاد الشام وشعوبها مع تاريخ جزيرة السلحفاة وشعوبها. وللتنويه جزيرة السلحفاة هي الاسم الشائع بين شعوب «أميركا الشمالية» لهذه القارة قبل الاستعمار الأوروبي بسبب شكل خريطتها.
بعد غزو الأوروبيين للأندلس والاستيلاء عليها، قاموا بنهب الجامعات والمكتبات الأندلسية وتعلموا أن الأرض كروية فقرروا الالتفاف على العرب للوصول إلى الهند بدون عبور أراض عربية. وقاموا باستعباد بحّارين مسلمين يعلمون استخدام الأسطرلاب وتتبّع النجوم في الملاحة وكانوا على متن سفن كولومبوس التي وصلت إلى جزيرة السلحفاة.
هنا، وبعد ستة آلاف سنة من محاولة الأوروبيين لتقمّص الهوية الشامية وخيبتهم بسبب الممانعة الشامية الحية، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام شعوب لا تعلم بالإرث الشامي وتاريخه. ولتسهيل الاستعمار والإبادة الجماعية كما طلب ملوك الإسبان والبرتغاليين، أطلق البابا فتوى «الأرض الفارغة» حيث أعلن أن أرض جزيرة السلحفاة «أرض بلا شعب»، أي إن الشعوب الأصلية ليست من بني آدم إنما حيوانات. وقال المستعمرون الأولون إن جزيرة السلحفاة هي أرض الميعاد والجنة على الأرض، وإن الأوروبيين هم شعب الله المختار.
من الملحوظ أن هذه الخرافات العنصرية سوف يعاد تكرار استخدامها من الصهاينة في القرن العشرين، أي إنه لا يوجد أي إبداع فكري في البروباغندا الصهيونية، حتى إن بعض المستعمرين الأوروبيين الإنكليز المنتمين إلى الكنيسة البنّية، وهم مجدّدون في الكنيسة الإنكليزية هربوا من بطش ملك بريطانيا، قالوا إن هذا العذاب وهذه التضحية يعطيانهم الحق في أرض الميعاد وفي الاستعمار وسمّوا أنفسهم بـ«الحجاج» وقاموا بإبادة شعوب الأرض ثم ابتدعوا «عيد الشكر» حيث يشكرون الرب لمساعدتهم على السرقة والقتل. أوَليس ذلك ما قاله الصهاينة، أنهم هربوا من المحرقة وذلك يعطيهم الحق في القتل والسرقة وعيد ذكرى المحرقة هو عيد الشكر؟
في خضمّ هذه المرحلة والبعد عن الشعوب الشامية التي كانت تعكّر محاولة تقمص هويتها وتكوين الهوية الجامعة للشعوب الأوروبية، وجد الأوروبيون أنفسهم بلا خصم يقارعهم فكرياً أو يعكّر تكوين خرافاتهم. هنا، في جزيرة السلحفاة، وجد الأوروبيون أنفسهم مجتمعين على قتل عدو لا يشبههم بشيء، هنا بدأ تكوين «الرجل الأبيض» في مقارعة «الهندي الأحمر». هنا، وبعد إبادة الشعوب الأصلية، استعبد الأوروبيون شعوب أفريقيا ومحو عاداتها ولغاتها المختلفة وصهروها لصناعة «الرجل الأسود». هنا في جزيرة السلحفاة، بدأ صهر «الرجل الأبيض» في فرن الاستعمار، أولاً بجمع الشعوب الجرمانية البروتستانتية، إنكليز وألمان وهولنديين وأسكاندينافيين، ثم بعد احتلال لويزيانا وكيبيك من الإنكليز بدأ استيعاب الشعب الفرنسي في مخيلة البياض، ولكن لم يكن للشعوب الأوروبية الأخرى أن تمتص في هذه الهوية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فقط بعد لحظة احتلال الولايات المتحدة لكل الشعوب الجرمانية واللاتينية وكذلك لليونان، تم قبول هذه الشعوب في هوية «الرجل الأبيض» المبتدعة.
لكن بُعد المستعمرات في جزيرة السلحفاة عن فلسطين لم يشف هوس الأوروبي في تقمص هوية الشعوب المستعمرة ونهب عاداتها وإرثها الحضاري. فعلى سبيل المثال، كلمة كندا هي من لغة شعب الهونداشونيه المعروف بشعب الموهوك؛ والكلمة باللفظ الصحيح «كاناتا» تعني قريتي. فحين يقول المستعمر إنه كندي، فهو يقول إنه الأصيل من القرية والشعوب الأصلية هي الغريبة على القرية. وكذلك الحال في اسم المستعمرة الفرنسية السابقة كيبيك، فالكلمة من لغة شعب الألجانكوين وتعني المكان الذي يضيق فيه النهر، وهذا يجعلها رديفة لدير الزور في سوريا، وتعريف المستعمر الفرنسي عن نفسه أنه كيبيكواز يعني أنه صاحب الأرض وشعب الألجانكاوين دخلاء. ونرى هذه النزعة قد تكررت في جنوب أفريقيا حين سمى المستعمرون الهولنديون أنفسهم بالـ«أفريكانير» أي لا أحد غيرهم أفريقي أصيل. وطبعاً توّج مسار تقمص الهوية واكتملت هذه الحلقة التاريخية التي بدأت في بلاد الشام قبل ستة آلاف سنة عندما قال المستعمرون اليهود الأوروبيون إنهم الشاميون الأصيلون وإن الفلسطينيين الشاميين إنما هم غزاة ومتسوّلون وإن مقاومة أهل بلاد الشام للصهيونية إنما هي معاداة للشامية.
قوننة الاستعمار والتطهير العرقي: الأبارتايد علامة مسجّلة للاستعمار الإنكليزي
في العقدين الأخيرين كثر استعمال مصطلح «الأبارتايد» لتوصيف نظام الحكم في فلسطين المستعمرة، وللأسف مع أن المصطلح وهذه الكلمة من لغة المستعمر في أفريقيا الجنوبية شاعت لدرجة دخولها على الوعي ولغة الشارع في الوطن العربي والشعب الفلسطيني، إلا أنه قلّ من فهم تاريخ هذا المصطلح ببعده الأفريقي الجنوبي. ولكن قبل الغوص في هذا التاريخ على القارئ أن يعلم أن لكل نظام استعمار أوروبي طابعاً مختلفاً من حيث تعامله مع الشعوب المستعمرة. فالإسبان كانوا عند لقاء الشعوب الأصلية يتعمّدون قتل كل رجل أو ولد أو امرأة حامل ومن ثم يسمحون للجنود أن يغتصبوا كل النساء والبنات ويحملوهن، حتى إن الدراسات في جينات الشعوب الأصلية في المناطق التي استعمرها الإسبان تظهر اختفاء أثر كروموزوم الواي الأصلي من هذه الشعوب كلياً إلا عند الشعوب التي تعيش في المناطق النائية في أعالي الجبال أو أعماق الغابات.
أما المستعمرون الفرنسيون، فقد اختاروا في بداية استعمارهم لـ«كندا» أن يبعثوا رجالاً بلا نساء وأن يحرموا على اللوردات والضباط من الزواج أو التكاثر مع الشعوب الأصلية مع السماح للجنود باغتصاب النساء الأصليات لكن مع عدم الولادة منهن للحفاظ على نقاوة الدم كما يقولون. وهذا القانون سبّب مشكلة كبيرة للاستعمار الفرنسي وصعّب المعركة الديموغرافية، فكثير من الجنود كانوا يهربون من الثكنات العسكرية ويتزاوجون مع الأصليين ولا يعودون إلى المستعمرات، واللوردات والضباط بدأوا بالتململ.
هنا وجدت بطرونة شهيرة في باريس تُعرف بـ«مدام بورجوا» فرصة للعمل حيث كانت بيوت اليتامى والشوارع مكتظة بالبنات والنساء الشاردات. فزارت ملك فرنسا وحثّته على إعلان أمر ملكي يحوّل كل البنات والنساء المشردات وفي بيوت اليتامى ملكاً ليد الملك بلا حقوق فردية، وكان هذا التعريف القانوني يُستخدم في توصيف الشعوب الأصلية أو المستعبدين، وطلبت أن يبعث بكل هؤلاء الإناث المستعبدات إلى ما يُعرف الآن بكيبيك تحت إمرتها في بيت ستبنيه في مونتريال حيث ستعلمهن وتربيهن وتحضرهن ليكنّ زوجات بارات يضمن نقاء الدم والنسل. فوافق الملك واستعبد الإناث في فرنسا ولقّبهن بـ«بنات الملك» وبعث بأول سفينة محمّلة إلى كيبيك، وعند وصول السفينة إلى أول ميناء وجدوا أن كل الإناث على متن السفينة حوامل حيث إن قبطان السفينة اغتصبهن كلهن. فرفضت المدينة إنزال النساء عن متن السفينة، فكنّ بضاعة معطوبة حيث إنه كان من المفترض أن يتكاثرن مع اللوردات والضباط. وأكمل القبطان طريقه ولم تقبل أي مدينة استقبال النساء حتى رست سفينته على أرض مهجورة وعمّر قرية فقط له ولنسله. هذه الحادثة أدّت أن يأمر الملك بمرافقة حرس للنساء على متن السفن التالية وتوعّد أي قبطان سفينة تصل أنثى واحدة حامل على متنها بالإعدام (وللعلم إن هروب الجنود الفرنسيين وتزاوجهم مع شعب الكري ولدا هوية مخترعة في كندا هي الميتتي الذين يطالبون بحقوق تساوي حقوق الشعوب الأصلية ويحاولون حتى الحصول على أراض هي من حق شعوب أصلية ما زالت محافظة على لغتها وثقافتها).
عام 1663، بنت مدام بورجوا بيتها في جزيرة مونتريال وسمّته بيت القديس غابرييل، ويُعتبر أقدم بناء غير عسكري للمستعمرين الأوروبيين في كلتا الأميركَتين ما زال قائماً، وهو متحف الآن يمجّد البطرونة والنساء المستعبدات كالأمهات البانيات لأمة الكيبيكواز واغتصابهن كتحرر نسوي. وفي الذكرى الـ 350 لرحلة أول سفينة أعادت فرنسا وكيبيك تمثيل الرحلة، فتمّ بناء سفينة شراعية مماثلة للأصلية وتحميلها بالنساء وبعثها من باريس إلى ميناء مونتريال القديم حيث نُظم حفل استقبال شعبي وعند نزول النساء بلباسهن التاريخي حُملن على ظهر عربة بضائع مجرورة بالخيل مكدسات كالخراف، ووقفت حشود على كل أرصفة الشوارع بين المرفأ وبيت القديس غابرييل تصفق لأمهات أمتها كالمساطيل!
أمّا الإنكليز في استعمارهم، فقد اختاروا التطهير العرقي التام للشعوب الأصلية وحملوا معهم نساءهم من البداية. هنا في الساحل الشرقي لجزيرة السلحفاة وفي سنة 1763 وبعد فوز الإنكليز في حربهم مع الفرنسيين واستيلائهم على المستعمرات الفرنسية، كيبيك ولويزيانا، وبما أن الجيش الإنكليزي كان منهكاً وقد فاز في الحرب فقط بسبب تحالف الشعوب الأصلية معه ضد الفرنسيين، قام الملك بإعلان ملكي يُعرف بـ«إعلان الملك جورج»، وهو أمر بعدم تمدد أراضي المستعمرات الثلاث عشرة الأصلية في شرق أميركا غرباً واعتبار الشعوب الأصلية التي تحالفت مع إنكلترا مواطنين متساوين ولهم الحق في أرضهم، وجرّم استيطان أي من أراضيهم من دون موافقتهم أو بيعهم للأرض. ويُعتبر إعلان الملك جورج أصل سلسلة كل القوانين العرفية في كل المستعمرات الحالية والمستعمرات السابقة لإنكلترا في قوانين حقوق الشعوب الأصلية في كل القارات.
لكن إعلان الملك جورج لم يعجب المستعمرين في المستعمرات الثلاث عشرة، وهو في الواقع السبب الرئيسي لنشوب الثورة الأميركية بعد أقل من سنتين في سنة 1765 وليس الخرافة المتداولة عن حق التمثيل في البرلمان البريطاني للمستعمرين في أميركا. لقد أغضب الملك المستعمرين حين قونن إنسانية الشعوب الأصلية وحقوقها في الملكية للأرض وبذلك كبّل أيدي المستعمرين الذين بنوا اقتصادهم وكانوا يجنون قوتهم من النهب والسرقة وقطع الطرق والقرصنة والاستعباد والتطهير العرقي والقتل الجماعي. وللتنويه، إن سقوط المستعمرات الفرنسية في أيدي الإنكليز سنة 1763 وتكدّس الشوارع في فرنسا بالفقراء والمجرمين الذين كان مخرجهم الوحيد من الفقر أو السجن هو الذهاب إلى المستعمرات حيث لهم الحق في القتل والنهب والإثراء من الاستعمار، كان هو السبب الحقيقي للثورة الفرنسية سنة 1789. وفي المقابل، اشتعال ثورة المستعبدين «السود» في هايتي سنة 1791 في خضم الثورة الفرنسية وهي كانت آخر مستعمرة وازنة لفرنسا في الأميركَات، أدّى إلى توهج النزعة الاستعمارية في فرنسا ونجاح نابليون في الصعود إلى الحكم وإحياء القدرة الاستعمارية بالهجوم على كل محيط فرنسا واستعادة المستعمرات.
وللعودة إلى موضوع الخصوصية الإنكليزية في قوننة الاستعمار، فبعد بيع نابليون حوض نهر الميسسبي الذي كان يُعرف بلويزيانا للولايات المتحدة وهزيمة المكسيك وخسارتها لكاليفورنيا وثم تنازل الإنكليز عن أوريجون واكتمال احتلال الجرف القاري وسقوط كل الشعوب الأصلية تحت إمرة نظام الولايات المتحدة وانقطاع هذه الشعوب جغرافياً عن العالم وسبل الإسناد والتمويل والتسليح؛ تفرّغت الرزمة الحاكمة للتفنن في تطهيرهم عقلياً وجسدياً. وبما أن في نظر النظام الحاكم لم يعد في الشعوب الأصلية القدرة على أن تمثل تهديداً استراتيجياً، قرروا قوننة وتنظيم الاستعمار والتطهير العرقي.
وبسبب أن «الرجل الأبيض» يرى في نفسه قمة الحضارة، فكان يحب أن يغلف كل حثالة أفعاله بأجمل الأسامي التي تعني العكس التام لما يقوم به (على طريقة تسمية غزو العراق وسرقة كل موارده وآثاره وقتل مليون ونصف مليون إنسان بعملية «الحرية الدائمة»)، فلما كُتب أول هذه القوانين في سنة 1851 في الولايات المتحدة سمّوه «قانون استملاك الهنود» وهو قانون عرّف أن الشعوب الأصلية كالقُصَّر غير راشدين ولحمايتهم من خبث المستوطنين سيُعتبرون ملك يد الدولة وسيتم نقلهم إلى مناطق بعيدة عن المستوطنات ويُمنعون من التنقل خارج «المحميات» وسيوضع أولادهم تحت إمرة الكنيسة التي ستكون مسؤولة عن تربيتهم وتجهيزهم للاندماج، وادّعوا أن هذا القانون يحمي الهنود بينما سُلمت أراضيهم للمستعمرين.
«قانون استملاك الهنود» (1851) الأميركي ونجاحه قوبل بالإعجاب في كل المستوطنات الإنكليزية، وفي أقل من عقدين نسخه المستعمرون في أستراليا وسمّوه «قانون حماية الأبوريجينال»، أي إنهم زادوا في النفاق أكثر من إخوتهم الأميركيين وعرفوا علناً سرقة الأرض كحماية للشعوب الأصلية. ولم تتأخر كندا عن الركب فكتبت «قانون الهنود» (1876) وفيه مُنعت الشعوب الأصلية من الخروج من المحميات والتواصل مع أقربائها من دون تصريح من الشرطة الفدرالية. وبين عامي 1876 و1993 خطفت كندا قرابة النصف مليون طفل من الشعوب الأصلية وسُجنوا في مدارس الكنائس البعيدة عن أهلهم حيث عُذبوا إذا تكلموا بلغتهم الأم، وإمّا أعطوا لعائلات من المستعمرين الأوروبيين أو قُتلوا ودُفنوا في رحاب الكنائس من دون علم عائلاتهم. وبعد الحرب العالمية الثانية وبدء كتابة المواثيق الدولية التي تحرّم الاستيطان وتدعم حقوق الشعوب المستعمرة بالتحرّر، قررت حكومة جنوب أفريقيا الاستعجال بنسخ تجربة قوننة الاستعمار، فبعثت بوفد إلى كندا فدرس «قانون الهنود» وزار المحميات، وعند عودته أصدرت الحكومة «قانون الأبارتايد» (1948) وبنت محميات وسمّتها «بانتوستانات».
وأخيراً، في المستعمرة الصهيونية التي أنشأها الإنكليز في فلسطين وبعد احتلال كل الأرض سنة 1967 وتعلم الفلسطينيين الدرس من النكبة بأنهم لن يُسمح لهم بالعودة إن هربوا تحت إطلاق النار وبقائهم ثابتين في أرضهم، وجد الصهيوني نفسه بحوزته مليون فلسطيني تحت إمرته، فما كان من الصهاينة إلا أن يزوروا كلاً من كندا وجنوب أفريقيا لاستنساخ قوننة الاستعمار. وعلى ذلك كُتب «قانون روابط القرى» (1978) حيث أصبحت القرى الفلسطينية محميات يمنع الفلسطيني من الخروج منها بلا تصريح عسكري، وأُممت كل الأراضي في محيطها ليبدأ الاستيطان فيها. وللعلم، إن قانون روابط القرى كان السبب الرئيسي لاندلاع انتفاضة سنة1982 بعد فوز قيادات النضال في انتخاباتها ورفض الصهاينة الاعتراف بالنتائج. ولكنّ الصهاينة أعادوا محاولة قوننة الاستعمار في «اتفاقية أوسلو» (1993) وما سُمي «الحكم الذاتي»، وكما نعلم فإن هذه المحاولة أيضاً منيت بالفشل بعد اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000. وللأسف، بعد انتصار حزب الله على الصهاينة عام 2000، سارعت الأنظمة العميلة في الوطن العربي لتقديم أطروحة أخرى لقوننة الاستعمار والفصل العنصري عوضاً عن الصهاينة ولإضفاء شرعية عليها سمّتها «مبادرة السلام العربية» (2002) وفيها تعترف الدول العربية بشرعية الكيان الغاصب مقابل خنق الشعب الفلسطيني في محميات حكم ذاتي؛ وللأسف إن هذا الانحطاط في العمالة مع المستعمر لم يلقَ له مثيلاً في أي من التجارب الاستعمارية السابقة على أي من قارات المعمورة.
مسح الأدمغة واليوجينيا: الاستعمار العقلي والجسدي للشعوب الأصلية
إنّ أصعب مهمّة يواجهها المستعمر بعد هزيمة الشعوب الأصلية إن لم يطهّرها عرقياً بالكامل، هي كيفية حكمها بأقل التكاليف وأقل المقاومة له. لذلك، نرى أن المستعمر الإنكليزي طوّر أسلوبين لمساعدته في التحكم في باقي الشعوب الأصلية: «اليوجينيا السلبية» و«مسح الأدمغة». وللعلم إن اليوجينيا الإيجابية هي علم تنقية الجينات، وفي العادة تُستخدم لفحص الأمراض والتشوهات المتناسلة لقطفها قبل الزواج والتكاثر والولادة. ويُذكر أن النازيين اتّبعوا هذا العلم في فكرهم العنصري إلى أقصى التطرف فخططوا لقتل كل معاق أو غير مرغوب به لتطهير عرقهم من الشوائب كما قالوا. أمّا في حالة اليوجينيا السلبية، فالهدف في التنقية يكون في إضعاف الجينات في المجموعة المستهدفة.
ففي بداية عملية الاحتلال يركز المستعمر على قتل نخبة الشعب الأصلي من قادة ومفكرين ومناضلين وعلماء وفنانين ومعهم أكبر عدد من أقاربهم ونسلهم، وإن استطاع فقطع نسلهم كلياً. مع أن العلماء يختلفون على ما العامل الرئيسي في تكوين الإنسان، الجينات أو التربية، بمعنى هل نسل المبدعين على شاكلتهم بسبب الجينات أو بسبب تربية أهلهم؟ فإذا قضيت على عائلة كاملة فلن يوجد أحد ليذكّر بتاريخها أو يجد فيه منبعاً للتميز والإبداع، وكذلك لن ينتقل الجين المبدع إلى الجيل الآخر، أي إن اليوجينيا السلبية لا تهتم بالنقاش الفيلسوفي بقدر ما تهتم بالنتيجة على أرض الواقع المستعمر.
وطبعاً لا داعي للتفصيل في كيف أن اليوجينيا السلبية استُخدمت على الشعوب الأصلية والعراق والآن في غزة، ولكن من الواجب لفت النظر إلى أن المحرقة في غزة تمثّل أعلى درجات التطور في اليوجينيا السلبية، حيث إن الصهاينة استخدموا برنامج الذكاء الاصطناعي «لافندير» في تتبع نخبة المجتمع الفلسطيني في غزة، جامعيين وأطباء وعلماء وصحافيين وفنانين ورياضيين وساسة ومجاهدين، وأعطوا الأمر للبرنامج بقتلهم فقط عند عودتهم إلى منازلهم وتواجدهم مع عائلاتهم حتى يضمنوا إبادة نسلهم كاملاً وبسبب ذلك محيت عائلات كاملة من القيد الوطني.
وأخيراً، في موضوع الإضعاف الجسدي للشعوب المستعمرة، فإن الإنكليز كانوا أول من استعمل الحرب البيولوجية في تاريخ الإنسانية، فبعد أن لم يستطيعوا هزيمة شعوب المنطقة الوسطى لجزيرة السلحفاة (البريريز) في ميدان الحرب، شنوا عليهم حرباً بيولوجية بأداتين: الأولى، من خلال التجارة بألبسة أو بألحفة متعرّضة لجراثيم أمراض لم يكن عند الشعوب الأصلية مناعة لها كالحصبة. والثانية، من خلال تدمير أي عامل في الطبيعة يمكن أن يعطي الشعوب الأصلية أي اكتفاء ذاتي. فمثلاً، أعلنت الحكومات في كندا وأميركا جوائز لمن يقتل البيسون، وهو بقر بري كانت تصطاده الشعوب الأصلية وتقتات منه، وجعلها غير معرّضة للحصار والتجويع كسلاح حرب، فما كان إلا أن قتل المستعمرون ملايين البيسون ووصلت إلى حافة الانقراض، وذلك أدّى إلى مجاعة أجبرت معظم الشعوب على الاستسلام. وكما نرى اليوم فإنّ المستعمر الأميركي تعمّد تسميم الجزيرة بين النهرين وحرم أهل الشام من خيرات الأرض المعطاء التي ورثتهم المناعة ضد الاحتلال لقرون وحوّل الهلال الخصيب إلى أرض محروقة ينفر منها الملايين ومن بقي في الأرض يتعرّض للمرض بسبب الإشعاعات والتلوث وحتى جينات نسله تضعف.
وطبعاً كُتب الكثير عن الاستعمار العقلي وقوة الإعلام في هذا المجال، ولكن في الحقيقة أولى التجارب في الاستعمار العقلي كانت في مجال التعليم لأطفال الشعوب الأصلية في ما سمي المدارس السكنية التابعة للكنائس، حيث كانت الشرطة الفدرالية تعزل المحميات وتحت القهر والتهديد بالسجن تخطف الأطفال من أهاليهم بحجة تعليمهم ومن ثم يُبعث الأطفال إلى هذه المدارس البعيدة عن محمياتهم بمئات الكيلومترات ويقطنون فيها تسعة أشهر من السنة سجناء. في هذه المدارس السكنية كان الأطفال يُضربون ويُعذبون ويُغتصبون ويُقتلون إذا تكلموا بلغتهم الأم أو اتبعوا أياً من تقاليدهم الثقافية أو الدينية، حتى إن أول تأريخ لاستعمال الكهرباء كأداة تعذيب بربطها بالأعضاء التناسلية كما حصل في معسكر أبو غريب في العراق تحت إدارة الاحتلال الأميركي، كان تعذيب أطفال من الشعوب الأصلية في «كندا» بسب عدم معرفتهم باللغة الإنكليزية عند اختطافهم واستعمالهم للغتهم الأصيلة في المدرسة، وقد أُغلقت آخر مدرسة سكنية في كندا عام 1993.
وطبعاً نقل المستعمر هذه التجربة إلى بلادنا، ولا داعي للتفصيل حيث إن أعداد المدارس الغربية واضح لكل عاقل، ولكن سأترككم بمعلومة طريفة وهي أن المبشّرة الأميركية سارة سميث، وكانت من أنجح المديرات في المدارس السكنية لأطفال الشعوب الأصلية وبارعة في «قتل الهندي في داخل الطفل»، سافرت إلى لبنان سنة 1835 وبنت مدرسة سكنية للبنات في بيروت وسمّتها «المدرسة الأميركية للبنات» وكان همها «تحرير النساء العربيات» من طغيان مجتمعهنّ، حتى إن أول مجلة أصدرتها المدرسة كانت مجلة «الحجاب يُرفع»، والآن هذه المدرسة تُعرف باسم: الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) وقد خرّجت أجيالاً!