حراك يتحدّى «التأديب»
رباب عبدالهادي – وما يسطرون|
نشهد اليوم لحظة مهمّة جدّاً لم تشهدها الولايات المتحدة منذ عقود الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، حيث انطلقت حينها حركات المعارضة للحرب الأميركية في فييتنام، والحركات التحريرية الجذرية الأخرى: الحركات التحررية السوداء واللاتينية وأهل البلاد الأصليون، وترافقت وتقاطعت معها حركات طلاب الجامعات التي طالبت بتغيير المناهج الاستعمارية الأوروبية – الأميركية، واستبدالها بمناهج تحرّرية تعكس التجارب الحياتية للفئات المهمشة والمستعمَرة وتاريخها وتطلعاتها، وترابط تغيير المناهج مع تغيير نوعي في الهيئات التدريسيّة باتجاه تعيين الأساتذة الملوّنين من هذه الفئات ليدرّسوا الطلاب هذه المواد الحيوية. إضافة إلى حركات تحرّر المرأة والحركات الثقافية والفكرية والفنية.
وقد تميّزت طلائع هذه الحركات بعلاقتها العضوية مع حركات التحرّر الوطني في العالم الثالث وتحرّر أهل البلاد الأصليين من الاستعمار الاستيطاني العنصري، إن كان في فلسطين أو في جنوب أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا وأميركا الشمالية التي تسمّيها الشعوب الأصلية جزيرة السلحفاة.
ولا تبدو أهمية هذا الحراك فقط في سيطرته على الشوارع وتعطيل حركة السير والجسور والمطارات الحيوية حتى لو لبضع ساعات قليلة، فهناك نقلة نوعية في خطاب واستراتيجيات وتكتيكات الحراك الشعبي الذي يتضمّن الشباب والمسنّين والفئات والتشكيلات الاجتماعية كافةً، ومن ضمنها الطلاب بالطبع.
فهنا نشير إلى أن شعارات حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني لم تعد تقتصر على المطالبة بوقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة فحسب، وإنما ارتفعت وتيرتها إلى وصف العدوان الصهيوني بحرب الإبادة الجماعية (Genocide)، ورفع شعار تحرير كلّ التراب الفلسطيني، مثل الهتاف «فلسطين حرّة من البحر إلى النهر»، ورفض متّخذي المواقف الصهيونية الناعمة، بل المطالبة بشكل صريح وواضح بمحاربة الصهيونية فكراً وممارسة وتجسيدها المادي أي دولة إسرائيل.
وقد أثار هذا الخطاب بالذات غيظ مؤسسات اللوبي الصهيوني ومؤسساته التي ادّعت بأن هذه الشعارات تدعو إلى القضاء على اليهود، لتشويه مواقف المقاومة الفلسطينية والحركة التضامنية.
ومنذ انطلاقته الجديدة في أكتوبر 2023، ركّز الحراك على ربط تحرير فلسطين مع تحرّر باقي الشعوب تحت شعار شمولية (أو عدم تجزئة) العدالة، من ناحية، ومن ناحية أخرى طالب بالوقف الفوري لكلّ أشكال الإسناد الأميركي، السياسي الديبلوماسي والمالي، للعدوان الصهيوني والتواطؤ الأميركي الإمبريالي مع آليّة الحرب الإسرائيلية، واستخدام الأموال الملطخة بالدم الفلسطيني للاحتياجات الحيوية للشعب الأميركي من غذاء وسكن وعمل وتعليم لغالبية الطبقات.
وقد اتبع الحراك أساليب جديدة ومبتكرة، من بينها تعطيل الطرق الحيوية كتلك المؤدية إلى مطار كنيدي في نيويورك، سان فرانسيسكو، واحتلال قاعة الكونغرس الرئيسية، وأكبر محطة للقطارات، إضافة إلى تمثال الحرية في نيويورك، والاعتصام أمام بيوت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في سان فرانسيسكو، ورئيس مجلس الشيوخ تشارلز شومر في نيويورك، ومنزل وزير الخارجية أنتوني بلينكن في العاصمة واشنطن.
كما عمد النشطاء إلى نصب المتاريس أمام موكب الرئيس الأميركي جو بايدن (الذي التصق به نعت بايدن المجرم) وتأخير احتفالات جوائز الأوسكار في هوليوود. وتتميّز هنا أيضاً التظاهرات والاعتصامات أمام مراكز الصناعات الحربية الأميركية بالمطالبة بمقاطعة الشركات المتورطة في تمويل الاحتلال، والضغط على الجامعات والشركات والمرافق الحيوية حتى تسحب استثماراتها للمجازر الإسرائيلية.
وكما علّمنا تاريخ الحركات الاجتماعية، فإنّ فئة الشباب تقوم بدور مركزيّ في الحراك الاجتماعي، والحراك التضامني ليس استثناء. وهنا نشهد نقلة نوعية للحراك الطلابي، إذ كسر الطلاب حاجز الخوف الذي كان يعرقل رفع سقف فعاليات الحراك. وبعكس أهداف إدارات الجامعات الليبرالية الجديدة – التي تواطأت مع اللوبي الصهيوني والحكومة الأميركية وعمدت إلى إصدار سلّم من العقوبات المنحازة لإسرائيل وذلك لعقاب و«تأديب» الطلاب المتمرّدين – رفض طلاب جامعة كولومبيا قرار إدارة الجامعة بتعليق نشاط «اللجان الطالبية من أجل العدالة في فلسطين» (Students for Justice in Palestine) و«الصوت اليهودي للسلام» (Jewish Voice for Peace) وقاموا فوراً بتشكيل تحالف واسع للتضامن مع فلسطين.
ورفع الطلاب من وتيرة فعالياتهم بعدما أدلت نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولومبيا، بشهادتها المخزية أمام لجنة مشتركة من مجلسَي النواب والشيوخ وأصدرت إجراءات عقابية إضافية تحدّ من فعل الطلاب ومن حركتهم ونشاطهم.
إنّ ردود الفعل الطالبية كانت واضحة وجريئة، فلم يكتف الطلاب برفض سلّم العقوبات القمعية كلياً وجزئياً، وإنما وسّعوا رقعة فعالياتهم تحدّياً لهذا القمع الذي نطلق عليه اسم «المكارثية الجديدة» (New McCarthyism، نسبة إلى عضو الكونغرس جو مكارثي، الذي استمر لسنوات طويلة خلال عقد الخمسينيات في القرن الماضي يلاحق كل من يشتبه بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي وطردهم من أعمالهم وفرض الحصار عليهم).
فبدلاً من أن يستسلموا للأمر الواقع، عمد طلاب جامعة كولومبيا إلى إنشاء مخيّم في وسط الحرم الجامعي سمّوه «جامعة فلسطين المفتوحة». فترى الشعارات التي يكتبها الطلاب على خيمهم، وتتراوح أنشطتهم ما بين الدراسة للامتحانات القريبة، وتنظيم الحلقات التدريسية والثقافية، والاستماع الى الأغاني الثورية، وتفادي الشرطة، وممارسة استراتيجية الكرّ والفرّ في بعض الجامعات، حيث ينشئون المخيمات أثناء النهار ويعيدون نصبها كلما اقتحمت الشرطة وقوات الأمن الحرم الجامعي.
وتتوفّر الحاضنة السياسية والاجتماعية للطلاب المعتصمين، فقد فتحت مجموعة من الناشطين بيوتهم لاستقبال الطلاب المطرودين من سكنهم الجامعي. كذلك تتولّى مجموعة من المحامين التقدّميين بلا مقابل قضايا الطلاب والناشطين الآخرين أمام المحاكم الأميركية حتى يتم إطلاق سراحهم. وتتكفّل مجموعات أخرى من الطلاب والتجمعات ومنظمات الجالية بجمع التبرعات ودفع الكفالات حتى لا يبيتوا ليالي إضافية في السجن.
ومنذ 17 نيسان الجاري، حيث انطلق أوّل مخيم في جامعة كولومبيا، وخلال خمسة أيام فقط، انتشرت عدوى العصيان على ظلم الجامعات الأميركية وحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية حتى بلغ عدد المخيمات 79. ومن المتوقع أن يستمر العدد بالتصاعد اليوم الثلاثاء، تجاوباً مع نداء الطلاب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.