الإصلاح.. حين يرتد سيف الغدر الى غمده
وما يسطرون – وليد الحميري – المساء برس|
أواخر الثمانينات جاء المدرسون المصريون الى قريتنا الصغيرة في اعالي” جبل حبشي”،هناك حيث نرى فنار ميناء المخا التاريخي من اعالي الجبال المطلة على القرية عند الفجر،
وفي ذروة المد القومي أنذاك وصل المصريون ليلاً مفعمين بالعروبة وشعارات الوطن الواحد من المحيط الى الخليج، اقلتهم سيارة لاندكروز رباعية الدفع عبر الطرق الجبلية الوعرة،
صباحاً أستيقظ احدهم لدراسة طبيعة المنطقة التي وصلها، اصيب حينها بالدهشه قرية تحيط بها الجبال الرواسي من الجهات الاربع، صرخ مندهشاً (الله.. انا فين يا ولاد الأيه.. دنا مش شايف من السماء غير قرص الخبز)
مرت السنين ومعها غرس هؤلاء الاساتذة حبهم في قلوبنا على نحو ما أنفك يراوح ذاكرتنا حتى اليوم، تفانوا بأخلاص في سبيل أن نتعلم كل شئ،
مطلع التسعينات غادر المصريون مدرسة القرية بالتزامن مع إحلال مدرسون يمنيون بدلاً عنهم، ودعناهم بقلوب مكسورة وعيون دامعة، جمع الطلاب ثمن تذكرة الطيران كما هي العادة دائما حال ذهابهم للأجازة السنوية، كجزء من رد الجميل لقاء جهودهم الجبارة،
يومها كان رغد العيش سائداً في القرى، حيث يعمل غالبية الاباء في الخليج، وفي سوق المنعم تجد كل البضائع والماركات العالمية، تصل كل خميس سيارة الطبر التي تحمل رسائل المغتربين من جدة والرياض، وبذات الوقت كانت عدن ايام الحكم الشمولي ترسل سيارة تحمل منتجات وبضائع متنوعه وباسعار زهيدة،
ذات صباح ومع بدء موسم دراسي جديد جاء مدرسون محليون كانوا للتو قد تخرجوا من المعاهد العلمية للأصلاح، وبسروايل وقمصان فضافضة سيئة التفصول، أخذ احدهم المكرفون وبدء يُملي علينا طرق جديدة لتأدية طابور الصباح، منعت شعارات القومية العربية، واستبدلت بشعارات دينية على غرار الله اكبر ولله الحمد،
في اليوم التالي طمست خارطة الوطن العربي من جدران المدرسة،وأزاحوا صورة جمال عبدالناصر وأستبدلوها بصورة الزبيري بعمامته البيضاء،
بدء خريجو المعاهد العلمية حملة لاستئصال كل ما يمت للعروبة والقومية وحتى الارث الصوفي الضارب في القدم، وعوضاً عنها جاؤا بكتيبات صغيرة لابن باز وابن عثيمين والزنداني، إستبدلوا الاناشيد الوطنية بأشرطة كاسيت تحوي محاضرات صاخبة لأبراهيم الدويش وشيوخ سعوديين،
في مساجد القرى.. بدؤا حملة للاستيلاء على المنابر، وخاضعوا صراعاً مع كبار السن المعتقين بالفكر الصوفي، شنوا حملات تشويه ضد احياء الموالد الصوفية، وشرعوا في تفنيد ثوابت دينية مغروسة في صميم معتقدات الناس، كانت المدراس هى منصة أنطلاقتهم للترويج لافكارهم الدخيلة، احدثت فيما بعد صدعً عميقاً في صلب نسيج المجتمع الذي ظل لقرون على حالة من الوئام والمحبة، تمرد الأبناء على الأباء معززين بثقافة الكراهية لكل الموروث الديني والفكري المتأصل منذ القدم،
وبسحنات تخفي اللؤم والخبث وتظهر التقى والطهر، تصدر هؤلاء المشهد مع تراجع كبار السن المحافظين،
وعلى إثر ذلك بدءت حملة إستقطاب رهيبة للنشء، سادت فيها حالة مخيفة من التضليل وغرس قيم وثقافات غريبة عن المجتمع، إعتمدوا فيها على تقديم مغريات للشباب وصغار السن، وعبر حلقات التحفيظ فخخوا الاجيال بالفكر الطائفي والعنصري، فكر يقصي ويكفر كل مخالف، ويدعو الى إجتثاث كل ما هو أصيل.
عقب تحقيق الوحدة عام 90 خاض المتنورون من قوى اليسار مدعومين من الحزب الأشتراكي بعدن صراعاً مريراً مع القوى الدينية المتطرفة، عمق هذا الصراع حالة الإنقسام بين ابناء المجتمع الواحد،
وعلى إثره إنحسرت الصوفية وأنزوت في زوايا وحضرات محدودة في الصراهام ومدينة يفرس حيث يرقد الشيخ الصوفي الشهير أحمد ابن علوان،
تركت الصوفية بموت غالبية رموزها الساحة فارغة للمكونات المتطرفة، ظل المحبون يردوون قصائد المديح النبوي في بيوتهم مع تنامي سطوة الرهاب الفكري والمعنوي لانصار الفكر الوهابي الدخيل،
ليلاً يهلل شيخ من داره القديم بعد أن مات رفاقه طالباً المدد من أهل الله لمواجهة المد التكفيري القادم من ربُى نجد (يا ابن علوان ياعمود الدين غارة… انا قلبي مولع يشتي رأس المناره) قارع الشيخ منفرداً الافكار الدخيلة حتى وافاه الاجل، وما لبث الناس يذكرون مناقبه في كل حين،
لم يكتفي الاصلاح بالسيطرة على المدارس، بل أوعز لطلاب جامعة الايمان بالسيطرة على المساجد، كانوا يجوبون القرى وعلى ناصيتهم شماغ أبيض ودقون مشذبة ليلقون على القرويين خطب فيها من السجع والجناس ما تنطرب لها قلوب الناس، وبين مغرباً وعشاء عمدوا الى إستقطاب الشباب والنشء وغرس قيمهم الهدامة،
لم يتوقف الأمر هنا.. بل عزز الحزب الاصولي حضوره في المجتمع عبر الجمعيات الخيرية والتي توزع المستحقات فقط للفئات الاكثر ولاءً للحزب،
وعلى طول الطريق كانت السيارات التي تحمل الدقيق والزيت تجوب القرى لتوزيعها على الموالين للحزب دوناً عن غيرهم من الفقراء والمحتاجين، اتذكر الان كيف كانت هذه السيارات تمر من امام منازل الفئات المهمشة ذوي البشرة السوداء القاطنين عند اطراف القرى دون ان تعيرهم ادنى اهتمام ،
سمعت أحدهم يقول متحسراً واطفاله يشاهدون السيارات التي تقل سلال الغذاء الى بيوت ميسوري الحال من اعضاء الحزب (نحن ابناء السوداء لا نصيب لنا) كان الاصلاح يصنف هؤلاء البؤساء (بدون البشر) قالها مدير المدرسة الاصلاحي بوجه أحدهم جاء لتسجيل أبنه بالمدرسة وهو لا يملك رسوم التسجيل ( ايش تشتوا بالدراسه.. اكثر من مكنسة جدكم لا تحلموا)،
مرت السنون والناس في جدلً لا ينتهي، جدل صنعه الوهابيون الجدد، تاه الناس بين الحلال والحرام والجائز والمباح والمندوب والمكروه،
وما إن قامت الحرب على اليمن، حتى إنبرى الاصلاحيون من كل مكان لدفع الناس الى القتال، وعلى وقع شعارات طائفية وعنصرية تدافع السذج الى جبهات القتال، وخاضوا معركتهم الخاسرة نيابة عن الأصلاح الذي فضلت كوادره إدارة المعركة من الخطوط الخلفية، إقتصر دورهم على التحشيد وتحفيز الناس على القتال، إستدعوا كل موبقات التاريخ وجلبوا كل مسبةً لوصم أبناء البلد المدافعين عن السيادة،
كانت الطائرات السعودية تجوب أجواء اليمن، وثمة إصلاحي على الارض يرفع الاحداثيات لغرفة العمليات للتحالف، سُفكت دماء ألاف من اليمنيين، ودُمرت مقدرات البلد بالكامل، إنتشر اعصاء الحزب على طول الطرق المؤدية الى جبهات نهم وصرواح والمخا وتعز، يرصدون كل تحرك عسكري، سقط بأفعالهم الدنيئة أنبل الرجال في معركة ملحمية كان العدو يملك فيها جيش من العملاء على الارض، جلهم من الاصلاحيون،
في صرواح وحدها دمر الطيران الحربي قرابة الف طقم عسكري في أول سنتين من الحرب، كانت عيون الاصلاح وراصديه على طول الطريق الممتد من خولان الى بني ضبيان ترصد كل مظهر عسكري يمر عبر الطريق الاسفلتي الى صرواح، لاحقاً اوقعت الاجهزة الامنية بكامل الخلية التي إتخذت من مركز تحفيظ القرأن في بني ضبيان مقراً لرفع الاحداثيات،
من نسامح اليوم..اولئك الذين من ابناء جلدتنا وقد تبدلوا جلودهم اليوم، وباتوا وديعين بعد سنوات من القسوة والأمعان في قتلنا، اتذكر حالة الترهيب التي تعرض لها الكثير ممن رفض التدخل الاجنبي وبالاخص في مناطق سيطرة الاصلاح، كنا نشعر يومها بالغربة أمام موجة من الترهيب النفسي والمعنوي، تهمة التحوث كانت كفيلة بأن يقتلع احد الموتورين رأسك في ظلام الليل الدامس، كان هؤلاء المدرسون أكثر عنفاً من غيرهم، لا يتورعون عن سفك الدم لمجرد أشتباه بولاء أحدً ما،
ربما بعد ربع قرن سنطوي صفحة الحرب،سنقنع بعضنا بأنها لم تحدث أو أنها أهلية بالفعل ، وأنها مزحة ثقيله لا أكثر ، لكن الحرب وبناتها أصدق أنباءً من الكتب ومن كل كتبة التاريخ المزورين،تلاحقنا بضحاياها ، بصورها الدامية والثقيلة ، والاهم من كل ذلك ، مئات بل الاف المفقودين والشهداء المعلقة أسمائهم على خيمة الوطن الصغير ، بوجوهم التى تحاصرنا ولا تبتسم ، لأن ما من قصةٍ لهم تستحق الأبتسامة،
واليوم يا لعلمي من المسئول بعد كل هذه السنوات المريرة ، من المسئول عن معاناة من لم تغريه فنادق الخمس نجوم ولمعان الورق الأخضر، عن حزن العائدين بقرار رسمي لأعمالهم بعد أن أكل الدهر قلوبهم فى أنتظار راتب لم يأتي إلا حين أصبحوا على حافة شبرين من القبر أو أدنى ،
كيف يصدق أحدهم حين يرى من كانوا ببذلات عسكريه فى زمنً ما وقد أطلوا علينا بلباسهم المدني ناطقين بأسمنا ، وظنوا أنّ لن نعرف وجوههم المتهمة بكل شئً بشع ، ام الناس الذين أختاروا أن ينسوا ، لا أن يحاسبوا ويسألوا ، ام الأعلام الذى يعتذر عن بشاعة الحزن ،
ما نصنع بأعتذراكم ، أبعد كل هذه السنين تعتذرون ، لمن والقائمة لا تنتهي ، للأرض التى نهبت واستبيحت ، للسماء التي فُتحت كجهنم الحمراء على رؤوسنا، أم للبحر الذى لم يسلم من معاول الدفن ، أم لأمً دفن إبنها حياً في رمال المخا ، فمن يخبرنا أذاً عن جديد الألم القديم ،
إذا كنتم قد سرقتم أحلام مستقبلنا وحلم جيلً بأكمله ، أفرجوا عن حقيقة ماضينا ،كى نتوضأ بالذاكرة الحقه ، كى نراضي أمهات الشهداء والمفقودين ، الأباء والأبناء المنتظرين ، بهدية الحقيقة ،وبعدها ستكون الحرية لمن وقف ضداً للأستهلاك المرضي وللخيانه والارتهان وعلى النقيض من فتاوى قطعان المستعمرة،بصكوك غفران ولحى ملونه.
الذكرى ليست حقداً ولا إنتقاماً ، كما أن النسيان لا يغدو تسامحٌ بالمعنى الأشمل، الذكرى حق ، مسافة أمان بيننا وبين المجرمين ، لقاح للحمى بعد شفائنا منها ، كى لا تعاودنا مرةً اخرى ، هى ضمانة حقيقية لحياةٍ بشطئان تأبى أن تتسلل حبيبات الموت الى رمالها ،
من حائط الكاتب بالفيس بوك