إعادة التفكير في القانون الدولي

علي الموسوي – وما يسطرون|

في العشرينيات من القرن الحادي والعشرين لم يعد ممكناً النظر إلى القانون الدولي باعتباره منظومة محايدة أو إطاراً كونياً أُنشئ لحماية الإنسانية وحقوق الشعوب. فكلّما أُعيد تفكيك تاريخه وبُناه ومفاهيمه الأساسية، تكشّفت شبكات معقّدة من المصالح السياسية والاقتصادية تشكّلت عبر قرون من الإمبراطورية والاستعمار والتحكّم في الموارد. يستلهم هذا المقال تلك الرؤية النقدية الشاملة التي بلورتها المقاربات المتعلّقة بشالعالم الثالث في القانون الدولي، لكنه يأتي نصاً مستقلاً، يعرض أفكاره ويتأمّل في قضاياه الكبرى من دون ارتباط مباشر بأيّ عمل محدّد.

منذ نهاية الحرب الباردة، شاع الاعتقاد بأن العالم يسير نحو نظام عالمي جديد يتأسّس على الحكم الرشيد وحقوق الإنسان والسوق المفتوحة. بدا وكأنّ التاريخ قد طوى صراعاته الكبرى، وأنّ القانون الدولي سيكون الأداة التي تُنظِّم علاقات دول متساوية السيادة، وتحمي الشعوب من الاستبداد والحروب والأزمات. غير أنّ الواقع كشف مساراً مختلفاً تماماً؛ فقد كانت تلك اللحظة بداية صعود نظام قانوني- اقتصادي شديد التعقيد، يُعاد فيه توزيع السلطة على المستوى العالمي بطرق جديدة، ويتحوّل فيه القانون إلى ذراع متقدّمة لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة ولكن بوسائل أكثر دقّة وحداثة.

في قلب هذا التحوّل ظهرت مؤسّسات مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وهيئات التحكيم الاستثماري، لتصبح فاعلاً رئيسياً في تحديد السياسات الاقتصادية للدول. على المستوى النظري تبدو هذه المؤسسات أدوات لتنظيم الاقتصاد العالمي، ولكنها عملياً باتت تتحكّم في قدرة الدول على وضع سياسات صناعية أو زراعية أو اجتماعية تتناسب مع أوضاعها الخاصة. فالقواعد الصارمة للملكية الفكرية قيّدت إمكانات البلدان النامية في تطوير دواء أو تقنية، في حين سمحت آليات التحكيم الاستثماري للشركات المتعددة الجنسيات أن تقاضي دولاً فقيرة وتنتزع منها تعويضات بمليارات الدولارات، فقط لأنها حاولت تعديل سياسات بيئية أو اجتماعية لحماية مواطنيها.

هذه البنية القانونية الجديدة لم تُصنع في فراغ؛ إنها استمرار لأشكال نفوذ ترسّخت عبر حقب الاستعمار. فالمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها القانون الدولي – مثل السيادة، والحدود، وحرية التجارة، وحقوق الإنسان- لم تُولد بمحض الصدفة أو نتاج تطوّر طبيعي نحو العدالة، بل تشكّلت داخل لحظة تاريخية كان فيها العالم غير الأوروبي موضوعاً للغزو والتملّك والتصنيف. هكذا اكتسبت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر حق تنظيم علاقتها بالأراضي غير الأوروبية عبر مبادئ «الاستكشاف» و«الأراضي الخالية» و«الحضارة»، قبل أن تتحوّل تلك المبادئ، عبر الزمن، إلى قواعد قانونية مُعولمة.

في هذا الإطار تظهر المفارقة الأساسية: أن القانون الدولي يرفع شعار المساواة بين الدول، لكنّه صُمّم عبر تاريخ طويل لم تعرف فيه الدول سوى تفاوت القوة، وأن القواعد التي نشأت لحماية الامتيازات الاستعمارية القديمة ما زالت تعمل اليوم في بنية الاقتصاد العالمي، وإن تغيّرت اللغة من الهيمنة المباشرة إلى مفاهيم «التنمية» و«الحوكمة الرشيدة» و«جذب الاستثمار». فالدول التي كانت يوماً مسرحاً للاستعمار، تجد نفسها اليوم محكومة بقواعد مالية واستثمارية تُملَى عليها من الخارج، كما لو أنّ استقلالها السياسي لا يكفي لإنتاج استقلال اقتصادي أو تشريعي.

مع توسّع النيوليبرالية وإضعاف الدولة الاجتماعية حتى داخل دول الشمال، بدأت تظهر تشقّقات في سردية النظام العالمي

وعلى الضفة الأخرى، شهد العالم في العقود الماضية صعوداً لافتاً لخطاب حقوق الإنسان ومحاكم الجرائم الدولية وآليات العدالة الانتقالية. ورغم أنّ هذه الأدوات أسهمت في مواجهة انتهاكات خطيرة، إلا أنها تقف أمام سؤال مُحرِج: لماذا تُستخدم هذه الآليات بقوة في مناطق معيّنة بينما تُحجب تماماً في مناطق أُخرى؟ لماذا يُحاسب قادة دول صغيرة، بينما يبقى أصحاب النفوذ العالمي بمنأى عن المحاسبة؟ ولماذا تُصبح حقوق الإنسان أداة ضغط سياسي واقتصادي، بدل أن تكون غاية أخلاقية محضة؟

تجيب هذه الأسئلة عن أمر حاسم: حقوق الإنسان، بأهميتها وضرورتها، ليست مستقلّة عن سياق القوة. فهي تُستخدم أحياناً لتبرير التدخّل، أو إعادة تشكيل الدول، أو ضبط سياسات بعينها، بينما تُهمل جذور المظالم الاقتصادية التي تمسّ حياة ملايين الأشخاص. هكذا تتوسّع العدالة في المجال الجنائي، لكنها تضيق في المجال الاقتصادي حيث تُنتج الفوارق الحقيقية.

ولعلّ من أكثر مظاهر التناقض وضوحاً قضية التعويضات. فبينما تسعى مجتمعات كثيرة – من الكاريبي إلى ناميبيا- لاستعادة جزء من حقوقها التاريخية عن العبودية أو الإبادة أو النهب الاستعماري، يواجه هذا المسار جداراً قانونياً يكاد يكون مستحيل الاختراق: حصانة الدول، التقادم، غياب آليات التنفيذ، والنزعة الأوروبية لتبرئة الماضي. وفي المقابل، لا تجد الشركات الكبرى أي صعوبة في الحصول على تعويضات هائلة من دول الجنوب عن تغييرات تشريعية أو بيئية تعتبرها «مخالفة لمصالح المستثمر». النتيجة واضحة: الأموال التي كان ينبغي أن تُعاد إلى الشعوب المتضرّرة تتحوّل بالعكس إلى تدفّقات مالية من الجنوب إلى الشمال في حركة تعويضات مقلوبة.

أمام هذا الواقع، لا يعود ممكناً القول، إن مفهوم «العالم الثالث» قد فقد معناه. فالعالم الثالث ليس تعبيراً جغرافياً ولا تحقيباً أيديولوجياً؛ إنه وصف بنيوي لعالم يُنتج اللامساواة بشكل مستمر عبر آليات مالية وقانونية وسياسية. إنه يشير إلى موقع داخل النظام الدولي، لا إلى مكان على الخارطة، ويعبّر عن شبكة من الشروط التاريخية التي تجعل دولاً وشعوباً عُرضة لدوائر متواصلة من الاستغلال، مهما تغيّرت مصطلحات «التنمية» و«الاندماج في الاقتصاد العالمي».

لكنّ هذا التحليل لا يرسم صورة قاتمة فقط؛ إنه يشير أيضاً إلى فرصة تاريخية. فمع توسّع النيوليبرالية وإضعاف الدولة الاجتماعية حتى داخل دول الشمال، بدأت تظهر تشقّقات في سردية النظام العالمي. أصبحت أدوات السيطرة القانونية التي مورست على الجنوب طوال عقود تُستخدم اليوم في مواجهة الطبقات العاملة والمُهمّشة في الشمال. وهكذا تتّضح وحدة المصير: النضال من أجل عدالة عالمية لا يخصّ الجنوب وحده، بل يشمل كل من يتعرّض لتقييد حقوقه الاقتصادية والاجتماعية بفعل شبكات قانونية ومؤسّسية معولمة.

في هذا السياق، تبدو الحاجة ملحّة إلى مشروع نقدي يعيد التفكير في القانون الدولي لا بهدف هدمه، بل بهدف تحريره من أصوله الإمبراطورية وفتح الباب أمام إعادة تأسيسه على قاعدة المساواة والكرامة الإنسانية.
فالقانون يمكن أن يكون أداة للهيمنة، لكنه قادر أيضاً أن يكون أداة للتحرّر متى وُضع في خدمة الشعوب لا في خدمة رأس المال، ومتى صيغ استناداً إلى قراءة صادقة للتاريخ بدل تغطيته بطلاء أخلاقي.

إن إعادة التفكير في وظائف القانون الدولي ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة سياسية في عالم تتسارع فيه الفوارق، ويزداد فيه تركيز الثروة والسلطة، وتتقلّص فيه قدرة الدول الضعيفة على حماية مصالح شعوبها. وبقدر ما يساعد هذا الوعي على كشف البنى الخفية للنظام العالمي، فإنه يفتح باباً لخيال سياسي جديد: عالم يعترف بتاريخ المظالم، ويتعامل بجدّية مع مسؤولياته، ويبتكر شكلاً من القانون لا يقيس العدالة بمعيار السوق، بل بمعيار الإنسان.

قد يعجبك ايضا