الحرب بشروط المحتل: كيف تصبح الهدنة أداة سيطرة؟

عشتار حيفاوي – وما يسطرون|

في غزة، لا يُقاس الوقتُ بالدقائق والساعات، بل بمدة صمتِ المدافع. وما يُسمّيه العالم «هدنة» ليست سوى فاصلٍ قصير في حربٍ لم تضع أوزارها بعد. على الأرض، تُبدِّل الحربُ إيقاعَها ولا تتوقّف؛ تتوارى خطوةً وتتقدّم خطوتين، ثم تعود لتحكم قبضتَها على جغرافيا القطاع ومفاتيح معابره. في ظلّ هذا الإيقاع، يصير السؤال عن «اليوم التالي» سؤالاً لغوياً: هل تغيّر شيءٌ في شكل الحياة، أم أنّنا نُعيد تعريف الحرب ونسمّيها سلاماً؟

ليست الهدنة صورةً بلاغيّة، بل واقعٌ يُختبَر في الشارع والمستشفى والمخبز. يغيب عن غزة فتح المعابر بمواعيد مُعلَنة، وعبور السلع بلا مزاجيّة. لا وقود يكفي لتشغيل المستشفيات، ولا ممرّات آمنة تصل بها الشاحنات إلى الشمال قبل أن يسبقها الجوع؛ وبذلك أصبحت كلمة «هدنة» فارغةً من المعنى. لهذا يُقاس الواقع بالضوء في غرف العمليات، وحليب الأطفال في المستودعات، وعدد الشاحنات التي تعبر.
أمّا في تل أبيب، فلا يبحث الكيان الصهيوني اليوم عن «سلام» ولا عن «نهايةٍ مشرّفة»، بل عن إدارةٍ طويلة للسيطرة على القطاع، وقتال منخفض الإيقاع يضمن له مكاسب الميدان بلا فاتورة الانسحاب الكامل.

وتحت عنوان «تحرير غزّة من حماس» يُسوِّق هدفَه الحقيقي: إنهاء كل أشكال المقاومة وإلغاء مشروعيتها تمهيداً لتثبيت احتلاله لغزة بوجهٍ جديد. لذا، فإن رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، في تصريحاته، لا ينطق عن الهواء، بل يصيغ مصطلحاته بدقة؛ يُعيد تسميةَ الاحتلال «تحريراً»، ويعرض اقتلاع المقاومة على أنّه «استعادة أمن». خلف هذه اللغة استراتيجية بعيدة المدى: كيف يبقى في غزّة من غير أن يعلن بقاءه، وكيف يسيطر على الأرض وهو يتحدّث عن «انسحابٍ تدريجي»؟

نتنياهو الذي تطارده المحاكم وملفّات الفساد يتوق بشدة إلى إنجاز يقدمه للشارع، خاصة بعد أن فقد المشروع الاستيطاني أمنه واختلت أركانه، وتصاعدت الصراعاتُ الداخليّة في الكيان منعكسةً على الحكومة الإسرائيلية القائمة على ائتلافٍ يمينيٍّ متطرّفٍ يبتزّها كلَّ يوم. الاعتراف بنهاية الحرب يعني الاعتراف بفشل الأهداف البعيدة؛ ولذلك يفضّل نتنياهو إدارة الأزمة بدل إنهائها: يُخفّض حدّة العدوان حين يشتدّ الضغط الخارجي، ويرفع من وتيرته حين يحتاج إلى شدّ عصب الداخل. وبين الإيقاعين، أصبح هناك احتلال فعلي على أرض الواقع: مساحات ممنوعة على أهلها، وخطوط انتشار عسكريّة، ومعابر لا تُفتح إلّا بقراره. بهذه الهندسة يضمن أن تظلّ غزّة تحت سيطرته، وأن تكون أيّ قوّة -إن جاءت- ملحقة بخطط جيش الاحتلال لا بقرارٍ فلسطيني. وفي المحصّلة، تُترجَم هذه الحساباتُ السياسيّة إلى حصار لا ينتهي، ونقصٍ في الغذاء والدواء، وانعدامِ الأمن لمن يعيشون على أرض غزة.

على الصعيد الاجتماعي داخل الكيان، هناك تناقضٌ بين مؤسّسةٍ أمنيّةٍ تدّعي معرفةَ حدود القوّة وتخشى انهيار المشروع برمته إذا بالغت في العنف، وبين قيادة سياسيّةٍ تحتاج كلَّ يومٍ إلى صورة «حسم» تخدر بها جمهوراً غاضباً، ما ينعكس بصورة تصدع اجتماعي. فالغالبيّة الديموغرافيّة في الكيان، المنضوية تحت جناح اليمينٍ الديني ــ القوميّ، تدفع نحو مزيدٍ من الضمّ والهيمنة، تقابلها أصواتٌ من داخل المؤسسة الأمنية السابقة وبعض الأوساط الأكاديمية تُحذّر من الكلفة الاقتصاديّة والسياسيّة للاحتلال المفتوح واحتمالات انفجار الجبهات. يناور نتنياهو بين الطرفين؛ فهو يدين لأقصى اليمين بغالبيّة حكومته، ويحابي المؤسّسة الأمنيّة بحساباتها عندما يضيق عليه الخناق.

والنتيجة هي سياسةٌ طويلة الأمد، بحيث تُدار الحرب كروتينٍ لا كاستثناء، وتُستخدم «الهدنة» لتغيير مواقع السيطرة لا لإنهائها.
أمّا الراعي الأكبر للمشهد، الولايات المتحدة الأميركية، فيتحدث خطابها الرسمي عن «خفض التصعيد» و«حماية المدنيّين»، لكنه يخفي وجهين متكاملين: الأول، هو وجه «الدولة العميقة» التي تدير التحالفات بروية للحفاظ على استقرار مصالحها، وتسعى إلى إدارة المخاطر عبر إدارةٍ انتقاليّةٍ «محايدة» لغزة وتفويضٍ أممي، بشرطٍ رئيسيّ؛ ألّا تُمسَّ مفاتيحُ السيطرة الإسرائيليّة. والوجه الثاني، هو وجه دونالد ترامب الذي يريد قصّةً قابلةً للتسويق في الداخل، تظهره بصورة رجل سلام وتُخفّف غضب مؤيّديه من كلفة الدعم المطلق لإسرائيل. يلتقي الوجهان على قاسم مشترك: لا استعداد لدفع ثمن إنهاء الاحتلال، بل رغبة في خفض التوتر الإقليمي من دون الاقتراب من جذر المشكلة.

عبر هذه الهندسة، تحاول واشنطن وتل أبيب إعادة رسم خرائط السيطرة، لا على غزّة وحدها، بل على كامل الإقليم. ورغم أن الولايات المتحدة تتصرّف بصفتها وسيطاً في خطابها الرسمي، لكنها في الواقع مهندس التوازن الجديد؛ تُوزِّع الأدوار بين حلفائها، وتُمسك بخيوط التمويل والإعمار، وتختبر نموذج «الوصاية الأمنيّة» القابل للتكرار في ساحاتٍ أخرى. أمّا بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، فإن الهدنة الكاذبة هي فرصة لتثبيت واقعٍ جديدٍ على الأرض في غزة، وخطوة نحو تقديم نفسه كالقوّة المركزيّة الوحيدة في الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، تأتي الورقة الأميركية التي رُفعت إلى مجلس الأمن كترجمة لهذه الهندسة، فهي لم تُطرح كحل سياسي، بل كقالب لإعادة تنظيم السيطرة: واشنطن تمسك الإخراج السياسي، الذي يبقي لإسرائيل التحكّم الميداني، بينما تهتم القوة الدولية بتثبيت «الهدوء».

وبذلك، يأتي القرار 2803 ليكشف الطبقة الأوضح في هذه الاستراتيجية: محاولة تدويل السيطرة من دون كسر منطق الاحتلال.
تُقرأ هذه «الهدنة» بوصفها تعبيراً عن نقلةٍ عالميّة: من نظامٍ كانت فيه القوانينُ تُقيّد الحروب، إلى نظامٍ تُدار فيه الحروبُ كواقع يومي. وهكذا، تتحول غزّة إلى اختبار لنظام عالمي يتشظّى. من نظام يدّعي احترامَ القانون الدولي، إلى آخر يستخدم القرارات الدوليّة كأدواتِ ضغطٍ لا حماية.

يتجاوز سؤال «الهدنة وما بعدها» حدود فلسطين ليصبح سؤالاً للنظامين الإقليمي والدولي برمّتهما: هل ستُكرَّس صيغة الاحتلال المُدار، أم ستولد من تحت الركام إرادةٌ تُعيد تعريف الممكن؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تكمن في أروقة السياسة فقط، بل في قدرتنا على رفض أن نكون مجرد أدوات في هذا المختبر، والانتقال من التشخيص إلى الفعل عبر بناء سردية مضادة. وهذا يتطلب عملاً منظماً في ثلاثة مسارات متكاملة:

أولاً، التوثيق المنهجي لفضح زيف مصطلح «الهدنة» بالأدلة الدامغة بدلاً من الشجب العفوي.

ثانياً، استغلال التغيرات الاجتماعية الداعمة لفلسطين لبناء تحالفات عابرة للقضايا تربط قضية فلسطين بحركات العدالة العالمية لتحويل التضامن إلى مصلحة مشتركة.

وثالثاً، المساءلة القانونية المركزة التي تستخدم «الهدنة» نفسها كأداة لمحاسبة الاحتلال على خروقاته.
يقف اليوم الإقليمُ بأكمله أمام إعادةِ توزيعٍ للنفوذ، أمّا فلسطين (كلُّ فلسطين)، فتبقى الميزانَ الأخلاقيّ والسياسيّ الذي لا يمكن تجاوزه مهما حاولت الخرائطُ أن تُعيد رسمَ نفسها فوقه.

قد يعجبك ايضا