مكسب «الطوفان» في الداخل الأميركي
موسى السادة – وما يسطرون|
لا يمكن لعاقل أن يفترض حينما نهزّ التاريخ في زاوية من الأرض، أنه وبشكل ما سيظل ثابتاً في الزاوية الأخرى. وكيف لذلك أن يكون تحديداً ونحن نتحدّث عن الصهيونية، أبرز تعبير عن الامتداد الإمبراطوري الأميركي على خارطة العالم.
إنّ أحد أهم مكتسبات «طوفان الأقصى» هو تلك الضربة التي تلقتها الأيديولوجيا الصهيونية في سرديتها وشرعيتها، خصوصاً في الداخل الأميركي. ضربة جعلت العدو يواجه معضلة حقيقية في تأمين الانتقال الجيلي لأيديولوجيته، والأيديولوجيا التي تفشل في ذلك تموت.
بشكل بديهي، حينما نتبنى عبارة أن «الطوفان» سدد ضربة للكيان الإسرائيلي فحينها لهذه الضربة مصاديق وإرهاصات سنراها أميركياً، بل إننا نراها اليوم بشكل كبير وعميق. بينما البديهية الأخرى، أن هذه الإرهاصات هي ما نهدف للوصول إليه أصلاً ـــــ فما هو شكل تحقيق حركة تحرر لانتصار وتقدّم إن لم يكن على شكل إنتاج أزمة في البنية الضخمة للإمبريالية؟
يكمن الاختراق الذي نجح فيه «الطوفان» في أمرين:
الأول، وهو شرط تاريخي أساس لكل نموذج تحرّري: المبادرة والمفاجأة، فمن خلالها يدخل الاستعمار في حالة ارتباك وضمور في العقلانية. إنّ للصهيونية والأميركيين موارد ضخمة، من المال والوقت، وما تقوم به المبادرة ليس تعطيل تلك الموارد وإزالتها، بل تعطيل قدرة العدو على التخطيط بهدوء وتسخير تلك الموارد والقدرات على نار هادئة، فيتملّك القدرة على حساب الخطوات وتخيّل السيناريوهات.
في عدوانه على لبنان وإيران، كان بالطبع لدى العدو خطة معدة ومجهزة ومطبوخة، رسم ثلاثي الأبعاد لكل حجر ونافذة، وتتابع في الخطوات والسيناريوهات، فموارده ضخمة. وما حدث أنه كانت لديه راحة وحرية قرار التفعيل والتسخير زماناً ومكاناً، في حين أنه وفي عبور السويس وحرب تموز و«سيف القدس» و«الطوفان» كان فاقداً لذلك.
إنّ هذه هي آلية عمل المؤسسات الاستعمارية وشكل استغلالها لمواردها العالية في ما تخاله الهيمنة المطلقة على أبعاد الزمان والمكان. ولذلك هي أيضاً آلية الصهيونية؛ التخطيط الاستراتيجي والعمل على المديات الطويلة، في صناعة التحولات.
كان برنامج عمل الصهيونية حافلاً لمستقبلها قبل «الطوفان»، خطوات محسوبة ومعدة ومدروسة حول التطبيع مع الأنظمة العربية والتصفية التامة للقضية الفلسطينية وضم الضفة وإنهاء المقاومة في لبنان وغزة. وبرنامج عمل للمستقبل حول إدارة سرديتها وسمعتها وشبكات القوة والعلاقات العامة، حيث يعمل الصهاينة ببرود تام.
سواء من خلال دس مشهد عابر في فيلم هوليوودي، أو تمرير لجمل وأسطر حول الكيان الإسرائيلي في مسلسل «نتفليكس» يدخل بيوتنا جميعاً ويسمعه صغارنا، أو لوجود العلم المقيت في لعبة أو برنامج إلكتروني، أو إزالة اسم الأراضي الفلسطينية إلى الضفة الغربية وغزة في الخرائط وخيارات اختيار الدول إلكترونياً وغيرها، كل ذلك ضمن عملية إبادة ممنهجة، كمنشار يقطع أوصالنا ببطء وخبث. والسؤال هنا: ولم لا يعملون ببرود؟ فما الذي وراءهم، وهم في أمانهم؟ فنحن من يلاحقنا الموت والحصار والتشريد والحروب الأهلية وقمع الأنظمة العربية.
أمّا بالنسبة إلينا كمعادين، بل أصحاب ثأر يطول مع الصهاينة ومع ذيولهم، فإن هذه المعطيات أساسية في كيفية التعاطي المستقبلي
من هنا، أتى «الطوفان» في مباغتة أنهت هذه القدرة الصهيونية، وأدخلهم في سؤال الأمان، وفقدان المبادرة والفعل إلى رد الفعل، وضرب العنجهية والنفسية بشكل أفلت عقال المقدرة الباردة على الحسابات والخيارات، وأمسوا بجنون وانسعار ولّدا أزمة.
أزمة كلّفت الصهيونية في سرديتها وشرعيتها، منها ما هو بلا رجعة أو قدرة على الترميم، وهذه الكلف والخسائر هي من أهم مكتسباتنا، بل ومن دونها يكون علينا واجب توفير إجابة لأنفسنا ولكل من ضحى خلال العامين الماضيين هل كل ذلك ذهب هدراً (معاذ الله)؟
لاحظ المؤرخ الأميركي ديفيد باليه، المختصّ بالتاريخ اليهودي، أن كلاً من التنظير الكلاسيكي للصهيونية أو منظري الاندماج اليهودي في الولايات المتحدة، قد فشلا في التنبؤ بشكل العلاقة التي تربطهما اليوم، كقلبين أو مركزَي قوة متبادلة بين المستعمرة الصهيونية والوجود اليهودي الصهيوني في أميركا، والذي عبّر عن نفسه بوجود قوي وذي نفوذ، تشييد شبكات اللوبي الإسرائيلي في نمو مطّرد مع لحظة تاريخية نتجت من خسارتنا حرب عام 1967.
اكتسب اللوبي عبر العقود قوة تأثير كبيرة في الداخل الأميركي، إلى درجة بروز تصوّر على سيطرته على القرار الأمريكي بشكل تام. المسألة بالنسبة إلينا أن اللوبي في تمركزه في واشنطن، قد أدار صيانة وهيمنة الصهيونية على العرب، من أي بلد ستسقط عليه القنابل الأميركية أو تفرض عليه العقوبات إلى برامج مراقبة ما يقرأه أطفالنا في مناهج الصفوف المدرسية. المسألة الأخرى، التي لاحظها باليه هي التحول الذي أنتجه اللوبي من بعد 67 على هوية اليهود الأميركيين وصهينتها وجعل العلاقة بالكيان الإسرائيلي جزءاً أصيلاً من يهودية الأميركي، وتحديداً في نيويورك.
وهذا ما يعيدنا إلى انفلات عقال الصهيونية بعد لحظة «الطوفان» والتي لها تداعيات كبرى، فقد أنتج «الطوفان» لحظة نكسة للوبي محت تراكم النمو الناتج من لحظة حرب 67.
يخطئ البعض في افتراض أن فوز زهران ممداني في نيويورك، عاصمة اللوبي، وبثلث أصوات اليهود، في تحوّل تاريخي في مساق التاريخ اليهودي الصهيوني، يضاف إليه خسارة الصهيونية للجيل اليهودي الليبرالي الشاب، هو أسوأ المصائب التي تواجهها الصهيونية في الداخل الأميركي. فالمصيبة الكبرى للصهيونية ليست في اليسار، بل في خسارة الجيل الجديد من المحافظين اليمينيين. الأزمة العميقة في الشرعية التي يواجهها الكيان الإسرائيلي هي في قواعد اليمين و«أميركا أولاً». لقد دفع «الطوفان» بسياسات الكيان واللوبي بأن تكون فجة وفوضوية ترمي باتهامات معاداة السامية في كل اتجاه، ضد الخصوم وغيرهم على حد سواء، وتحاول تأبيد الحروب في المنطقة العربية.
وهو ما أظهر الدولة الصهيونية على تضاد معنوي وقيمي مع تيارات أساسية من المحافظين، من تاكر كارلسون وكانديس أوين وستيف بانون وتيار «أميركا أولاً»، والأهم مع الجيل المسيحي المحافظ الصاعد الذي بدأ يشعر بهيمنة يهودية على مسيحية الولايات المتحدة، ولذلك ترى انسعار الصهاينة من ظاهرة الشاب نيك فوينتيس.
إن هذه التناقضات الأميركية النافرة من الصهيونية ليست تفصيلاً في المعركة ضد الصهيونية، ووحده مَن يخوض معارك أخرى لن يرى أهميتها. أمّا بالنسبة إلينا كمعادين، بل أصحاب ثأر يطول مع الصهاينة ومع ذيولهم، فإن هذه المعطيات أساسية في كيفية التعاطي المستقبلي. بل لنا في حركات مقاومة، بتضحيات وشهداء عظام، الشرف في نسب إشعالها لأنفسنا.
إنما الأهم اليوم هو أمانة العمل للحفاظ على هذا المكتسب وإبقاء الصهيونية تحت طائلة الهجوم والمساءلة ودفعها أكثر للتصادم في الداخل الأميركي بين اليسار واليمين، وبين اليمين واليمين، واليسار باليسار، بما ينحت ويهدم في قوتها الأيديولوجية أكثر فأكثر. فالهدف هو أن لا تستعيد الصهيونية المبادرة وتظل في موقع رد الفعل والدفاع، سواء في الميدان على الأرض العربية أو في قلب الإمبراطورية، ولكل فرد منا جهد ومسؤولية في ذلك.