مسار تصاعد العمليات اليمنية ضد الاحتلال الإسرائيلي على مدى عامين.. كيف حافظت صنعاء على استمراريتها؟
خاص – المساء برس| تقرير: يحيى محمد الشرفي|
منذ اللحظة الأولى لنشأة حركة أنصار الله في اليمن قبل أكثر من 25 عاماً، كانت القضية الفلسطينية جزءاً رئيسياً من أدبياتها وبرامجها ومخططاتها المستقبلية لما ستقوم به لإسناد ودعم القضية الفلسطينية وإعادتها للصدارة والواجهة وكسر جمود الموقف العربي الشعبي وتعرية الأنظمة المتخاذلة مع الشعب الفلسطيني والمتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد وصول حركة أنصار الله للسلطة بعد ثورة 21 سبتمبر عام 2014، برزت القضية الفلسطينية إلى صدارة البرامج الحكومية في صنعاء ليصبح اليمن أول بلد عربي يتحد في موقفه شعباً ونظاماً على دعم القضية الفلسطينية واعتبارها جزءاً أساسياً من الأمن القومي لليمن.
من هنا كان لزاماً على صنعاء التي خاضت حرباً دفاعية ضد العدوان الذي شنته السعودية والإمارات والولايات المتحدة لمدة 8 سنوات، وحصاراً اقتصادياً خانقاً مارسته دول التحالف بقيادة أمريكا ضد صنعاء على مدى 10 سنوات، وفي لحظة انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، كان لزاماً على صنعاء شعباً ودولة، التي كانت حينها تعيش في فترة هدنة عسكرية توقفت فيها المعارك بين التحالف السعودي واليمن وانقضى عليها أقل من عام ونصف، كان لزاماً عليها ترجمة مبادئها الأساسية تجاه القضية الفلسطينية إلى واقع عملي وتسخير كل الإمكانات المتاحة لإسناد الموقف الفلسطيني الشعبي والعسكري.
توظيف الموقع الجغرافي اليمني لصالح فلسطين
ولعل المفاجأة في الموقف اليمني التاريخي في الوقوف مع الشعب الفلسطيني عسكرياً أن استخدمت صنعاء مجالها الحيوي وتمكنت من توظيف موقعها الجغرافي بشكل صحيح لخدمة الموقف الفلسطيني وإسناد المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فاتخذت القيادة اليمنية قراراً تاريخياً لم يخطر على بال الصديق قبل العدو، وهو فرض الحصار البحري على الملاحة الإسرائيلية من البحر الأحمر، مستغلة في ذلك قواتها المسلحة التي كانت قد أعادت تشكيلها من الصفر وتم بناء جيشها بشرياً وتسليحياً على أسس علمية جديدة وحديثة وبخبرات يمنية خالصة اكتسبتها من المعارك والتجربة العسكرية التي خاضتها القيادات العسكرية اليمنية خلال الحرب الدفاعية ضد العدوان السعودي الإماراتي، والتي شملت أيضاً ليس فقط الحصول على الأسلحة الاستراتيجية بل واتخاذ قرار توطين صناعتها محلياً وهو ما أثمر بشكل كبير في الأداء العسكري اليمني الإسنادي للمقاومة الفلسطينية بوجه الاحتلال الإسرائيلي وسمح لليمن ليس فقط قطع الملاحة البحرية عن الاحتلال من جهة البحر الأحمر بل والمشاركة أيضاً في استهداف الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل مباشر بما امكن من الأسلحة الحديثة التي غيّرت من شكل الحروب وأتت بمدرسة جديدة في الحروب العسكرية خاصة الحروب البحرية.
هذه الجبهة البحرية لليمن أدت إلى تكبيد الاحتلال الإسرائيلي خسائر بملايين الدولارات شهرياً في بداية الأمر لأن الملاحة نحو ميناء أم الرشراش (ميناء إيلات) توقفت بشكل شبه تام ومع فشل كسر الجبهة اليمنية بعد استعانة الاحتلال بكل من الولايات المتحدة وبريطانيا ومواصلة اليمن قطع الطريق على السفن المتجهة نحو كيان الاحتلال الإسرائيلي، أصبح ميناء إيلات مهجوراً وتتراكم عليه الديون لصالح الشركات المرتبطة به ولصالح عمال وموظفي الميناء إضافة إلى انقطاع ما كان الميناء يقدمه من إيراد مالي شهري للاحتلال الإسرائيلي وهو ما أضعف قليلاً من ميزانية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ثم تطور الأمر ليتخذ اليمن قراراً بتصعيد عملياته ضد الملاحة الإسرائيلية بتعميم قرار حظر الملاحة في البحر الأحمر ليس على السفن المملوكة للاحتلال الإسرائيلي فقط بل وأي سفينة متجهة نحو الموانئ الإسرائيلية أياً كانت جنسيتها.
وكانت القوات اليمنية تضاعف عملياتها العسكرية وتوسّع من نطاقها الجغرافي كل ما كان العدو الإسرائيلي يمعن في ارتكاب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فقسمت أهداف جبهتها البحرية إلى 5 مراحل بدأت بالسفن الإسرائيلية ثم السفن المتجهة لإسرائيل ثم السفن ثم السفن الأمريكية والبريطانية، إضافة للسفن الحربية لأمريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي التي كانت تساند الاحتلال عسكرياً ضد صنعاء، ثم السفن المتجهة نحو موانئ الاحتلال الشمالية على البحر الأبيض المتوسط ثم توسيع قائمة الأهداف لتشمل كل السفن الأخرى التي تتبع لنفس الشركات الملاحية التي لا تزال تتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي.
أنظمة الأسلحة المستخدمة
كانت الصواريخ المجنحة اليمنية الصنع من سلسلة (قدس)، أول سلاح تستخدمه صنعاء ضد الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، وكان الهجوم الأول لليمن على الأراضي المحتلة بعد ساعات على قيام الاحتلال الإسرائيلي باستهداف بوابة المستشفى المعمداني في قطاع غزة في جريمة حرب أدت لاستشهاد أكثر من 500 فلسطيني جميعهم من النازحين الذين كانوا يؤوون إلى باحة المستشفى هرباً من قصف جيش الاحتلال، حينها استهدفت اليمن الاحتلال الإسرائيلي بـ5 صواريخ كروز، وبعد عدة أسابيع خرجت التسريبات من البنتاغون في الولايات المتحدة بأن سفينة حربية أمريكية حاولت التصدي لهذه الصواريخ في شمال البحر الأحمر كما كشفت أن السعودية أيضاً أسقطت أحد هذه الصواريخ الخمسة.
لم تكتفِ صنعاء بقصف الاحتلال بالصواريخ المجنحة فعملت على تطوير ما بحوزتها من صواريخ باليستية متطورة بالقدر الذي يسمح لهذه الصواريخ بالوصول إلى الأراضي المحتلة وضرب أهداف داخل الكيان ولم تمضِ سوى أيام حتى كشفت القوات المسلحة اليمنية عن صاروخ (فلسطين) الباليستي، ثم بعد أسابيع قليلة تم الكشف لأول مرة عن صاروخ (فلسطين2) الباليستي والذي استهدفت به صنعاء كلاً من مطار اللد المسمى (بن غوريون) ثم محطة قطارات يافا المحتلة (تل أبيب) ثم توالت العمليات اليمنية باستخدام هذه الصواريخ الفعّالة، إلى أن دخلت إلى ساحة المعركة طائرة (يافا) التي ضربت هدفاً إسرائيلياً قرب السفارة الأمريكية في يافا المحتلة (تل أبيب) وأدت إلى مقتل إسرائيلي، ثم استمرت العمليات اليمنية باستخدام طائرات يافا مستهدفة المواقع العسكرية وأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المنتشرة في المناطق الجنوبية لفلسطين المحتلة إضافة إلى استهداف المنشآت العسكرية والقواعد في هذه المناطق.
وبعد جهد كبير طوّرت صنعاء من فعالية صواريخها الباليستية لكي تتجاوز معوقات الدفاعات الجوية للاحتلال الإسرائيلي وتتمكن من الوصول إلى أهدافها قبل أن يعمل العدو على اعتراضها في السماء، فكانت فكرة تغيير وقود الصواريخ بما يجعلها أسرع بعدة أضعاف عن سرعتها السابقة لتقليل زمن وصولها للهدف منذ لحظة انطلاقها فكان أول صاروخ يمني فرط صوتي من نوع (فلسطين 2) والذي قطع مسافة انطلاقها وتحليقه وسقوطه على هدفه في محطة قطارات تل أبيب خلال 11 دقيقة ونصف فقط وكان الهدف من ذلك عدم إتاحة فرصة من الوقت للعدو الإسرائيلي لتفعيل منظوماته الدفاعية واعتراض الصاروخ، لكن مع ذلك وبسبب المواقف العربية المتصهينة وجد العدو طريقة لتجاوز هذا التحدي من خلال نشر منصات رصد وإنذار في عدد من دول المنطقة المحيطة باليمن لإنذار الاحتلال الإسرائيلي لحظة انطلاق أي صاروخ من اليمن نحو الأراضي المحتلة.
ثم عملت صنعاء على تطوير منظومات طائراتها المسيّرة من خلال إعادة تصميمها بطريقة تجعل على أجهزة الاستشعار والرصد الراداري غير قادرة على التقاطها أثناء تحليقها في الأجواء وهو ما سمح لهذه الطائرات بالوصول إلى عشرات الأهداف داخل جنوب فلسطين المحتلة وضربها وعدم اكتشاف العدو لها إلا متأخراً بعد أن يكون الأوان قد فات كما حدث في الهجمات الأخيرة التي استهدفت مطار رامون في إيلات وعدة فنادق في المنطقة آخرها أدى بحسب اعترافات العدو الإسرائيلي إلى إصابة 50 إسرائيلياً.
أما على مستوى الجبهة البحرية فكانت هي الأخرى محطة لتقديم مدرسة جديدة في الحروب البحرية غيّرت من قواعد الاشتباك والحروب البحرية في العالم، حيث قامت القوات اليمنية بتفعيل صواريخها الباليستية وتحويلها إلى صواريخ بر بحرية باليستية، وبهذا تكون اليمن أول دولة قادرة على استخدام صواريخ باليستية برية لإصابة أهداف بحرية متحركة وليست ثابتة وهو ما جعل من المعركة البحرية بالنسبة للعدو الأمريكي معقدة مع اليمن، بالإضافة طبعاً إلى استخدام القوات اليمنية أنظمة أسلحة جديدة في التعامل مع الحروب البحرية ومن ذلك استخدام الطائرات المسيّرة التي كبّدت البحرية الأمريكية والبريطانية والأوروبية مليارات الدولارات مقابل اعتراض وإسقاط هذه الطائرات قبل وصولها إلى أهدافها المتجهة نحو السفن الحربية المشاركة في الدفاع عن الاحتلال في جبهة البحر الأحمر.
سر صمود الاستمرارية اليمنية عسكرياً ضد الكيان
يعتقد مراقبون بأن سرّ استمرار صنعاء في معركتها الإسنادية لغزة هو البعد الجغرافي بين الكيان الصهيوني واليمن، ولكن هذه النقطة كما هي سلبية بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي فهي أيضاً سلبية بالنسبة لصنعاء لأن طبيعة العمليات اليمنية هجومية وليست دفاعية، وبالتالي فإن البعد الجغرافي ليس العامل الذي مكّن صنعاء من مواصلة عملياتها العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي واستمرارية فرضها الحصار البحري على الاحتلال إلى المرحلة التي قرر فيها الكيان إغلاق ميناء إيلات نهائياً بسبب تكبد الاحتلال تكاليف مالية بدون أي فائدة بسبب توقف استقبال الميناء أي سفن تجارية.
الإجابة على سؤال سر استمرارية الجبهة اليمنية المساندة لغزة، يعترف به قادة وخبراء ومحللون عسكريون أمريكيون، سواءً من المتقاعدين المراقبين لمعركة البحر الأحمر وعمليات اليمن ضد الأراضي المحتلة المباشرة أو من المشاركين سابقاً في الحملات العسكرية الأمريكية البحرية ضد اليمن على مدى عام ونصف والتي بدأت من يناير 2024 حتى مايو 2025، حيث يؤكد هؤلاء المختصون بأن تفوّق المقاتل اليمني في المعركة سببه الرئيسي هو التكتيك العسكري الجديد الذي يأتي به في كل عملية هجومية، فكلما فهم الخصم الآلية وطريقة الهجمات اليمنية وعمل على التغلب عليها والتصدي لها يعمل المقاتل اليمني على تغيير تكتيكه وطريقته ليتفاجأ الخصم بوجود إما تكتيك هجومي جديد أو سلاح جديد يدخل المعركة فصانع القرار اليمني داخل الجيش لا يتوقف عندما يتمكن خصمه من إبطال مفعول هجماته بل يحاول إيجاد حلول بديلة تجعل من استمرارية الهجمات فعّالة ومؤثرة وقاتلة.