يهود شانغهاي والمشروع الصهيوني

فؤاد إبراهيم – وما يسطرون|

ثمّة حادثة مفصلية في تجربة اليهود الصينيين، إذ تزامن اهتمام الباحثين الصينيين بدراسة الشتات اليهودي في الصين مع انعقاد المؤتمر الصهيوني في بازل، سويسرا، سنة 1897، والذي مثّل نقطة تحوّل في الحركة الصهيونية العالمية.
في العام نفسه، نشر هونغ جون، المؤرّخ الصيني والخبير في شؤون أسرة يوان، كتاباً بعنوان «مسح لمختلف الطوائف الدينية أثناء عهد أسرة يوان»، تناول فيه، ولأول مرة في الصين الحديثة، من منظور علمي، موضوع اليهود في الصين القديمة.

يشير هذا الكتاب إلى أنّ اليهود كانوا من الجماعات الدينية المعترف بها رسمياً في الصين أثناء تلك الحقبة، إلى جانب البوذيين، والمسلمين، والمسيحيين (النسطوريين)، والطاويين.

وقد سكن اليهود مدينة كايفنغ، وهي إحدى المدن التي احتضنت الجالية اليهودية منذ قرون، واصفاً إياهم بأنهم يمارسون شعائرهم الدينية الخاصة، ولديهم أماكن عبادة ونظام تعليمي خاص. أُطلق عليهم اسم صيني يُترجم تقريباً إلى «أتباع الدين النقي»، في إشارة إلى تمسّكهم بتقاليدهم.

رغم أنّ عددهم لم يكن كبيراً مقارنةً بالطوائف الأخرى، فإنهم كانوا يحظون باحترام رسمي، ومُنحوا حرّية نسبية في ممارسة شعائرهم. لم يُذكر أنهم شاركوا في الحياة السياسية، لكنهم نشطوا اقتصادياً، خصوصاً في التجارة وصناعة النسيج.
ومع مرور الزمن، تراجعت الجالية اليهودية في كايفنغ. فقدوا لغتهم العبرية، واستبدلوها بالصينية، ممّا أدّى إلى تراجع المعرفة الدينية في أوساطهم، وانتهاء وجود الحاخامات، وذوبانهم في النسيج السكاني المحلّي، مع تبنّي عادات كونفوشيوسية مثل عبادة الأسلاف.

جذور الهجرة اليهودية الحديثة إلى الصين

وصل يهود من العراق والهند وروسيا إلى مدن صينية عدة، لا سيّما شانغهاي وهاربين، في مدد متفرّقة، وكان أبرز هؤلاء:
– يهود العراق (البغداديون): جاؤوا عبر الهند في القرن التاسع عشر، وبرزت عائلات مثل ساسون، وعزرا، وروبنز، ويهوذا، وهي عائلات تجارية وكانت تنشط في التجارة في الهند والصين وأسّست مؤسسات تجارية كبرى وساهمت في دعم مؤسسات إغاثة يهودية.

– يهود روسيا القيصرية: قدموا بعد ثورة 1917، وتمركزوا في شانغهاي، وتحدّثوا الروسية، وقلّما اندمجوا مع بقية المجتمعات الأجنبية. وعاش كثير منهم في منطقة الامتياز الفرنسي في شانغهاي، وكانت منطقة حرّة خاضعة لإدارة قوى دولية متعدّدة.

– اليهود الألمان والنمساويون: هربوا من النازية، وبدأ وصولهم مع صعود هتلر، وازداد عددهم بعد «ليلة البلور» عام 1938، حيث فرّ أكثر من 100 ألف يهودي من ألمانيا والنمسا، معظمهم إلى وجهات محدودة كان أبرزها شانغهاي.
بلغ عدد اليهود في شانغهاي عشية الحرب العالمية الثانية حوالي 20 ألف يهودي، موزّعين بين الجاليات الثلاث، مع وجود مؤسسات تعليمية وإغاثية مستقلّة، وصحافة خاصة بكل فئة.

في ثلاثينيّات القرن الماضي، طرحت اليابان خطّة لإنشاء كيان يهودي في منشوريا الصينية، بدعم من بعض الجماعات اليهودية في مدينة هاربين. أُطلق على المشروع اسم «خطة قنفذ البحر»

وفي بداية عام 1943، فرضت السلطات اليابانية على اليهود عديمي الجنسية (خصوصاً الألمان والنمساويين) الانتقال إلى حيّ صغير في هونغكيو. لم يكن هذا الحي معسكراً إباديّاً، لكنه كان غيتو ضيّقاً وفقيراً. وتولّت جمعية يهودية محلّية تدعى SACRA (الجمعية الأشكنازية للإغاثة التعاونية)، أسّسها اليهود الروس، إدارة الشؤون الإنسانية داخل الحي، بتكليف من اليابانيين.
رغم الظروف الصعبة، واصل اللّاجئون تنظيم الحياة الثقافية والاجتماعية. أنشئت مدارس، وطُبعت كتب وصحف، ونُظّمت مسارح عبرية، إلا أنّ هذه الأنشطة توقّفت تقريباً بعد اندلاع حرب المحيط الهادئ في كانون الأول 1942.

التوظيف الصهيوني لتجربة شانغهاي

بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، أقيمت احتفالات جماعية في أحياء اليهود في شانغهاي، رغم عدم وجود اعتراف صيني رسمي. وكان لهذه اللحظة أهمية رمزية كبيرة:

– شكّلت المدينة في الذاكرة الصهيونية «الملاذ الأخير في الشرق».
– اعتُمدت تجربتها كذريعة أنّ العالم أغلق أبوابه أمام اليهود، وأنّ ثمّة حاجة ملحّة وعاجلة إلى إقامة «وطن قومي» لليهود.
– أُعيد استثمار هذه القصة لاحقاً في السرديّة الإسرائيلية الرسمية، بوصفها محطّة أخيرة في سرديّة اللجوء، رغم أنّ الصين لم تكن جزءاً من مشروع الدولة الصهيونية لا سياسياً ولا ديبلوماسياً.

الموقف الصيني

لم يكن للحكومة الوطنية الصينية (الكومينتانغ) أو الحزب الشيوعي الصيني في الأربعينيات موقف واضح أو مبلور تجاه القضية اليهودية أو الحركة الصهيونية، بسبب الانشغال بالحرب الأهلية والعدوان الياباني. لكن بعد إعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، انحازت بكين إلى معسكر حركات التحرّر في العالم الثالث، ورفضت الاعتراف بإسرائيل حتى عام 1992.

وكانت نظرة الصين إلى الصهيونية تنطلق من رؤية ماركسية-لينينية وتقوم على تصنيفها حركة استعمارية غربية، مدعومة من الإمبريالية البريطانية ثم الأميركية، وتسعى إلى تكريس الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط. وقد عبّرت عن هذا الموقف في خطاباتها في الأمم المتحدة أثناء الحرب الباردة، وعدّت الكيان الإسرائيلي امتداداً استعمارياً لا يختلف عن جنوب أفريقيا العنصرية.

رغم ذلك، وفي أواخر القرن العشرين، بدأت إسرائيل محاولاتها اختراق الصين ثقافياً ودينياً، عبر بعثات أكاديمية ومراكز دراسات يهودية، خاصة في كايفنغ وهاربين، وبذلت جهوداً لإحياء الهوّية اليهودية لدى أحفاد الجاليات القديمة، بل ظهر بعضهم لاحقاً في الجيش الإسرائيلي.

خطّة «قنفذ البحر»

في ثلاثينيات القرن الماضي، طرحت اليابان خطّة لإنشاء كيان يهودي في منشوريا الصينية، بدعم من بعض الجماعات اليهودية في مدينة هاربين. أُطلق على المشروع اسم «خطة قنفذ البحر»، وكان يهدف إلى:

– جذب رؤوس الأموال اليهودية العالمية.
– استثمار النفوذ المالي اليهودي لصالح الاحتلال الياباني في منشوريا.
ورغم فشل الخطة، فإنها كشفت عن استعداد بعض الجماعات اليهودية للتعاون مع القوى الاستعمارية في مقابل مصالح اقتصادية وسياسية.

بعد عام 1948، غادر معظم هؤلاء اليهود الصين باتجاه فلسطين أو الغرب. ومع ذلك، حاولت إسرائيل لاحقاً توظيف روايتهم التاريخية لتعزيز العلاقات مع الصين، وطلبت من بكين الاعتراف باليهودية كديانة رسمية، وهو ما رفضته الحكومة الصينية، بسبب ذوبان اليهود في المجتمع الصيني وعدم وجود طابع إثني مستقل لهم.

تحولات العلاقات الصينية-الإسرائيلية

رغم غياب الاعتراف الرسمي حتى سنة 1992، بدأت العلاقات الصينية-الإسرائيلية تتطور بشكل غير رسمي منذ السبعينيات، مع انفتاح الصين اقتصادياً وتغيّر سياستها الخارجية. وقد تجلّى هذا في:

– السماح لإسرائيل بإقامة علاقات أكاديمية ودينية مع الجاليات اليهودية القديمة.
– استثمار صيني واسع في إسرائيل، منها مشاريع إدارة ميناء حيفا.
– توازن دقيق في السياسة الخارجية، إذ حافظت الصين على علاقات إستراتيجية مع إيران والدول العربية، ورفضت الانخراط في أي محور مناوئ للفلسطينيين.

تتبنّى بكين سياسة «الحياد المؤيّد لفلسطين»، أي دعم الحقوق الفلسطينية دون الدخول في صدام مباشر مع إسرائيل. وتؤكّد الصين باستمرار على حلّ الدولتين، وحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلّة، وعضوية كاملة في الأمم المتحدة.

رمزية شانغهاي في الذاكرة الصهيونية

رغم أنّ شانغهاي لم تكن فاعلاً في المشروع الصهيوني، فقد أدّت تجربتها دوراً رمزياً قوياً في الخطاب الإسرائيلي. فقد جرى تصوير المدينة بوصفها:

– آخر ملاذ مفتوح أمام اليهود في العالم.
– دليلاً على تقاعس العالم وتواطئه في المحرقة.
– مبرّراً إضافياً للحاجة إلى دولة يهودية قوية تحمي نفسها.
هذا التوظيف الرمزي، وإن كان انتقائياً، أسهم في بناء سرديّة صهيونية دولية تعزّز أسطورة «الإنقاذ»، وتُبيّض أدوار بعض الفاعلين، مثل اليابان، الذين تحالفوا مع النازيين لكنهم لم يشاركوا في المحرقة.

في النتائج، تكشف تجربة يهود شانغهاي عن مدى تشابك الجغرافيا السياسية، والتاريخ الاستعماري، والمآسي الإنسانية، في لحظة استثنائية من القرن العشرين. فقد مثّلت المدينة فضاءً مؤقّتاً للنجاة، لا مخطّطاً للتحالف، واحتضنت آلاف اليهود الفارين من المحرقة لا لسياسة صينية، بل لمصادفة قانونية.

غير أنّ هذه اللحظة العابرة تحوّلت لاحقاً إلى أداة رمزية في الخطاب الصهيوني، واستُثمرت سياسياً لتبرير المشروع الاستيطاني، رغم تحفّظ الصين الرسمي على هذا المشروع لعقود. وهكذا، فإنّ شانغهاي -بما تحمله من تناقضات- تظلّ شاهدة على عالم يتقاطع فيه الاضطهاد واللجوء والبراغماتية الإمبريالية، فيما يبقى الكيان الإسرائيلي وحده المستفيد السياسي الوحيد من سرديّة الشتات حتى اللحظة.

قد يعجبك ايضا