غزة… مذاق الموت على لسان العالم
أيهم السهلي – وما يسطرون|
«عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج شاهراً سيفه»
الزمان: غزة
المكان: كل العالم
يموت الناس في غزة، بالنار والبارود، وبالأمعاء الخاوية، تلك التي كانت سلاحاً يلجأ إليه الأسرى، فيحققون مطالبهم العظيمة. أما اليوم في غزة، فتحولت هذه الأمعاء إلى أداة يقتل بها الإسرائيليون الفلسطينيين بتفريغ أمعائهم من الطعام في غزة.
لكن لا بد من وقفة، قبل كيل الاتهام الكامل إلى الإسرائيليين الذين يتحملون المسؤولية العظمى والأولى والأخيرة عن كل ما يحدث لفلسطين وللفلسطينيين عموماً، ولأهالي قطاع غزة خصوصاً، منذ بدء الحصار عام 2007، وصولاً إلى الحرب الحالية التي قاربت العامين.
فإلى جانب الاحتلال، هناك أمة طويلة عريضة، ممتدة حول العالم، أمّا الإسلامية، فتقارب ملياري مسلم، وأمّا العربية، وغالبية أهلها ضمن «الإسلامية»، فيتجاوز عددهم 437 مليون عربي. هؤلاء يلتزمون الصمت، من كبيرهم إلى صغيرهم، لم تحركهم الفظائع والفواجع في قطاع غزة، ولم يفعلوا أي شيء ينسجم مع دينهم، وشعاراتهم، وبعض كلامهم الطائفي حين يتعلق الأمر بآخر «مرفوض»، كما لم تهز قلوبهم المبادئ التي تتحدث عنها البشر كخلاصات إنسانية وصلت إليها الحضارة، في نصرة المظلومين، أو المنكوبين، كما تجري الأمور عادة حين تحل كارثة طبيعية في مكان ما من العالم.
كان عدد الفلسطينيين في قطاع غزة نحو 2,2 مليون فلسطيني، من أصل 15,2 مليون فلسطيني في الداخل والشتات، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في «اليوم العالمي للسكان» في 11/7/2025، الذي جاء هذا العام تحت شعار «8 مليارات نسمة وإمكانات لا متناهية: قضية الحقوق والواجبات».
ما الذي فعله هذا الشعب لبقية شعبه؟ بدءاً بعدد الفلسطينيين في العالم، أمّا التظاهرات الشعبية التي خرجت في رام الله، فهي محدودة العدد، مخجلة، مضحكة، وليست مبكية، لأنها توصيف كامل واضح وجلي لجانب من الحال الفلسطيني في الداخل والخارج، ويساعد على الوصول إلى نتيجة مفادها: إخراج هذا الجانب من المعادلة، ولا سيما إن تطورت الأمور إلى تهجير الضفة الغربية، أو هدم المسجد الأقصى أمام عيون الجميع (مليارا مسلم ضمنهم).
أيضاً في الضفة الغربية، هناك في جنوب الضفة من دعا إلى الانفصال، شيوخ عشائر يفترض أنهم من فلسطين، أمّا شمال الضفة، فبعض أهله تهجروا من بيوتهم التي تتهدم أمام عيونهم، مع تغييب شبه كامل لأخبارهم. في داخل الداخل، نجحت إسرائيل بنشر الجريمة في الوسط الفلسطيني، وعدم محاسبة الجناة، ونجحت أكثر بعد انتفاضة الأهل في أراضي الـ 48 خلال معركة الشيخ جراح، أن تكتم أي صوت يخرج، وتمكنت من كبت أي محاولة للحراك. بينما الشتات الفلسطيني، فخانع ساكت صامت، وكما رام الله، إن جرّب التظاهر، بعد محاولات عدة، أحياناً تحول الحكومات المضيفة دونه.
إن خرجت تظاهرة (يعدون على بضع أصابع) يخرج فيها عدد قليل من اللاجئين الفلسطينيين. بينما في أوروبا ثمة نشاط كبير، يبدو أثره في حجم التظاهرات التي لم تقعد تقريباً منذ عامين، حتى وإن كانت تخفت بين حين وآخر، إلا أنها مستمرة، بينما في الوطن العربي، والعالم الإسلامي، فلربما أمكن عدّ التظاهرات على أصابع اليدين.
هذا الموت، بوصفه حدثاً، مأساة للمنظرين والمتابعين والإعلاميين، ولكنه في غزة، قد يكون راحة، فربما لم يعد يخطر في بال أهل غزة سؤال الآخر خارج القطاع، فقد انطفأ وهج هذا السؤال، أمام واقع يصعب توصيفه
هذا سريعاً بخصوص الفلسطينيين، المذكور عددهم أعلاه، فهو مجرد عدد لا أكثر، وهو يتناقص ما دامت الإبادة مستمرة، وما دامت هناك احتمالية لتوسعها إلى مناطق أخرى حيث يستدعي الوجود الإسرائيلي.
أما بخصوص 8 مليارات نسمة، تعداد سكان العالم، فهؤلاء يمكن أن يستبعد منهم بعض الشعوب المقهورة، كالفلسطينيين، تلك التي لا تتبرع إلى سادة العالم، ولا تتلقى منهم تبرعات، لا مادية ولا عينية، ويمكن استبعاد سكان الغابات، أولئك الذين يسميهم إنسان اليوم أنهم الشعوب التي لم تصلها الحضارة، ويبدو أن الفلسطينيين منهم، بحسب تصريحات إسرائيلية عدة، أمّا البقية، فهي الغالبية الصامتة عن عامين من القتل والخراب والتدمير، والآن التجويع، بوصفه فعلاً مادياً قائماً على منع أساسيات البقاء، الطعام والشراب.
هذا المنع، أدّى حتى الآن إلى 1026 شهيداً و6,563 إصابةً و45 مفقوداً، ضحايا برنامج المساعدات الذي ترعاه أميركا في قطاع غزة، وهم من بين 59,160 شهيداً. فأثناء انتظارهم، تنهال عليهم الطلقات، فإمّا ممات بشبع وإمّا ممات بجوع، وكل موت في غزة يسرّ الصديق كما يسرّ العدو، ما دام يؤدّي هذا الموت إلى مزيد من غطرسة إسرائيل، وإذلال «الأصدقاء».
هذا الموت، بوصفه حدثاً، مأساة للمنظرين والمتابعين والإعلاميين، ولكنه في غزة، قد يكون راحة، فربما لم يعد يخطر في بال أهل غزة سؤال الآخر خارج القطاع، فقد انطفأ وهج هذا السؤال، أمام واقع يصعب توصيفه. فبعض ما يخطر على بال الآباء والأمهات في غزة، هو الموت القادم، بوصفه راحة من ألم القلب أمام عيون أطفالهم الجوعى، وضعف الحال وعدم القدرة على توفير الغذاء الكافي لاستمرار الحياة بالحد الأدنى، أي مع الوهن والضعف والهزال.
لا أحد بريئاً من موت غزة، الكل مسؤول أمام مأساتها، وليس من أحد في الأرض خارج المساءلة. فهذا المكان الذي ظل معزولاً عن بقية جسده لسنين، من المفترض أنه أعاد تركيب الوعي البشري، فأصبحت اللامبالاة جزءاً من تركيبة البشر الطبيعية، وغض النظر عن مأساة هذا المكان جزء من وعي البشر الطبيعيين.
وهذه الكتابة بوصفها توصيفاً لن يطعم ولن يسقي، محاولة سخيفة لرشوة الضمير، ورمي الكلام في وجه كل راعٍ فلسطيني وعربي ومسلم ودولي عن الفلسطينيين في غزة، ليلتفتوا إلى ضميرهم، لا ليستيقظ، بل ليبقوا أبد الدهر بين الحفر، تلاحقهم صرخات الموتى في غزة، ليس منذ عامين فقط، بل منذ اللحظة الأولى التي تركت فيها وحيدة تواجه موتها، ومنذ اللحظة التي ارتضى فيها فلسطيني فصل غزة عن باقي جسدها الفلسطيني المريض.