ترامب… «لوك» الهيمنة الأميركي الجديد!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
المبدأ الأساسي في الاستثمار الرأسمالي هو تعظيم الربح وتقليص التكلفة. هذا المبدأ يتفاعل، بدوره، مع سلسلة من العوامل التي تتنوّع وتتنامى باستمرار، بتطوّر العلم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والنقل و…الاستغلال! علماً أن الاستغلال لا يقتصر على أفراد وطبقات فحسب، بل يستهدف شعوباً، وحتى قارات برمتها.
ما يجري في الولايات المتحدة من قبل رأسماليتها الإمبريالية، هو مراجعة كبيرة ونوعية في معادلة الربح والكلفة بعد أن تعاظمت المنافسة، في نطاق التجارة الحرّة المعولمة، وباتت تهدِّد، جدّياً، بإزاحة تلك الرأسمالية الأميركية عن صدارة المشهد العالمي.
لقد كسبت واشنطن «الحرب الباردة». لكنها لم تجنِ بشكل كافٍ نتائج هذا الانتصار الذي طغى طابعه السياسي على طابعة الاقتصادي. ذلك أنّ واشنطن استمرت في إدارة سياستها، في المرحلة الجديدة، وكأن «الحرب الباردة» لم تنتهِ، ولم تنتهِ أكلافها الضخمة أيضاً!
خاضت واشنطن أصعب وأفشل حروبها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي: حرب غزو واحتلال العراق عام 2003-2011 التي استعادت أكلاف حرب فيتنام وكوابيسها. حرب أفغانستان واحتلالها، طوال حوالى عقدين من الزمن، والتي انتهت، هي الأخرى، فضلاً عن الكلفة العالية والمردود المتواضع، بهزيمة سياسية وعسكرية مدوِّية!
في السياق، وخلال أقل من عقدين، كانت الرأسمالية الإمبريالية الأميركية تواجه منافسة متصاعدة من قبل الصين التي طوَّرت وسائلها بشكل هائل، ثم أضفت على نجاحاتها الاقتصادية بعداً سياسياً دولياً عبر مشروعها الاقتحامي الاقتصادي والسياسي: «الحزام والطريق». وهو مشروع يستهدف 67 دولة، بما فيها دول واقتصادات ومواقع جيواستراتيجية شديدة الأهمية بالنسبة إلى واشنطن. هذا إلى إنشاء تكتلات أممية وإقليمية مهمة وموزعة في كل القارات أبرزها تجمع «البريكس». في الأثناء، طوّرت بكين سياسة خارجية لحمتها وسداها التعاون الشامل مع الاتحاد الروسي، أي بين بلدين هما الأكبر على مستوى العالم: من حيث عدد السكان، والمساحة، والثروات الطبيعية والقدرات المتنوعة…
برزت في مجرى ذلك مؤشرات، وحتى معادلات ومفارقات: الدولة الأقوى في العالم، هي أيضاً، الأكثر مديونية بأرقام فلكية، وسط خلل فادح ومتفاقم ومتعاظم سنوياً لمصلحة أهم منافسيها على المستويات كافة: جمهورية الصين الشعبية. آخر الأمثلة وأخطرها هو في حقل «الذكاء الاصطناعي» الذي قفزت فيه بكين، كمياً ونوعياً وتسويقياً، إلى مستويات لا تضاهى.
هذه اللوحة التي حفلت بالتراجع والخسائر، والمراوحة في المستَهلك من الأدوات والأساليب، هي التي حفَّزت، في واشنطن، بروز شخصية إشكالية كالرئيس دونالد ترامب حامل شعار «أميركا أولاً»، وناسخ شعار «جعل أميركا عظيمة مجدداً» (MAGA) عن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان! يمثّل ترامب انقلاباً، كاد أن يتحوّل أمنياً وعنفياً، داخل الطبقة البورجوازية الكبرى الحاكمة عبر ثنائية الحزبين «الديموقراطي» و«الجمهوري».
معالم النهج الترامبي تكاملت وتكرّست في مستهل ولايته الثانية. وها هي الآن، تشق خطوة جديدة في مسارها الصاخب عبر زيارة الرئيس الأميركي إلى السعودية والإمارات وقطر. هي أولى زياراته إلى الخارج. إنها زيارة خليجية وشرق أوسطية ودولية في الوقت نفسه. لا عجب في ذلك: الشرق الأوسط حظي، مراراً، بأولوية أميركية أبرزها غزو واحتلال العراق (وقبله أفغانستان) في نطاق مشروع «الشرق الأوسط الواسع» (أو الجديد) عام 2003، ومشروع «صفقة القرن» العائد للرئيس ترامب نفسه في ولايته السابقة… إلى ما سمّاه ترامب «الشرق الأوسط الحديث» في زيارته الأخيرة.
وهو تعبير ذو دلالة كبيرة على مستوى المقاربة الجديدة للرئيس ترامب وفريقه. في السياق، كان لافتاً أن يتبنى ترامب، في خطابه الطويل في الرياض، وصفاً استخدمه خصوم واشنطن دائماً في انتقادهم للدور الأميركي في العالم. قال ترامب إن إدارة سلفه الرئيس بايدن تصرفت على أنها «شرطي العالم»! هذا ليس، فقط، نوعاً جديداً من «التنمّر» المستمر من قبل الرئيس الحالي على الرئيس السابق، أو مجرد شعار في حملة ترامب المبكرة لتجديد ولايته التي بالكاد بدأت قبل أقل من أربعة أشهر! إنه، إلى ذلك، تعريض بمرحلة، وببعض من يمثلها من حيث أنها كانت شديدة التكلفة وقليلة المردود، ما أدى إلى جعل واشنطن في حالة تراجع مقلقة للفئات العليا من البورجوازية الأميركية الكبرى التي حضرت «كتيبة» مهمة منها مع ترامب إلى الخليج، تضم كبار أثرياء أميركا والعالم، لحصد صفقات بليونية مع وعود بالمزيد: دون مقابل، غير بعض المدائح الكلامية لمضيفيه، التي لم يفت ترامب أن يخصّ نفسه بأكثر منها.
اقتضت المرحلة الجديدة، بـ«اللوك» الترامبي المميز، الاقتحامي الاستعراضي، إلغاء التزامات أميركا في مروحة واسعة من الميادين، في الداخل الأميركي وخارجه: وقف تمويل منظمات دولية. وقف مساعدات «وكالة التنمية الأميركية». تسريح ملايين الموظفين في الإدارات الأميركية. إعادة النظر في الضرائب والرسوم بشكل ابتزازي أو استفزازي ارتد سلبياً على الاقتصاد الأميركي والعالمي بشكل عام… في «عدة الشغل»، وخدمة للأسلوب الجديد، ادعاء سياسة سلمية لحل النزاعات بما فيها تلك التي أشعلتها واشنطن نفسها كالحرب في أوكرانيا حيث تحوَّلت المساعدات الأميركية، المالية والعسكرية الأميركية، إلى ديون اقتضى سدادها فرض اتفاقيات تملي وضع اليد الأميركية، إلى حدٍّ بعيد، على ثروات أوكرانيا الأكثر ندرة والأكبر ثمناً.
تحضر في هذا النهج الجديد أيضاً، عمليةُ خلط أوراق غريبة، دون تمييز بين العدو والصديق… أوروبا خاسر أكبر في مرحلتي ما قبل ترامب وما بعده. الثابت في سياسة ترامب، كما كل رئيس أميركي، هو دعم الصهيوني بوصفه قاعدة أميركية محروسة أيضاً بنفوذ هائل للوبيات صهيونية مندرجة كلياً في بنية الإمبريالية الأميركية على تفرد وتفوق في مجالات أساسية: اقتصادية وإعلامية وتشريعية وفنية… رغم ذلك، فإن ترامب وجّه إشارات واضحة تعبيراً عن التبرم الشخصي والسياسي من حكومة القتلة الفاشيين الإسرائيلية التي يتعارض فشلها وأساليبها مع «اللوك» الأميركي الجديد.
تباهى ولي العهد السعودي بأنه كان وراء قرار رفع الحصار عن سوريا. لم يقل ما هو الثمن الذي يتعدّى الترليونات إلى إلحاق كل المنطقة بالعجلة الأميركية! الحصار، أصلاً، عمل تعسفي بلطجي يعول عليه ترامب بشكل شبه كامل، ما يعني أن واشنطن تتخلى، شكلياً، عن دور الشرطي العسكري، وتستبدله بدور «الشرطي الاقتصادي»! علماً أن ترامب قد تباهى، في قاعدته العسكرية في قطر، بأنه رفع الميزانية العسكرية لما سمّاه «أعظم قوة عسكرية في التاريخ»، إلى درجة غير مسبوقة.
ماذا عن حرب الإبادة المتواصلة في غزة خصوصاً، والتي تستمر وسط شراكة أميركية طاغية وتواطؤ خليجي وغير خليجي معيب؟ ترامب لا يرى سوى «مجازر طوفان الأقصى»! وظّف بعض تبايناته الجزئية مع القاتل نتنياهو، لتسهيل هدفه بالحصول على أرقام خيالية دون أن يزعجه أحد من مضيفيه بالتطرق العلني إلى حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني. كان أمام طابور من المذعنين ممن لم يتردد إزاءهم باستخدام الابتزاز المهين عندما كرّر قبل أيام من زيارتهم: «لولا واشنطن لما كانت السعودية والإمارات وقطر على الخارطة»!
هل أصبحت «الشراكة الإستراتيجية» المزعومة مرادفاً للتبعية والذيلية والخنوع؟