اقتلاع فلسطين والفلسطينيين

أيهم السهلي – وما يسطرون|

493,201 لاجئ فلسطيني مسجّل في لبنان (موقع «الأونروا»). 174,422 لاجئ فلسطيني في لبنان (تعداد لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني 2017). 180 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان (بيان «الأونروا»: «الوصول إلى الحضيض»، 2022). 195 ألفاً (مديرة شؤون «الأونروا» في لبنان دوروثي كلاوس، حوار صحافي 2024).
الأرقام السابقة مجتمعة، هي أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكلها صحيحة، وكلها مشكوك في أمرها. غالبيتها صادرة عن أهم جهة أممية معنية بملف اللاجئين الفلسطينيين، ورقم واحد صادر عن جهة رسمية لبنانية، بتنفيذ جهتين رسميتين فلسطينية ولبنانية، مشهود لهما بالكفاءة (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وإدارة الإحصاء المركزي في لبنان).

بعيداً عن رقم المسجّلين في لبنان، فلنأخذ الأرقام الأخرى، وهي متقاربة جداً، ويبدو أنها صحيحة، فـ«الأونروا» يُفترض أنها تقدّم معطيات علمية ودقيقة، وفقاً لموارد متعدّدة لديها، منها تقديم الخدمات، و«التحقق الرقمي» الذي قامت به أخيراً للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون من سوريا، والذي على أساسه قالت كلاوس رقمها لصحيفة لبنانية، وأوضحت: «هذا لا يغيّر عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين لدى الأونروا في لبنان البالغ حوالى نصف مليون. أمّا الفرق في الأرقام فهو ناجم عن لاجئين هاجروا على مرّ السنوات الماضية أو توفّوا من دون إبلاغ الأونروا» («نداء الوطن»، 13/3/2025).

بالعودة إلى التعداد الذي أُعلن عن نتائجه في السراي الحكومي يوم 21 كانون الأول 2017، أقامت الفصائل الفلسطينية الدنيا ولم تقعدها. لكنها صمتت عندما أصدرت «الأونروا» بيانها الشهير «الوصول إلى الحضيض» في 21 تشرين الأول 2022، الذي قالت فيه إن 93% من لاجئي فلسطين في لبنان كافة فقراء. كما قالت: «يعيش حوالي 210 آلاف لاجئ من فلسطين في لبنان (180 ألف لاجئ فلسطيني من لبنان إضافة إلى 30 ألف لاجئ فلسطيني من سوريا) في 12 مخيماً رسمياً للاجئين، أو خارج المخيمات في ظروف معيشية مكتظة». مرّ هذا البيان بصمت، من دون أي كلام، أو أي تعليقات، سواء على أعداد اللاجئين، أو على نسبة الفقر المرتفعة جداً في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، والذي تتحمّل الفصائل والقوى الفلسطينية مسؤولية فيه أيضاً تجاه دعم المجتمع الفلسطيني في لبنان.

ما تقدّم، ليس استعراضاً للأرقام، ولا لمعلومات أخرى عن اللاجئين الفلسطينيين. السبب تحديداً هو مستقبل ملايين اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم، في لبنان والأقاليم الأربعة الأخرى بالنسبة إلى «الأونروا»: الضفة وغزة وسوريا والأردن.

عطفاً على ما سبق، تشير معطيات صحافية، وأخرى من داخل المخيمات، إلى أن هجرة الفلسطينيين من لبنان مستمرة، ولا يبدو أن هناك من يمتلك إمكانية إيقافها، بل على العكس، كل الواقع الرديء في المخيمات الفلسطينية في لبنان، والأوضاع الحقوقية للاجئين الفلسطينيين، تدفعهم نحو مغادرة لبنان إلى غير رجعة، لذا حديث كلاوس عن لاجئين «هاجروا على مر السنوات الماضية» لتبرير رقمها الجديد، صحيح. لكن ما يحتاج إلى تدقيق، هو الكلام عن تمسّك اللاجئين بمخيماتهم، وعدم مغادرتها إلا نحو فلسطين؛ الجزئية الثانية، صحيحة، فنادراً ما يوجد فلسطيني لا يريد العودة إلى بلاده، لكن هذه العودة لم تعد مرتبطة لدى الكثير بالمخيم، ولا سيما الشباب، وهم النسبة العليا بين الفلسطينيين في لبنان، وهم ورثة الضرر الواقع على أهلهم.

مثل الهجرة من لبنان، هاجر الفلسطينيون من سوريا، وكان عددهم قبل عام 2011 ما يقارب من 560 ألف لاجئ فلسطيني مسجّل. أولئك كانوا يحظون بالحقوق كافة التي تحق للمواطن السوري، باستثناء حقّي الترشح والانتخاب (حتى المواطن لم ينلهما فعلياً).

وكانت هذه الهجرة، بعد الأوضاع الكارثية التي مرّت على سوريا، جرّاء الحرب في البلاد التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، فضلاً عن خشية الأسر من قتل أبنائها أو اعتقالهم، من قبل قوات النظام السوري وأحياناً من قبل عناصر تابعين للمعارضة المسلحة آنذاك، ولا سيما أن الطرفين في سوريا طالبا الفلسطيني باتخاذ موقف واضح من الثورة، إذ إن الفلسطينيين في سوريا، كالسوريين، انقسموا أيضاً تجاه ما يحدث في سوريا، لكن لكونهم «أقلية»، في نظر المؤيدين والمعارضين، الجميع اجتمع في تلك اللحظة المُطالب فيها الفلسطيني بموقف واضح أنه «مفضِّل» على الفلسطيني، فلم يكن مقبولاً الموقف الرمادي، إما أبيض أو أسود، وإلّا! هذه الأسباب وغيرها، كالرغبة بالتخلص من وثيقة السفر، وحمل جنسية تساعدهم على إكمال حياتهم وحياة أحفادهم من بعدهم، تحديداً أن الوثيقة تسبب معاناة حقيقية لمعظم الفلسطينيين عند التمكّن من السفر، دفعت أكثر من 150 ألفاً لمغادرة سوريا.

وبحسب بيانات «الأونروا»، تبقّى اليوم في سوريا 438 ألف لاجئ، 40% منهم نازحون داخلياً. مع التحفظ على الأرقام، إذ لا توجد أرقام دقيقة تؤكد عدد من غادروا، وإلى أين غادروا، باستثناء لبنان الذي قالت «الأونروا» إن أعداد الفلسطينيين من سوريا فيه هذه الأيام 27 ألفاً. وفي الأردن، تتحدّث «الأونروا» في موقعها عن «عشرات الآلاف من لاجئي فلسطين النازحين من سوريا»، سعوا للحصول على المساعدة من الوكالة. أيضاً ليس معروفاً العدد في تركيا، ولا في أوروبا.

اليوم، تكمن مخاوف الفلسطينيين في سوريا من تحولات ما، تؤدّي إلى إلغاء أو تعديل للقانون 260 لعام 1956، الذي بموجبه نال الفلسطيني في سوريا صفة «ومن في حكمه»، أي في حكم المواطن السوري. قد تحدث، قد لا تحدث هذه التحولات، لكنّ الفلسطيني في هذه اللحظات يفكّر منطلقاً من كونه ليس مواطناً، وكل ما كان يمكن أن ينتهي أو أن يعزز وجود الفلسطينيين في سوريا «بجرة قلم»، كل الاحتمالات واردة صالحها وطالحها.

هذه الظروف، تنطبق على أعداد من الفلسطينيين في الأردن، وعددهم 2,39 مليون، معظمهم يحملون الجنسية الأردنية، يسكن 18% منهم في عشرة مخيمات رسمية، وثلاثة غير رسمية. بعض هؤلاء، يعانون من ظروف معيشية صعبة، تنطبق على الكثير من المواطنين في البلاد أيضاً.

أمّا قطاع غزة، فالأوضاع تبدو معروفة من المتابعة اليومية الإخبارية لما يجري، في الحرب المستمرة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، الذي يشكّل اللاجئون معظم سكانه (1,6 مليون من أصل 2,2 مليون). وكذلك في الضفة التي يسكنها نحو 912,879 ألف لاجئ، يعيش ربعهم في 19 مخيماً رسمياً، تجري حالياً عملية إسرائيلية تحت مسمى «السور الحديدي» يهدم خلالها جيش الاحتلال ويهجّر سكان مخيمات محافظات الشمال (جنين وطولكرم ونور شمس)، ويبدو أنه سيكملها في باقي مخيمات الضفة الغربية.

من شأن إسرائيل، والغرب معها، أن يكون في مخططاتهما إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى غير رجعة، وهذا سبب إيقاف عمل «الأونروا» في الضفة وغزة، وسبب التقليص لتمويلها، الذي بالمناسبة معظمه من دول غربية، ليؤدي إيقافها في فلسطين إلى مؤداه في جوارها، حتى تعجز الوكالة عن تقديم خدماتها، ويصبح وجودها بالمعنى القانوني والتاريخي غير مبرّر، وبالتالي البحث عن حل للاجئين الفلسطينيين. ومن تلك الحلول، نقل ولايتهم إلى مفوّضية اللاجئين.

وبينما يعمل المشروع الغربي، بتنفيذ إسرائيلي، على اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم في قطاع غزة والضفة الغربية وباقي فلسطين لاحقاً، يضيق الخناق على اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، مع تواطؤ من بعض الدول العربية والإسلامية ربما، تمهيداً لإجراءات ستحدث في دول الطوق، بخصوص الفلسطينيين اللاجئين لديها، ستؤدي إلى وضع حد لهؤلاء «غير المجنسين»، إما بجعلهم مواطنين، مقابل اعتراف هنا وانسحاب هناك وإلغاء ديون هنا وهناك، أو ترك اللاجئين يرحلون إلى بلد يستقبلهم، ربما إلى كندا، لتأخذ مقابل ذلك حفاظها على استقلالها، أو ربما يوجِدون للفلسطينيين «وطناً بديلاً»، بغض النظر عن اسمه، حتى لو كان اسمه فلسطين، المهم بالنسبة إلى إسرائيل والغرب وبعض العرب والمسلمين، النتيجة، وهي إخلاء فلسطين من الفلسطينيين، وإخلاء محيطها منهم، وخلق بيئة مطبّعة ومحبة للسلام.

وبينما يحدث كل هذا، الوجوه ستبقى شاخصة متأمّلة في الملكوت، أمّا التصدّي لهذه المخططات فيكاد يكون معدوماً، أو معتمداً على مبدأ أن حق العودة مقدّس ولا يمكن المساس به. والحقيقة أن الاحتلال خلال 17 شهراً من الحرب لم يترك خطاً أحمر إلا وداسه وتجاوزه، ولم يكن في مواجهته إلا المقاومة، وأجساد الشعب في غزة والضفة. لذا، فالتصدّي لما هو مرسوم يجب أن ينطلق من الحقائق الصعبة، من إدراكها أولاً، وعدم السماح للفلسطينيين منا، ممن يعبثون بمصير شعبنا، الاقتراب من محاولات الحل، لأنها ستكون محاولات تخريب.

وما علينا، بعد الآن، إلا الانتباه لأنفسنا كشعب، وإعادة لحمتنا بعضنا ببعض، بشتى الطرق الممكنة، للحفاظ على وجودنا في أرضنا، وفي محيطها، انتظاراً لأن نعرف كيف يمكن أن نلملم أنفسنا في حالة فلسطينية عربية جديدة، تبدأ العمل من جديد، بأساليب جديدة. وحتى حدوث اللازم منا كشعب ينتمي إلى أمة عليها أن تفعل الكثير الكثير، فنحن الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، في مواجهة اقتلاع جديد، ليس من الأرض فقط هذه المرة، بل من الهوية أيضاً.

قد يعجبك ايضا