كونستليشن”.. الفرقاطة التي كشفت أزمة صناعة السفن في الولايات المتحدة

متابعات خاصة – المساء برس| تحليل: كامل المعمري|

رغم الطموحات الكبيرة التي وضعتها الولايات المتحدة لمشروع فرقاطات “كونستليشن”، إلا أن التحديات المتزايدة تطرح تساؤلات حول مدى قدرة البحرية الأمريكية على تنفيذ استراتيجياتها البحرية في ظل هذه العراقيل. فمع تأخر الإنتاج، وارتفاع التكاليف، وظهور مشكلات هيكلية وتقنية، بات واضحًا أن البرنامج يواجه أزمة ثقة، ليس فقط داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، بل أيضًا بين حلفاء واشنطن الذين كانوا يُعوّلون على هذه الفرقاطات كجزء من منظومة الدفاع البحري الغربية.

من الناحية العسكرية، تمثل فرقاطات “كونستليشن” محاولة لتعويض الإخفاقات السابقة في بناء سفن قتالية متعددة الأدوار، خصوصًا بعد الفشل الذريع لبرنامج “سفن القتال الساحلية (LCS)”، والذي كلف البحرية الأمريكية مليارات الدولارات دون تحقيق الأهداف المرجوة. واليوم، تبدو البحرية الأمريكية أمام سيناريو مشابه: مشروع مكلف، يتجاوز الميزانية، ويتأخر عن الجدول الزمني، في وقت تتسارع فيه القوى المنافسة، خصوصًا الصين وروسيا، في تطوير أساطيلها البحرية.

في هذا السياق نشر المحلل الاستخباراتي إسحاق سيتز مقالًا في موقع 19FortyFive تناول فيه المشكلات التي تواجه فرقاطات فئة “كونستليشن”، والتي كان من المفترض أن تمثل إضافة قوية للبحرية الأمريكية، لكنها وجدت نفسها أمام تحديات غير متوقعة.

بحسب المقال من بين التحديات الأبرز، يشير التقرير إلى التأخير الكبير في تسليم السفينة الأولى، USS Constellation (FFG-62)، حيث بات من المتوقع وصولها بعد 36 شهرًا من الموعد المحدد. ويعود ذلك إلى قرار البحرية بدء البناء قبل اكتمال التصميم، مما أدى إلى اضطرابات في الإنتاج وإعادة العمل على بعض الأجزاء.

اضافة الى التكاليف المتزايدة تمثل مشكلة أخرى، إذ تجاوزت الميزانية المقدرة بشكل كبير. في البداية، قُدرت تكلفة السفينة الأولى بنحو 1.28 مليار دولار، لكن التوقعات الحديثة تشير إلى أن التكلفة النهائية قد تصل إلى 1.6 مليار دولار، وهو ما يثير تساؤلات حول الجدوى المالية للبرنامج

التأخير في التسليم.. هل يُضعف الجاهزية القتالية؟

وعلى المستوى العملياتي، يُمثل تأخر تسليم الفرقاطات ضربة موجعة للقدرات البحرية الأمريكية، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجهها واشنطن في المحيط الهادئ، حيث تواصل الصين تعزيز أسطولها البحري بشكل غير مسبوق. ففي الوقت الذي تكافح فيه الولايات المتحدة لتطوير فرقاطاتها الجديدة، أطلقت الصين أكثر من 30 مدمرة وفرقاطة متقدمة خلال السنوات الأخيرة، مما يمنحها تفوقًا عددياً واستراتيجياً في المنطقة.
من أبرز المخاوف التي أثارها الكاتب، قضية زيادة الوزن غير المخطط لها، وهو أمر قد تكون له تداعيات خطيرة على الأداء القتالي للفرقاطة. فزيادة الوزن تعني تراجعًا في سرعة السفينة، وتقليل قدرتها على المناورة، وارتفاع استهلاك الوقود، ما قد يؤثر على مدى عملياتها وقدرتها على تنفيذ مهام طويلة المدى دون الحاجة إلى إعادة التزود بالوقود.

وإذا لم تتمكن البحرية الأمريكية من معالجة هذه المشكلة، فقد تجد نفسها أمام سفن أقل كفاءة مما كان متوقعًا، وهو ما قد يُحد من قدرتها على مواجهة السفن الحربية الصينية والروسية، التي تتميز بتصاميم أخف وزنًا وأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة.

وفي ظل التنافس الكبير بين البحرية الصينية والامريكية نشرت منصة Tencent Newsالصينية تقريرا ساخرا بعنوان “السفينة التي تكشف تخلف البحرية الامريكية عن البحرية الصينية” في إشارة للفرقاطة USS Constellation التي تعاني من تأخيرات كبيرة في البناء، حيث لم يكتمل سوى 10% منها بعد أكثر من عامين ونصف، ومن المتوقع أن تستغرق 9 سنوات حتى تجهز بالكامل

وكشف تقرير المنصة الصينية عن تراجع الولايات المتحدة عالميًا في صناعة السفن الحربية مقارنة بالصين، التي أطلقت 157 سفينة بين 2014 و2023، مقابل 67 سفينة أمريكية فقط، لتصبح بذلك صاحبة أكبر أسطول بحري في العالم. ورغم أن البحرية الأمريكية تؤكد أن سفنها تتفوق من حيث الجودة، فإن التقرير أكد أن بطء الإنتاج وارتفاع التكاليف جعل السفن الأمريكية غير جاذبة للشراء عالميًا، حتى مع تزايد طلب الحلفاء على الطائرات المقاتلة وأسلحة أخرى أمريكية.

وقالت المنصة أن “كونستليشن”، المجهزة بأسلحة متطورة للدفاع ضد الغواصات والصواريخ والطائرات بدون طيار، كان من المفترض أن تنطلق في 2026، لكن التقديرات تشير إلى أن اكتمالها قد يستغرق تسع سنوات، أي ضعف المدة التي استغرقها التصميم الإيطالي الأصلي من “فينكانتيري”. وأضاف أن التكلفة الإجمالية للسفينة الأولى من أصل 20 مخططًا لبنائها قفزت من 1.3 مليار دولار إلى ما يزيد عن 1.9 مليار دولار، نتيجة عوامل مثل نقص العمالة، ومعدات قديمة تعود لما قبل الحرب العالمية الثانية، وارتفاع أسعار الصلب المتفاقم بسبب الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب.

عسكريًا، يُمثل تجاوز التكاليف مشكلة استراتيجية، إذ أن ارتفاع التكلفة لكل سفينة إلى 1.6 مليار دولار يجعل من الصعب إنتاج عدد كافٍ لتعويض النقص في الأسطول الأمريكي. فالهدف كان بناء 20 فرقاطة على الأقل لتعزيز القدرات البحرية، لكن مع تضخم الميزانية، قد تجد البحرية الأمريكية نفسها مضطرة إلى خفض عدد السفن، مما يقلل من التأثير الاستراتيجي للبرنامج ككل.

في المقابل، تستفيد الصين من تكاليف الإنتاج المنخفضة، حيث تقوم ببناء سفن حديثة بتكلفة أقل ووتيرة إنتاج أسرع، ما يمنحها تفوقًا عدديًا واستراتيجياً في النزاعات البحرية المحتملة، خصوصًا في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ.

البحرية الأمريكية تواجه أزمة في بناء وإصلاح السفن

قبل اسابيع حذر تقرير صادر عن مكتب المحاسبة الحكومية الأمريكي من أن البحرية الأمريكية بحاجة إلى نهج جديد في اعتمادها على القطاع الخاص في بناء وإصلاح السفن، مشيرًا إلى أن هذا الاعتماد لم يحقق الأهداف المرجوة، حيث تعاني الصناعة البحرية من تأخيرات طويلة وتجاوزات كبيرة في التكاليف، مما يؤثر على خطط البحرية في توسيع أسطولها وتحسين جاهزيته…واشار التقرير إلى أن البحرية تعتمد بشكل كبير على عقود مع شركات خاصة، تُعرف بـ”القاعدة الصناعية”، لبناء وإصلاح السفن، حيث تُعتبر هذه الشركات أساسية في خطط البحرية لتوسيع أسطولها وتعزيز جاهزيته للمهام. إلا أن السفن غالبًا ما يتم تسليمها في وقت متأخر وبكلفة أعلى مما كان متوقعًا. مؤكدا أن صناعة بناء السفن لم تتمكن من تحقيق أهداف البحرية في العقود الأخيرة، حيث كانت الخطط دائمًا تفترض نمو الأسطول بمعدل أعلى مما كان ممكنًا تنفيذه عمليًا.

مشيرا إلى أن البحرية لم تنجح بعد في وضع مقاييس أداء واضحة لاستثماراتها، مثل تحديد أهداف قابلة للقياس ترتبط بأهدافها العامة، مما يجعل من الصعب تقييم فعالية هذه الاستثمارات في توسيع الأسطول أو تحقيق نتائج أخرى مقصودة بشكل متسق.

وحذر مكتب المحاسبة من أن غياب رؤية واضحة حول الاستثمارات ومقاييس الأداء يمنع البحرية ووزارة الدفاع من ضمان أن الأموال الفيدرالية المخصصة للقاعدة الصناعية لبناء السفن تُستخدم بفعالية لتحقيق أهداف توسيع الأسطول. وتخطط البحرية الأمريكية للاستثمار المباشر في قطاع إصلاح السفن بنفس الطريقة التي استثمرت بها في بناء السفن، لكنها لم تُجرِ بعد تقييمًا لحجم البنية التحتية اللازمة، مثل الأحواض الجافة، لتحقيق أهدافها في إصلاح السفن، خاصة عند النظر إلى احتياجات تتجاوز أوقات السلم.

وحذر التقرير من أن عدم الفهم الدقيق لهذه الاحتياجات قد يؤدي إلى تمويل بنية تحتية أكبر من اللازم، مما قد يعرقل التنافسية في السوق. لكن عدم وجود استراتيجية شاملة لتوجيه إدارة القاعدة الصناعية للسفن يعوق جهود البحرية في معالجة عدد من التحديات الرئيسية، بما في ذلك التغير المستمر في خطط العمل، حيث تواجه البحرية صعوبة في تقديم توقعات مستقرة لحجم العمل المطلوب من القطاع الصناعي، مما يجعل من الصعب على الشركات الاستثمار في البنية التحتية أو توظيف القوى العاملة المناسبة.

هل تتخلى البحرية الأمريكية عن المشروع؟

في ظل السباق العسكري البحري المتسارع، يبدو أن البحرية الأمريكية أمام خيار صعب بشأن مشروع “كونستليشن”، فمع استمرار التحديات التقنية والمالية وعدم القدرة على الالتزام بالجدول الزمني، تزداد المؤشرات على أن واشنطن قد تجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في جدوى هذا البرنامج. ووفقًا للمعطيات الحالية، فإن استمرار المشروع قد يكون عبئًا أكثر من كونه إضافة نوعية للأسطول الأمريكي، مما يجعل خيار تقليص عدد السفن أو حتى إلغاء البرنامج بالكامل احتمالًا واردًا.

بالمجمل تكشف أزمة فرقاطات “كونستليشن” عن مشكلة أعمق بكثير من مجرد تأخير في الإنتاج أو تجاوز للتكاليف؛ إنها انعكاسٌ لوهنٍ أصاب الصناعة البحرية الأمريكية، التي كانت لعقود رمزًا للهيمنة العسكرية الغربية. فعلى الرغم من إنفاق مليارات الدولارات، لا تزال البحرية الأمريكية عاجزة عن تحقيق طفرة نوعية في بناء سفن جديدة تلبي متطلبات التحديات المتسارعة، في وقت تتقدم فيه الصين بخطى ثابتة نحو تفوق بحري عالمي.

التناقض في استراتيجيات واشنطن أصبح واضحا فبينما تدعو لتعزيز قدراتها البحرية، تعاني منشآتها الصناعية من تقادم المعدات، ونقص الكفاءات، وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات التشغيلية في الوقت المناسب. وبينما تدعو إلى الحد من النفوذ البحري للصين، تكشف الأرقام أن بكين استطاعت بناء أسطول حديث بأقل تكلفة وبوتيرة أسرع، متجاوزةً بذلك الولايات المتحدة في حجم الأسطول وعدد السفن الحربية المنتشرة في المياه الدولية.

لكن الأخطر من ذلك، أن هذه الأزمة لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل تمتد إلى البعد الجيوسياسي، حيث بات حلفاء الولايات المتحدة يشككون في قدرتها على تقديم بديل بحري فعال في مواجهة الصين، التي نجحت في تعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في المحيطين الهادئ والهندي. فبينما تخوض واشنطن صراعًا داخليًا لإصلاح أخطائها، تعمل بكين على ترسيخ نفوذها عبر تحالفات إقليمية، وتعزيز قدرات أسطولها البحري بفعالية تفوق كل التوقعات.

اخيرا تبدو البحرية الأمريكية في سباق يائس ضد الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فإما أن تنجح في تجاوز أزمتها وإعادة بناء أسطولها بكفاءة تضمن لها البقاء كقوة بحرية عظمى، أو أن تتحول هذه الأزمة إلى نقطة تحول في التاريخ العسكري، تُنهي حقبة التفوق البحري الأمريكي، لتبدأ مرحلة جديدة تتصدرها الصين، حيث تكتب البحار قوانينها وفق موازين قوى جديدة، لا مجال فيها إلا لمن يمتلك القدرة على البناء والإنجاز في الوقت المناسب

المصدر: تحليل للصحفي المتخصص بالتحليلات العسكرية كامل المعمري منشور على منصة رادار 360

قد يعجبك ايضا