زمن الإبادة
أيمن السهلي – وما يسطرون|
لم يبقَ حجر على حجر في قطاع غزة، هكذا يقول الأهل في شمال القطاع ووسطه وجنوبه، وهو ما تؤكده الصور الآتية من هناك. وفي شمال الضفة حتى اليوم، وفي جنوب لبنان والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، المشهد ذاته أو أفضل بقليل.
من نافل القول ذكر الفاعل، لكن للضرورة يجب تأكيده من باب الحرص على الإيضاح والمباشرة، فالزمن الراهن زمن التورية والإحالة. تصرّح خارجية بلد ما ببيان إدانة، مع مصطلحات مائعة، فتكتفي أمام الله وشعبها بسطوره، وبذلك كفى الله «المؤمنين» شر القتال. هذا جانب من المشهد، أمّا الأقوى، فذاك الذي يخرج فيه تصريح يلقيه وزير خارجية أو أعلى رجل في السلطة الحاكمة، رئيس، أو ملك، أو أمير، أو رئيس حكومة، وبذلك يكون هذا البلد أو ذاك، قد استنفر أقصى قواه، وأدى واجبه للعلا.
على كل حال، هل المطلوب استخدام القوة أو التلويح بها، ليس دفاعاً عن الفلسطينيين أو اللبنانيين أو اليمنيين، بل احتراماً لكيان هذه الدول المنتشرة في الأمصار، وحفظاً لكرامتها أمام شعوبها. أيضاً إن شاء الحاكم، فليس احتراماً للشعب، بل من أجل استرخائه على كرسي السلطة بهدوء، تأجيلاً للثورة، أو الحراك، أو الانتفاضة، بضع وقت آخر، فهي حتمية بعد الذي جرى خلال الأشهر الطويلة الماضية.
إنّ ما يحدث في قطاع غزة والضفة الغربية، امتد إلى لبنان واليمن وسوريا، وسيمتد إلى بلدان أخرى في المنطقة، من أجل الإخضاع بالقوة أو بالسلم، والجميع سينال حصته من هذا الإخضاع، وذلك بقدر مساومة الحكام في هذه الظروف، لتحسين شروط البقاء.
ووفقاً للحرب المستمرة منذ قرابة مئة عام، والتي استعرت في الأشهر الـ 17 الماضية، فإن الاحتلال يسعى بمعاونة المنظومة الاستعمارية العالمية، التي ارتدت رداء «حداثياً» و«حقوقياً»، إلى حسم الصراع بصورته القديمة، وإعادة تشكيله بمظهر جديد، ليشكل الصراع غذاء للاستعمار، يضمن له البقاء مدة إضافية، فالمستعمِر يعيش على الصراع، لذا ليس في وسعه الاستغناء عن الشعب، اضطهاد الشعب المستعمَر، فهو يشكل له ضرورة حيوية ووجودية. ما نشهده الآن في هذه الحرب الطويلة والمستمرة، هو توسع نفوذ المنظومة الاستعمارية إلى مناطق أخرى، سواء داخل فلسطين كمستعمرة مباشرة، وفي جوارها، حيث ستفرض أمراً واقعاً على مستوى احتلال أراضٍ جديدة، وجعل دول تابعة كلياً، بعد أن كانت تابعة جزئياً وباستتار.
نتائج العدوان في شمال الضفة، مشابهة إلى حد ما بإبادة غزة، فسكان ثلاثة مخيمات على الأقل، أُخرجوا من ديارهم
ما سبق، ليس وجهة نظر بالمعنى التام، ولكنه يحدث منذ زمن بعيد ومستمر حتى الآن، وفي السابع من أكتوبر 2023، دخلنا في زمن الوضوح، زمن الكل يلعب فيه على المكشوف. فالاحتلال لا يريد الشعب الفلسطيني في الأرض، وسيستمر في محاولة طرده وإنهاء علاقته بالمكان. قد يقبل بوجود فلسطينيين على الأرض، في بؤر صغيرة غير متصلة غالباً، دون أن يشكلوا حالة كيانية. ومن هنا كل الكلام عن إمكانية الحفاظ على الشعب الفلسطيني، قد تنتفي إذا ما استمرت الإبادة القائمة بأشكال مختلفة، والتي واحد منها القصف بالصواريخ والقتل والتدمير.
وإذا كان تهجير الفلسطينيين من أرضهم هدفاً استعمارياً، جرت محاولات عدة لتنفيذه، من بعد التهجير الكبير في النكبة عام 1948، فهو اليوم غاية الغايات، ولم يعد الأمر سراً يحتاج إلى لجان سرية كـ«لجنة الأساتذة» و«لجنة المديرين» اللتين شكلتهما حكومة إسرائيل لبحث تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بعد حرب حزيران 1967. لقد أصبح التصريح بمثل هذا الأمر من العاديات لدى المسؤولين في إسرائيل والولايات المتحدة. والردود على تلك التصريحات بمستواها الطبيعي منذ سنين أيضاً، سبق أن ذكرتها، أي البيانات، أمّا داخل فلسطين، فتصدٍّ ومواجهة، متلازمان مع القتل.
وبعد أيام من استئناف الحرب من قبل إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ليس هناك ردّ فعّال، والاستهدافات الإسرائيلية تبدو فادحة، تقتل المدنيين، وهذا عهدها وعهدنا بها، كما إنها تقتل الجسم الحكومي الذي تصفه بأنه تابع لـ«حماس»، في رسالة مفادها قطع الطريق على أي احتمال لأن تكون «حماس» في إدارة غزة مستقبلاً. وهذا فقط مرتبط في حال الإخفاق بتهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة.
وهل سيتم الاكتفاء بغزة؟ العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، منذ 21 كانون الثاني الماضي، تشي بما هو أسوأ بكثير. نتائج العدوان في شمال الضفة، مشابهة إلى حد ما بإبادة غزة، فسكان ثلاثة مخيمات على الأقل، أُخرجوا من ديارهم، وهي مخيم جنين وطولكرم ونور شمس في طولكرم، وهذه المخيمات، تتعرض للهدم، وجرف شوارعها، وبحسب بلدية جنين، فإن الاحتلال جرف 100% من شوارع المخيم وقرابة 80% من شوارع المدينة، فيما تم تهجير سكان 3200 منزل من المخيم.
هذ العدوان الإسرائيلي على شمال الضفة الغربية، المسمى «السور الحديدي»، مستمر كما يبدو ليطال مخيمات الضفة كافة، والرد عليه يبدو محدوداً جداً، وأسباب ذلك متعددة، منها ضعف الإمكانات المقاومة، على الأقل هذا الواضح واقعاً. كما إن هناك تقاعساً شعبياً عاماً، فضلاً عن العمالة التي لم تعد تُخجل أصحابها، تحديداً إن كانوا في مواقع مسؤولة.
ليس في الأفق القريب ما يخرج من اليأس، سوى تاريخ الشعوب في التحرر من الاستعمار، وذلك بالبحث عمّا يمكن فعله لمواجهة المد والإنجاز الإسرائيلي، في فلسطين وخارجها، وإلا فالعاقبة كارثية وغير مبشرة بخير إطلاقاً.
وكونه لا بد من ختام، كختام للمقتلة التي تحدث يومياً، فهناك ما يجب قوله، إن من يظن من دول المنطقة بأن الأمور ستنتهي عند حدود فلسطين، هو واهم ولا يعرف ولم يقرأ التاريخ القريب على الأقل، التاريخ ما بعد احتلال فلسطين وقيام إسرائيل، فالفرق في موازين القوى أدى إلى هزيمة نكراء لكل العرب والمسلمين، وأدى بعد سنوات إلى احتلال بقية فلسطين، وأجزاء عربية أخرى بعضها محتل حتى اليوم. موازين القوى ازداد فارقها بين إسرائيل والدول العربية، لمصلحة إسرائيل، لذا فالقادم أخطر، إذا ما نجح الاستعمار بتحقيق ما يريد في الباقي من فلسطين ووجودها.