حصرية السلاح أم حق المقاومة
هشام صفي الدين – وما يسطرون|
“خلّي السلاح صاحي صاحي صاحي…
ينادي يا ثوّار عدوّنا غدّار”
في زمن تحرّري غابر وجميل، أنشد العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ أغنية «خلّي السلاح صاحي» فأطرب الجماهير واستنهض الشعب. أمّا اليوم، وفي لبنان، فقد نصحو على أغنية جديدة بعنوان «خلّي السلاح حصري». تتكرّر لازمة حصرية السلاح صباحاً ومساء حتّى تكاد تظنّ أنها عصا السيادة السحرية في دولة أكل عليها دهر من التبعيّة والتفكّك وشرب. وتشترك القوى المتضرّرة من هذا الخطاب، أي قوى المقاومة، في تطويب هذا الشعار عبر منح البيان الوزاري ثقتها. قد يقول قائل إنّ للسياسة المحلية حساباتها. لا بأس. لكنها لا تنفي ضرورة العمل على التصدّي لهذه المقولة نظراً إلى ما قد تبيّته من نوايا تطبيعية أو فتنويّة أو إجهاضية لمشروع المقاومة كعقيدة ونهج لا يمكن اختصارهما بحزب أو تيار مهما علا شأنه في تاريخ النضال ضد المشروع الصهيوني.
تكمن المشكلة في الطرح نفسه. المسألة ليست حصرية السلاح من عدمها، بل حقّ المقاومة من عدمه. المقاومة ظاهرة إنسانية ملازمة للتاريخ البشري وُجدت أينما وُجد ظلم أو ضيم. أمّا حصرية السلاح، فهي مفهوم مستجد مع نشوء الدولة-الأمّة، وهو لم يلغِ يوماً حق المقاومة.
بالمبدأ، المقاومة المسلحة لأي احتلال أو استعمار حق أصيل غير قابل للنقض. على الصعيد الدولي، حقّ المقاومة المسلّحة منصوص عليه، دون لبس، في قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة رقم 45/ 130. يؤكّد القرار «من جديد شرعية كفاح الشعوب في سبيل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرّر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بجميع الوسائل المتاحة، بما فيها الكفاح المسلّح». يزخر تاريخ مقاومات الاحتلال، من الجزائر إلى جنوب أفريقيا إلى فييتنام إلى فرنسا (وهي دولة عظمى) إلى لبنان، بكفاح مسلّح لم يكن يوماً محصوراً بيد الدولة أو حتّى بفصيل واحد.
أمّا حصريّة سلاح الدولة، فهي بالأساس صيغة نظرية مرتبطة باحتكار الدولة لآليات العنف في ما يخص حفظ الأمن الداخلي للوطن والمواطن أو هيمنة طبقة حاكمة على عموم المجتمع. ويعكس اتفاق الطائف، وهو مرجعية حكومة سلام، هذا البُعد الأمني والداخلي لحصريّة السلاح حين ينصّ على أن بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية يتمثّل «بالدرجة الأولى بقوى الأمن الداخلي» وليس الجيش. ولست أدري ما هو السند القانوني الدولي الذي يرتكز إليه أصحاب السيادة لتثبيت حصريّة السلاح كشرط لمحاربة الاحتلال. فالبند 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي أشار إليه سلام في مناقشات جلسة الثقة يمنح الدولة حق الدفاع عن نفسها في حال تعرّضت لعدوان مسلّح، وهو غير منحها حق احتكار السلاح المقاوم.
هي بالأساس صيغة نظرية مرتبطة باحتكار الدولة لآليات العنف في ما يخص حفظ الأمن الداخلي للوطن والمواطن أو هيمنة طبقة حاكمة على عموم المجتمع. يعكس اتفاق الطائف، وهو مرجعية حكومة سلام، هذا البُعد
ضف على ذلك أن مبدأ حصريّة السلاح في عُرف منطق الدولة هو حق وليس واجباً. وعدم حصريّة السلاح موجود في دول تتمتّع بسيادة لا لبس فيها ولديها أسلحة نووية مثل الولايات المتحدة. إسرائيل نفسها تسلّح المستوطنين في الضفة وحتّى داخل الخط الأزرق. في المقابل، هناك سند قانوني ومبدأ وطني وإنساني لا لبس فيه لحقّ المقاومة المسلّحة ضد أي احتلال. بكلامٍ آخر، إنّ شرعيّة السلاح تنبع، في المقام الأخير، من أحقيّة القضية التي يُرفع من أجلها وهي تحرير الأرض والدفاع عن أهلها وحقّهم بالعيش فيها بأمانة وكرامة.
هذا في المبدأ. أمّا في الجدوى، فهذه حكايةٌ يطول شرحها. لكن عملية حسابية سريعة في حالة لبنان تفيدنا أن المقاومة، وبكلّ أطيافها، حرّرت الجنوب بعد 22 سنة من الاحتلال وحمته عبر قواها الردعية لـ24 سنة أخرى. قرابة نصف قرن من التحرير والحماية. وإن كان هناك من انتكاسة، وهي وقعت، فهي نسبيّة وفي سياق زمن الانتصارات وما وضعه من توقّعات، ولكنها أقلّ بأشواط عمّا لم يُنجز على مرّ عمر لبنان منذ استقلاله على يد القوى المحسوبة على الدولة. فرغم بسالة عدد من عناصره، لم يردع الجيشُ اللبناني العدوانَ يوماً. وفي بعض المراحل التاريخية، انشقّت مجموعات تعاملت مع الاحتلال سهّلت مهمّته وأسهمت في تقسيم لبنان.
تتكرّر مشاهد عجز الجيش اللبناني اليوم. فبعد أكثر من شهرين من خروقات مستمرّة أثناء مهلة الستين يوماً، تلاها استمراره في احتلال خمسة مواقع، لم يقم الجيش بأي عملية أو إجراء عسكري لتحرير الأرض ولبثّ الثقة بقدراته. وقد انتهت مهلة الاتفاق وبقيت إسرائيل في مواقع عدة، في خرق فاضح وواضح، دون أي تحرّك للجيش. باختصار، أي تآكل لقوّة المقاومة الردعية – التي صمدت لأسابيع ومنعت اجتياحاً كاسحاً، يقابلها غيابٌ مطلق لقوّة ردع الجيش. وبالتالي، حصر السلاح قبل التسلّح النوعي اللازم هو وصفة اجتياح رابع وخامس. وما يحصل في سوريا خير دليل.
مقابل تقاعس الجيش أو عجزه، وانكفاء المقاومة المسلّحة أو ضعفها، أسهمت المقاومة الشعبية، المتمثّلة في عودة الأهالي، بشكل مباشر وفعّال في تسريع، إن لم يكن فرض، عملية الانسحاب من القرى الأمامية. وما تزال المقاومة المسلّحة تلقى تأييداً شعبياً واسعاً في المناطق الأكثر تضرّراً. إنّ المقاومة الشعبية التي شهدناها في عودة الأهالي إلى قراهم في الجنوب، وبالأخص القرى الأمامية، وما سبقها من مقاومة عسكرية أوقفت الغزو، لا تتناقض، بل تتكامل، مع دور الجيش والعمل الديبلوماسي وخلافهما من الأدوات. هذا يثبت، من جديد، راهنية المعادلة الذهبية: «جيش شعب مقاومة».