في مشهدية تشييع السيد
موسى السادة – وما يسطرون|
«كما إن الصهيونية لا تنحصر في إسرائيل فقط، فإن المقاومة أيضاً ليس لها مكان فقط في فلسطين، وقد كان لهذا الامتداد الجغرافي والسياسي اسم لعقود: حسن نصر الله» ــــــ الصحافي الكولومبي فيكتور دي كوريّا-لوغو، بعد حضوره التشييع
من باب مراجعة المرحلة الماضية، فقد اتخذت كتاباتنا حول المقاومة طابعاً أدبياً وملحمياً مفرطاً، ضمر فيه التحليل وأدواته بشكل كارثي. وإن كان جوهر النقاش في دراسات الأدب، إن كان الأدب صانعاً للواقع أو عاكساً له.
وأدبنا السياسي هو مزيج بين الاثنين: لا إفراط في محاولة صنع جمالية للواقع، ولا تفريط في عكس واقعنا بموضوعية كما هو. الأمر معقد، لعواطفنا نحن، وأيضاً لأن واقعنا، وبموضوعية، غنيّ بالملحمية والحكايات التي تخال أنها من الخرافة وهي صدق، بتعبير أحمد شوقي.
إنما في الأخير، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، علينا بوصفة تكون فيها نسبة التحليل وقراءة الواقع أكثر من كتابة الملحميّات التي سرعان ما تتدهور للابتذال والتطبيل والكسل المعرفي الخطير على مسار أي حركة تحرّر.
هنالك منظوران لقراءة المشهد، من الأسفل إلى الأعلى لمن حضره على الأرض، ولمن في الأعلى، والقراءة التالية من الأعلى. وتحديداً في تموضع التشييع بين المصفوفة المعقدة للهويات والأيديولوجيات والحدود وما هو عابر للحدود، وهنا يمكن الحسم أنه وبينما يرفع النعش فوق مستوى الرؤوس، كان التموضع السياسي للسيد حيث ينتمي، عنفوان الشاب المعمّم الوسيم المتحمس والمفعم بالثورية في الثمانينيات ذاته. كان النعش يبحر في ذلك التسامي فوق أي كيانية فكرية وهوياتية، كان أشبه بذوبان صوفي في مطلق ذلك المفهوم الأجمل بشرياً والأكثر إنسانية: المقاومة ومعاداة الاستعمار، ومن أجل أنبل شواهدها – فلسطين.
كان السيّد هنا في أوج قوته ورمزيته السياسية، في «أبلغ خطاباته» كما عبّر صديق، فقوّة السيّد وحقّه في هذا التموضع، الأممي العربي المسلم. وهنا درس سياسي لأي تنظير لقطرية وحصره وطنياً أو مذهبياً، أو تحويله إلى مصدر لتسجيل النقاط لتلك الذات الصغيرة أو الأخرى. لا تهجّر شخصية تاريخية عظيمة كالسيد من هوية، بل هو من يهاجَرُ إليه، وبأمثاله تبنى الهويات السياسية والأيديولوجية، حيث يخضع له كحالة عابرة للحدود ولا يخضع للحدود الاستعمارية العربية.
شاهِدُ ذلك أن كان نعشه الكريم فيصلاً بين استقطابات عربية، فمن ناحية عانت الهويات الطائفية المستنفرة من أزمة تساميه عن استحضاره في ملعبها، فكانت الحالة الطائفية على هامش المشهدية، في الزاوية تنبح فلا تسمع والنعش يسير.
الآخر، مثّل نعش السيد الخطَّ الفاصل للتاريخ العربي الحديث وحاضره، للانقسام الكبير، للنظام العربي الرسمي ووافديه الجدد، لكل فكرة التطبيع ودمج «إسرائيل» والتسوية والاستسلام في الوطن العربي، كان الحالة المعيارية الخالصة للمعسكرين، سياسياً وعاطفياً ولكل العرب. كأن المشهدية عبارة عن الوادي والفلق الكبير بين الكتلتين، ما بين الخضوع لإسرائيل وما بين الوقوف ضدها ومقاومتها، كبرهان لحقيقة معنى النقش على شاهد قبره «الرمز العربي الإسلامي الكبير».
لم يكن المشهد قوة حزب في عقار لبنان،
بل كان صورة قوة
أمّة ترنو للتحرّر، وهذا تحديداً ما يمتزج فيه عكس الواقع مع العمل على صنعه
كان ما تقدّم انعكاساً لواقع المشهدية، إنما السؤال سؤال كيفية صناعتنا لواقعنا القادم، وهو ما لا يكون إلا عبر المراكمة والبناء على هذا التموضع والرمزية للسيد الشهيد، أن يكون إماماً لها. فما علينا اليوم العمل عليه، ونحن في المرحلة المقبلة أمام صراع مرير وصعب، هو تبنّي هذا التسامي المعلّق فوق الخريطة العربية والبناء عليه كبرنامج عمل لأيديولوجيتنا وهويتنا السياسيتين الواسعتين بمنتج جديد ببذرة «طوفان الأقصى».
شكّلت لحظة جنازة السيد الشكل السياسي لما نتخيّل من شكل المشرق والوطن العربي عليه، من بنية سياسية واجتماعية وهوياتية متنوعة المشارب إنما موحدة بمقاومة في وجه الاستعماري الصهيوني والأميركي، أن يكون عرب هذا الزمان والجغرافيا برمزية كنصرالله، بمكانتنا الأساسية بين أمم الجنوب، كان قلب جنوب العالم تحت ظل رمز قيادي أثناء التشييع من جديد في بلاد عرب لأول مرة منذ ناصر.
إنّ هذه الإزاحة العالمية نحو بلاد العرب لم تكن لولا فلسطين، لولا مفاعل التخصيب التاريخي الكبير الذي أشعله السابع من أكتوبر لكل المستضعفين حول العالم، والذي بدأ معه مسار طويل شاق لانتشال الجماهير العربية من عقود الشرخ الأهلي والتقسيم.
تزامنت هذه الحالة المتسامية لمشهدية أبي هادي مع النقيض الكلّي، المسار التاريخي الآخر الموازي للعرب، ولشكل الوطن العربي. احتفال المملكة السعودية بما تسميه يوم التأسيس، ومن ناحية دراسة تاريخية، يمثل هذا الاحتفال أوج ركاكة سردية وطنية قطرية عربية وأكثرها بذخاً وقوةَ اصطناع، كان الاحتفال بالعقار الاستعماري المحمي أميركياً والمسمى زوراً وطناً، وسط أحد أكثر أنماط الترف والاستهلاك على مستوى العالم، كان ذلك وجه النظام الرسمي العربي بملوكه ورؤسائه ونخبه ومثقفيه.
تمثل المملكة اليوم عنوان مركزية الرأسمال العربي، مهوى أفئدة السياح والمستثمرين والمستهلكين من كل العالم، بوابة دمج لقيطة الغرب والرأسمالية «إسرائيل»، شكلاً آخر للوطن العربي، وإن لم يكن الصراع بين الشكلين هو مفهوم الثورة العربية فما هو؟ وأي مستقبل لأبنائنا خارج هذا السؤال؟ وما الفرق بيننا وبين أبناء الأمراء إن كنّا نرى العالم خلال عقار بعلم أو خيال طائفة؟
يخبرنا السيّد في خطابه الأخير قبل الشهادة، وهو شهيد الإصرار على وحدة المصير العربي، ثم كرّره لنا في مشهدية تشييعه دونما أن ينطق رسالة الوحدة ذاتها. لم يكن المشهد قوة حزب في عقار لبنان، بل كان صورة قوة أمّة ترنو للتحرّر، وهذا تحديداً ما يمتزج فيه عكس الواقع مع العمل على صنعه.
فلا قوة تصارع الصهيونية ومن خلفها ملوك وأمراء العرب، لا مشروع لتحرير فلسطين، دونما الممارسة السياسية العربية المتعففة عن ملعب الهويات الطائفية والحدود الوطنية، أن لا سبيل لنا اليوم سوى المراجعة، الصقل والنقد والتطوّر والتعلّم من الأخطاء، وما دون ذلك تحجيم وتفريط بهذه المشهدية، وتخلٍّ عن أمانة وواجب حفظ معنى ومضمون أنّ نقش «سيد شهداء الأمّة» على قبره الجليل مسؤولية علينا حملها جميعاً إلى آخر العمر.