زوابع ترامب تعصف بالعالم: غزة حجر الزاوية

سجود عوايص – وما يسطرون|

منهمكاً في شيء ما، وعلى عجالة متهوّرة، يلقي ترامب بقنبلةٍ جديدة كل يوم من دون أن يترك مجالاً لوسائل الإعلام لتذوّق ما يقدّمه أو التعمّق في ما وراءه. وبينما يوقّع أوراق أوامره التنفيذية أو يستقبل زائراً ما للبيت الأبيض، يرمي بدهاء كاهنٍ وعقليّة تاجر بصيدٍ جديدٍ يجعله الخبر الأوّل والأهمّ من دون منازع منذ العشرين من كانون الثاني المتصرم.

هذا هو نجم البيت الأبيض الذي لن تكفيه وكالة إعلامية بحالها لتتبّع ما يصدر عنه من قرارات وإملاءات ومشاريع، تطال كل شيء، بدءاً من قشّة العصائر الورقية التي روّجت لها إدارة بايدن باعتبارها صديقةً للبيئة، وفرضت قيوداً على استخدامها تهدف للقضاء عليها بحلول عام 2035، ليعود ترامب ويعلن «عائدون إلى البلاستيك»، مروراً بانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وإطلاقه جهود استخراج الوقود الأحفوري، ووقف تمويل محطات شحن السيارات الكهربائية.

ومن بعثرة المناخ والبيئة إلى العبث بالصحة، حيث يعود ترامب ليُكمل ثأراً قديماً له مع منظمة الصحة العالمية كان قد بدأه مع موجة انتشار «كوفيد 19» الذي صاحب ولايته الأولى، ليُجهز على المنظمة بتوقيعه أمراً تنفيذياً يقضي بانسحاب الولايات المتحدة منها.

يُكمل ترامب جهوده في تأسيس نظامٍ عالمي على مقاسٍ ليبرالي يتناسب مع عقليته؛ فينسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في الرابع من شباط الجاري، بحجة تبنّيه سياسة منحازة ضد «إسرائيل»، فيما يمكن اعتباره ضربة استباقية لدور الولايات المتحدة في تبرير الانتهاكات الحقوقية والإنسانية التي مارستها «إسرائيل» والتغطية عليها. ثم وفي الملف القانوني يستأنف وقف أي تمويل موجّه إلى وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، مستخدماً الحجة «الإسرائيلية» نفسها الخاصة بارتباط الوكالة بحركة حماس. ثم يهاجم العدالة الدولية، بفرضه عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بدءاً من أعضائها حتى أقرب أفراد عائلاتهم، مروراً بكل من قدّم مساعدة في التحقيقات الخاصة بالحرب «الإسرائيلية» على قطاع غزة، مواصلاً سعيه في تكريس نفسه سيّداً للعالم يحكم في ما يراه وفقاً لما يريد.

بعض ما يلوّح به أدواتٌ عسكرية، وأخرى اقتصادية، وتاريخٌ كامن من الاتفاقيات التي مكّنت الولايات المتحدة من أن تضع قدماً لها وأذناً في كل زاوية، ومن دون كثير حاجةٍ إلى استخدامها يواصل ترامب التلويح بها كرداءٍ أحمر في وجه العالم، فيسقط كثيرون صرعى خوفاً

ينسحب ذلك أيضاً على مهاجمته لجنوب أفريقيا، بتوقيعه أمراً تنفيذياً بوقف المساعدات المالية بدعوى «أفعالها الفظيعة» ومصادرتها لأراضٍ زراعية تابعة لأقليات عرقية، واتخاذها مواقف عدوانية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، باتهامها «إسرائيل» وليس حماس بارتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية.

وبينما يبدو من المثير للسخرية أن يهاجم جنوب أفريقيا على أفعالها الفظيعة، ثم يأتي بمثلها بحق المهاجرين إلى بلده، وبحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية التي يتحمّس لضمها إلى «إسرائيل»، وبحق أوكرانيا التي لا يُمانع في أن تغدو روسية يوماً ما، ما لم تقدّم له ما قدّمه العرب من مليارات الطاعة وخنوع الرضى… يمضي الرجل غير مكترث لما يحدثه خلفه من فوضى وضجيج يتجاوز أثر الفراشة إلى لطمة الفيل، والإملاء المبطن إلى الفرض الوقح.

ويبدأ مسيرته بجملة مشاريع خاصة بالفلسطينيين في قطاع غزة -ستطال ولا ريب فلسطينيي الضفة- يطرحها بشكل أكثر تحديثاً كل يوم، وبمزيد من التفاصيل التي تنفي ما قبلها أو تؤكده، وتشذّ عن قواعد المنطق والعرف والحق والقانون والعدالة التي قفز عنها سابقاً، ثم يغلّف مشاريعه التجارية بصبغة إنسانية، ويضيف لها المزيد من الاتجاهات والمساحات والدول، مؤكداً في كل مرة أنه يملك من أدوات الفعل ما يمكّنه من تحقيق مآربه دون كثير عناءٍ أو اعتراض.

وهو في كل مساعيه الفجة يستند على شبكة أدوات ومنظومة حماية مقابل الولاء ووسائل تتيح له دون غيره تنفيذ ما يراه بصفته رئيساً لدولة عظمى تمتلك الكثير من مقومات التفوق وتضع يدها في حلق كثيرٍ آخر من الدول والأنظمة والجماعات التي تسعى إلى التواؤم معه، حبّاً بعنتريّاته أو أملاً في أن تمرّ سنواته الأربع كمرّ السحاب، من ون كارثة نووية أو حربٍ عالمية ثالثة يشعلها، بينما يعبث لاهياً بثقاب العالم وباروده. بعض ما يلوّح به أدواتٌ عسكرية، وأخرى اقتصادية، وتاريخٌ كامن من الاتفاقيات التي مكّنت الولايات المتحدة من أن تضع قدماً لها وأذناً في كل زاوية، ومن دون كثير حاجةٍ لاستخدامها يواصل ترامب التلويح بها كرداءٍ أحمر في وجه العالم، فيسقط كثيرون صرعى خوفاً من رجلٍ لم يمسك لسانه فكيف له أن يمسك نيرانه!

يُضاف إلى كل ما سبق «وقاحة ترامب»، الكامنة في إدراكه الفعلي والحقيقي لأذرع القدرة الأميركية على التغيير، والتي كثيراً ما تجاهلها رؤساء الولايات المتحدة السابقون، مفضّلين تحقيق تغييراتهم بقفازات حريرية وبخطواتٍ ناعمة لا تشي بوجهتها الحقيقية، ولا تخدش الصورة الديموقراطية الأنيقة للولايات المتحدة ومَن يدور في فلكها.
مع هذه الزوابع والتهديدات والتغييرات الجذرية التي يبدأها ترامب من مكتبه لتطال العالم بأسره، تبدو غزة بالنسبة إليه النموذج الأكثر تصميماً وتحدّياً. يرى فيها «الحصان الجامح» الذي يستلزم ترويضاً وتأديباً لضمان سيطرة مطلقة على العالم بأطرافه المترامية، فيطلق كل ما في جعبته من عصي وجزر، وتهديدٍ ووعيد، واستمالات ومشاريع، ليثبت أنه مختلفٌ وكُلّيّ القدرة وأقوى من أن يصطدم بعقبة أو تُطيح به عثرة.

ورغم وجاهة التهديد وعِظم المواجهة، لا يُدرك ترامب -أو لا يريد أن يدرك- أن تهديده قد فات، ووعيده قد مضى؛ فما واجهه الفلسطينيون في غزة طوال 15 شهراً أكبر من أي جحيمٍ يُهدّد به، وما خبروه من تخاذل العرب وتآمرهم ومن ويلات النار والبرد والمرض والجوع والقتل، ومن تقاعس القانون وصَمَم العدالة الدولية، وما عرفته أرضهم منذ أكثر من 70 عاماً من مخططات ومشاريع، يجعل سنواته الأربع القادمة بالنسبة إليهم مرحلةً أخرى في المواجهة والتحدّي، أكثر قسوة لا ريب، لكنها لن تكون الأخيرة إلا إذا حُسمت لمصلحة وجودهم وحريتهم.

قد يعجبك ايضا