إسرائيل وسياسة التضليل والخداع حرب الأيام الستة نموذجًا

د. أمين محمود – وما يسطرون|

لقد أدى فتح الأرشيف الإسرائيلي أمام الباحثين بعد ثلاثين عامًا إلى كشف المزيد من الغموض الذي اكتنف العديد من مجريات الأحداث التي شهدتها منطقتنا العربية، والتي تعرضت خلالها إلى ضربات متلاحقة من العدو الصهيوني. كان من أهمها تلك الضربة الكارثية التي تعرضت لها عام 1967 جراء حرب الأيام الستة، التي لا تزال بصماتها عالقة في الأذهان حتى يومنا الراهن، والتي أدت إلى احتلال إسرائيل المزيد من الأراضي العربية بما يعادل ثلاثة أضعاف المساحة التي سبق أن احتلتها عام 1948، وشملت ما تبقى من الأرض الفلسطينية، بما فيها القدس القديمة وقطاع غزة، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السورية.

ونظرًا لاستحالة الوصول السهل إلى الوثائق الرسمية في عالمنا العربي، فإن كتابة التاريخ العربي الحديث، ولا سيما المتعلق بمحطاته المفصلية كحروب 1948 و1967 و1973، أصبحت في غالبيتها من اختصاص المؤرخين الأجانب، ومعظمهم مؤرخون إسرائيليون يعتمدون في كتاباتهم إما على الوثائق المتوفرة لديهم سواء في أرشيفهم الرسمي أو أرشيف الدول الغربية، وخاصة الأرشيفين الإنجليزي والأمريكي، حيث تلتزم هذه الدول عادةً برفع السرية عن وثائقها بعد مرور 25-30 سنة. في المقابل، تظل الوثائق الرسمية في عالمنا العربي حبيسة في مؤسساتها، بعيدة عن متناول الباحثين.

وهذا ما حدث بالنسبة لحرب الأيام الستة، فالسردية العربية لا تزال تعاني من غياب العديد من المعلومات التي توثق لمجريات أحداث تلك الحرب، وخاصة فيما يتعلق بالظروف التي مهدت لقيامها. في حين نجد إسرائيل تبادر إلى تقديم سرديتها معتمدة على وثائقها الرسمية المتاحة بسهولة لكل من يطلبها من الباحثين.

ومن بين أغرب الوثائق الإسرائيلية التي تم الكشف عنها مؤخرًا، وثيقة تشير إلى أن إسرائيل أعلنت سرًا التعبئة العامة، ودعت الوحدات الاحتياطية للالتحاق بالجيش، وقامت بتحريك ألوية عسكرية، تتراوح بين 11-13 لواء، تجاه الحدود السورية، إضافة إلى عدد مماثل من الألوية تجاه صحراء النقب. وقد تبين لاحقًا أن هذه المعلومات كانت مضللة، ولا صحة لها، بل كانت مجرد خدعة من صنع الموساد الإسرائيلي، تهدف إلى توريط الجيشين المصري والسوري لاتخاذ إجراءات عسكرية مضادة، يلتقطها القادة العسكريون الإسرائيليون ويتذرعون بها لتبرير ضربتهم العسكرية المباغتة بحجة أنها ضربة استباقية لهجوم عربي كان يجري الإعداد له. وهذا ما حدث تمامًا عام 1967، إلا أنه تبين لاحقًا أن الإسرائيليين أنفسهم كانوا يخططون ويستعدون لمثل هذه الضربة منذ أمد بعيد، وذلك لتحقيق أطماعهم التوسعية باحتلال المزيد من الأراضي العربية.

ومما يؤكد ذلك، أنه لم تمض فترة طويلة بعد نهاية الحرب حتى بدأت التصريحات والاعترافات تتوالى من القادة العسكريين الإسرائيليين، حيث كشفوا عن الظروف الخفية التي أدت إلى قيام هذه الحرب. فقد صرح مردخاي هود، الذي كان حينها قائدًا لسلاح الجو، قائلًا: “خططنا لمدة ستة عشر عامًا لما تم خلال هذه الحرب. كنا نعيش مع هذا المخطط، ننام معه، ونأكل معه، ولم نتوقف عن التخطيط له”. وتبعه أيضًا حاييم هرتزوغ، قائد الاستخبارات العسكرية آنذاك، إذ قال: “مقولة وجود خطر كان يهدد وجودنا مقولة لا أساس لها من الصحة، ولم تأخذها القيادة العامة للجيش على محمل الجد”. أما حاييم بارليف، قائد الأركان الذي خلف رابين، فقد قال: “لم نكن مهددين أبدًا عشية حرب الأيام الستة، ولم نفكر أبدًا بهذا الاحتمال”.

ويعزو المؤرخ الإسرائيلي لارون من جانبه هذه الضربة إلى ما يُعرف بـ”العقيدة الهجومية” التي يتبناها الجيش الإسرائيلي، والتي تهدف إلى استغلال كل الفرص المواتية والمتاحة له من أجل توسيع حدود دولته. فنجد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، يصرح علنًا بأن “إسرائيل مجرد دولة صغيرة محاطة بجيران أقوياء يضمرون لها العداء”، غير أنه في حقيقة الأمر كان، خلف الأبواب المغلقة، ينظر إلى الشرق الأوسط على أنه “منطقة مترامية الأطراف مليئة بالفرص السانحة”، وما على إسرائيل إلا أن تستغل تفوقها العسكري من أجل توسيع حدودها واكتساب العمق الاستراتيجي الذي هي، في نظره، بأمسّ الحاجة إليه، بدلًا من الاكتفاء بالحدود “الهشة” التي كرستها الهدنة عام 1949. كما أن “الحدود الموروثة عن اتفاق الهدنة”، كما وصفها بن غوريون، “لا يمكن الاستمرار بتحملها، كونها تشكل تهديدًا كبيرًا وخطورة شديدة على وجود الدولة الإسرائيلية”.

وقد لجأت إسرائيل أيضًا إلى اتباع سياسة المكر والخديعة، إذ دأب جهازها الاستخباري “الموساد” على استخدام هذه السياسة في نشر المعلومات المضللة التي ساهمت في خداع الجانب العربي حيال خطط الحرب الإسرائيلية ونشاطاتها العسكرية على الأرض، مستخدمة في ذلك العديد من الوسائل، وخاصة المجندين من الجواسيس والعملاء المزدوجين.

وكان من أبرز هؤلاء عميل يُدعى فيكتور جريفسكي، وهو صحفي يهودي هاجر إلى إسرائيل من بولندا خوفًا من كشف أمره على يد المخابرات الشيوعية، خاصة الـ”كي جي بي”، بعد أن تمكن من الحصول على الخطاب الشهير للزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف الذي ألقاه في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في موسكو عام 1956. وقام بتسليمه لرجل الموساد في السفارة الإسرائيلية في وارسو، والذي سلمه بدوره للمخابرات المركزية الأمريكية.

ونظرًا للمصداقية الكبيرة التي أصبح يتمتع بها جريفسكي لدى الجانب السوفييتي، لجأ الإسرائيليون إلى استغلالها وكلفوه بمهمة تمرير معلومة مضللة للسوفييت، تفيد بأن إسرائيل أعلنت التعبئة العامة لقواتها المسلحة استعدادًا لتوجيه ضربة عسكرية مفاجئة لسوريا. وقد تلقى الاتحاد السوفييتي هذه المعلومات، ونقلها إلى السوريين والمصريين كحقائق مسلم بها. وأدت هذه المعلومات إلى إثارة حالة من القلق والفوضى لدى السوريين، مما اضطر القيادة المصرية إلى تفعيل معاهدة الدفاع المشترك بينهم وبين السوريين، واتخاذ إجراءات عسكرية مضادة.

إلا أنه، وعلى عكس ما توقع المصريون، فإن تلك الإجراءات لم تردع الإسرائيليين، بل استغلوها كذريعة لتبرير الحرب التي كانوا يخططون لها منذ زمن طويل، وهي حرب الأيام الستة.

لقد شكلت حملات الخداع والتضليل الممنهجة أحد أهم المرتكزات التي استخدمتها إسرائيل لتبرير جرائمها وطموحاتها التوسعية. فعن طريق سطوتها على وسائل الإعلام العالمية واستخدامها جنود الخفاء من مروجي الإشاعات الكاذبة والجواسيس والعملاء المزدوجين، تمكنت من تضليل الحقيقة أمام الجيوش العربية، كما حدث حين أشارت التقارير إلى أنها على وشك القيام باجتياح بري لسوريا، وذلك بهدف استدراج القيادة العسكرية العربية للوقوع في الفخ الإسرائيلي.

ولذا، فإنه بات من الأهمية بمكان اتخاذ المزيد من الحيطة والحذر تجاه هذه الأساليب من المكر والخداع التي دأبت إسرائيل على ممارستها عبر بث المعلومات المضللة، والتي قد تقود الجانب العربي لاتخاذ ردود أفعال قد لا تكون في مصلحته، كما حدث في حرب عام 1967.

قد يعجبك ايضا