عن التّهجير، ولكن…

محمد خالد – وما يسطرون|

يسبقنا أهل غزّة وجنوب لبنان دائماً بخطوة، اختاروا القتال أولاً، والعودة ثانياً، في رفض استباقي للتّهجير، ونحن ممتنّون لهم. لسان حالي ينطق بما يقوله كارلوس ليسكانو في كتاب «أنا والآخر»: «إنّ مجرّد معرفتي أن هؤلاء الرجال والنّساء موجودون في العالم، وإدراكي لمدى كرمهم وموهبتهم وبأسهم وقدرتهم على المقاومة، قد منحني نظرة إلى الإنسان لم أكن لأمتلكها، أو لشقّ عليّ امتلاكها… أعجبتني قوّتهم في أن يبدأوا الحياة من جديد، حين يكون الطّريق الأسهل هو الموت».

لا يجب الحديث عن التّهجير في سياق الواقع الراهن فقط، بل لا يجب النظر إليه كشطحة ترامبيّة بمعزل عن سياقات الصراع مع منظومة النّهب والهيمنة، وذراعها الصهيونيّة في بلادنا؛ فالتّهجير هو النّقيض الكامل لجوهر القضيّة العربيّة الفلسطينيّة في ترجمتها العمليّة (أي العودة كنتيجة)، لأنها محكومة عمليّاً بمتتالية تبدأ بالعمل لتحقيق هدف إسقاط منظومة الهيمنة، أي هزيمة المشروع الصهيونيّ، ثم تحصيل نتائج كتحرير الأرض، والاستقلالية في القرار، وصولاً إلى العودة.

لهذا، تنطلق الممارسة العمليّة للصهيونيّة العالميّة في احتلال فلسطين من مفهوم الإبادة، الذي يحمل القتل صورة من صوره، ولكن معناه الدلالي (مفهوم الإبادة) يرتبط بإفراغ الأرض من ساكنيها، وهو ما يعرّف في القانون على أنه تطهير عرقيّ، أي إن التّهجير من أشكال الإبادة. الممارسة العمليّة بالطبع تجد لها أساساً أيديولوجيّاً في الصهيونيّة بصيغتها اليهوديّة، وحتى في صيغتها الأولى الكالفينيّة/ التدبيريّة، إذ تشكّل خرافة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» عروتها الوثقى.

على هذا الأساس، لم يأتِ ترامب بأمر جديد عندما طرح موضوع التهجير قبل أيام، ثم أعاد أخيراً مع الصهاينة الكلام عنه بصيغة ملطّفة، أنّه هجرة طوعيّة بدلاً من التّهجير كإجراء قسري يخالف إرادة من يقع الفعل عليه، فالمسألة ضمن سياق إستراتيجيّ هي الهدف النهائي الذي يسعى الأميركيون في دولتهم العميقة ووكلاؤهم الصهاينة إلى تحقيقه، وبخطة يجري تسويقها كصفقة عقاريّة استثمارية لإعمار قطاع غزّة، خصوصاً بعد زيارة مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي ربط الإطار الزّمني لتنفيذ إعادة الإعمار بالتّهجير، وما تم الحديث عنه في الإعلام، عن «ريفييرا» جديدة قد يسمح لبعض الغزيين بالعمل فيها والسّكن في ناطحات سحاب، شريطة تخلّيهم عن حقّ العودة إلى الأراضي المحتلّة عام 1948.

فعليّاً، يبرز التّهجير بهذه الصّيغة كبديل لما عجز عنه العدو في الحرب وطموحاته في التوسّع الجغرافيّ، بما يتجاوز قطاع غزّة وصولاً إلى جنوب لبنان. وبعيداً من سذاجة الافتراض بقدرتهم القضاء على فصائل المقاومة، لم يفلح الصهاينة في خلق «حزام أمنيّ» شمال الأرض المحتلة في العمق اللبناني، ومثله الانسحاب من وسط غزّة في ما يسمّونه «محور نيتساريم»، واللذين وضعا كشرط لتحقيق أمرين: الأول، العودة إلى مستوطنات شمال فلسطين وغلاف غزّة، والثاني أن تكون الأحزمة الأمنيّة منطلقاً لعمليات توسّع واحتلال للأرض، وبالتالي تهجير أهلها. ومن هنا يأتي المشهد العظيم لعودة حواضن المقاومة إلى شمال القطاع وقرى الجنوب، في حجّ يعاند إرادة العالم، معطّلاً أهداف الحرب، ويعطي المعنى الحقيقي للمقاومة كحركات شعبيّة، لا «ميليشيات» كما يسمّيها من يدور في فلك العدو.

خيار الحرب، إذا كان متوقفّاً -حاليّاً- في غزّة وجنوب لبنان، إلا أنّه مستمر في الضفّة الغربيّة، التي ينظر الصهيونيّ إليها كمركز للتوسّع الجغرافي نحو ما يسميه «إسرائيل الكبرى»، فهناك الكتلة السكانيّة الأكبر للفلسطينيين، وأوهام «يهودا والسّامرة» التوراتيّة، وضرب للمخيمات بشكل خاص، لخنق كتائب المقاومة، ولإحكام السيطرة الأمنية على ما يسمى المناطق «أ» حسب اتفاقية أوسلو، وفصل مدن الضفة عن بعضها، مع حصار أمنيّ مطبق من السلطة، وحدود لا يمر السلاح خلالها مع الأردن؛ ما يشي بأن إعلان ضم الضفة للكيان ليس مستبعداً.

وهناك أخيراً القدس التي اعترف ترامب بها عاصمة أبديّة للكيان في مدة رئاسته الأولى، ولم يقم بايدن بعده بإبطال القرار، لكن ترامب دخل المدة الثانية له بخبرة أكبر ووعود تنحو باتجاه انكفاء داخلي وإعادة ترميم للدولة، أو بالأحرى مقارعة الدولة العميقة، «دولة الشّركات» مقابل بناء «دولة الأمّة»، وهو في ذلك يقتصّ من خصومه الذين عطّلوا طموحاته في المدة الأولى، ويستتبع هنا أن نتساءل: ما مدى جدّية الولايات المتّحدة في مشروع التّهجير؟

الوقائع والإجراءات الفعليّة هي المحدّد؛ يمارس ترامب السياسة بعقليّة التاجر، يطرح صفقة ما، ثم يبدأ في المساومة و«المفاصلة» بطريقة تلهي النّاس، فيما يقوم على أرض الواقع بإجراءات فعليّة في أماكن أخرى. أرسل مبعوثته أورتاغوس إلى لبنان بما مفاده أن الولايات المتحدة لا تريد رؤية حزب الله في الحكومة، وفي اليوم التالي تشكّلت الحكومة بخمسة مقاعد للثنائي.

التصريحات حول كندا، المكسيك، وبنما، تدخل في الباب ذاته، للتوصّل إلى تعرفة جمركيّة مناسبة، وعلى المنوال نفسه، لا تستقيم تصريحاته عن التّهجير مع تجفيف أذرع الهيمنة الناعمة للوكالة الأمريكية للتّنمية (USAID) والانسحاب العسكري الوشيك من سوريا. بل إن الصيغة التي تحدّث بها عن التّهجير ليست متوازنة، فقد بدأت بكلام عمومي عن «تطهير» لقطاع غزّة، ثم «نقل» للفلسطينيين إلى الأردن ومصر، ثم «إقامة دولة فلسطينيّة» في السّعودية؛ فحديث عن «ملكيّة» طويلة الأجل للقطاع، وأخيراً بمقترح «شراء وتملّك»! هذا لا يعني عدم جدّيته في ما يطرحه، فلو قدّر له الحصول على ما يعرضه دون معارضة ومقاومة لفعل، ولا يعني أيضاً أنه توقّف عن دعم الكيان الصّهيونيّ، فهو مستمر بطريقة الإمداد العسكري وصفقات السلاح، وأميركا جرّبت تقريباً كل شيء لدعم «إسرائيل» في خلال الحرب، ولم تصل إلى النتيجة المأمولة.

محصّلة الأمر، أن على الأنظمة الرسميّة تهيئة مناخ سياسي جديد لا تتعاطى فيه بخوف أو سذاجة مع مقترحات الإدارة الأميركيّة الحاليّة، وإن مرّ التّهجير فمن تقاعسها المعتاد طبعاً، من قبيل ما طرحته وسائل الإعلام الصهيونيّة عن مقترح صاغته سلطة أوسلو العميلة لاستقبال الغزيين في الضفّة ضمن مدينة جديدة غرب أريحا. أمّا النظامان الأردني والمصري، فبديا أكثر حزماً، لا حبّاً في الفلسطينيين أو المقاومة، ولكن لأن التهجير يشكّل زعزعة لاستقرارهما، ومع ذلك يستمرّان في التعاطي مع المسألة بوعي قُطرِيّ، هو العلّة والأساس في الاستفراد بأهل فلسطين، مترافق مع اتفاقات التّطبيع التي اعترفت بالعدو، أي إنها منحته الأرض، وأعطته ذريعة للتّهجير.

تفهم أنظمة دول الطّوق أنّ المقاومة في لبنان وفلسطين خطّ الدفاع الأوّل والحقيقي عن هذه الدّول، ولكنها تصرّ حتى اليوم على تصدير المشهد على شكل هويّة مجتمعيّة انعزاليّة، ترى في أنصار المقاومة من مواطنيها عملاء ووكلاء لإيران، وفي الانتصار للمقاومة انتحاراً!

قد يعجبك ايضا