ثلاث أكاذيب عربية عن فلسطين

جعفر الحسيني – وما يسطرون|

يردّد النظام الرسمي العربي ومعه الغوغاء الذين يؤمنون به – صراحة أو همساً – ثلاث أكاذيب ليبرّروا بها تقاعسهم أو خيانتهم للقضية الفلسطينية.
فالفلسطينيون هم الذين باعوا أرضهم – وهذه أولى الأكاذيب – وذلك ما لم يقله التاريخ الرسمي الإسرائيلي، والذي رغم تزويره للحقائق المتعلقة بالنكبة، لم يجرؤ على ترديد ذلك، إنما اختلق رواية أخرى تقول إن «الأمر يتعلّق بترحيل إرادي كبير لمئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين قرّروا مغادرة منازلهم وقراهم مؤقتاً، وترك الأرض للجيوش العربية الغازية القادمة، لتدمير الدولة اليهودية الوليدة». والحقيقة أن 6 ‎%‎ من الأراضي التي أمست بحوزة اليهود حصلوا عليها بالشراء، وغالبيتها تم شراؤها من إقطاعيين بعضهم غير فلسطينيين، وكان هؤلاء يتصورون أنها مجرد عملية بيع وشراء طبيعية، وعندما اتضح أنه مشروع صهيوني للاستيلاء على فلسطين لم يتم بيع شبر واحد منذ الثلاثينيات. وفي مذكرات الإرهابي بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل – التي لا يزال الكثير منها سرّياً رغم مرور أكثر من سبعين عاماً على تدوينها – أنه يجب تنغيص عيش اللاجئين الفلسطينين ودفعهم إلى شرق الأردن. الأخطر من هذا، يرد فيها إشارة إلى تصنيع مادة تسبّب السرطان، وأظن أن الهدف منها لا يحتاج إلى توضيح. ويفضح المؤرخ الإسرائيلي آدم آزار، في كتابه «نهب الممتلكات العربية خلال حرب الاستقلال» (ص 321) ما يسمّيه: «ظاهرة كانت ذات أهمية حاسمة في تشكيل المجتمع والدولة في إسرائيل، وهي ظاهرة نهب الممتلكات الفلسطينية خلال النكبة». وهكذا بالقتل والاغتصاب والإرهاب تم تشريد الفلسطينيين…ويشعر المرء بالصدمة والذهول عند قراءة كتاب المؤرخ الإسرائيلي الشهير إيلان بابيه: «التطهير العرقي في فلسطين».

الكذبة الثانية: أن العرب، أنظمة وشعوباً، قد أنهكوا بعدما انهمكوا في القضية الفلسطينية أكثر من نصف قرن من الزمان. وقد تعبوا من هذه القضية التي عادت عليهم بالضرر الكبير أكثر مما عادت بالنفع (صحيفة «الجريدة» الكويتية 19-06-2007). والحقيقة أن الأنظمه العربية لم تقاتل من أجل فلسطين إلا في حرب واحدة، عام 1948، أمّا الحروب الأخرى فقد فرضتها عليهم إسرائيل ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بتحرير فلسطين، أو دفع الأذى عن الشعب الفلسطيني. فمثلاً إسرائيل وضعت مخططاً – عام 1963 – لاحتلال باقي فلسطين، وأعدت أدق التفاصيل له، فكانت حرب حزيران 1967، وهو ما ينقض السردية التاريخية المعروفة (راجع كتاب «أكبر سجن على الأرض» لإيلان بابيه، ص 5 وما بعدها)، ولعل المرء يحتاج إلى أن يتأمّل طويلاً هذه المعلومة الخطيرة التي كشفها هذا الكتاب الصادر عام 2020، والذي يحمل عنواناً فرعياً: «سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة». ومع التقدير لبطولات وتضحيات الضباط والجنود العرب، فقد كان أداء الجيوش العربية في الحرب الأولى بائساً وينقصها كل شيء من تدريب وتسليح وتجهيز…إلخ (راجع مثلاً تقرير قائد القوات العراقية في تاريخ الوزارات ج 7 ص 297)، وكانت حكوماتها متواطئة مع العدو (راجع كتاب «الملك عبدالله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين» لآفي شلايم)، حتى إن وزيراً عراقياً فضح في مذكراته مسؤولين عراقيين كانوا يبيعون البنزين للجيش الإسرائيلي الذي كان يقاتل جيش بلادهم (رافائيل بطي، «ذاكرة عراقية»: ج2 ص 140).

الكذبة الثالثة: هي الفرص الضائعة من قرار التقسيم إلى معركة غزة، وكأنه كانت هناك أصلاً فرص! فالوثائق الإسرائيلية كشفت بأن حكّام مصر والعراق والأردن اتفقوا سرّاً مع إسرائيل على تقسيم فلسطين وتهجير الفلسطينيين من الجزء اليهودي إلى دول عربية أخرى (بني موريس: ص 95 – 97) لكن بن غوريون لم ير التقسيم إلا كمرحلة وسيطة في إقامة إسرائيل، قبل أن تتوسع الدولة اليهودية لتشمل كل فلسطين باستخدام القوة.

وها هم العرب يعرضون السلام على إسرائيل – على الأقل منذ مؤتمر فاس 1982 – ويُقابلون مرة بالرفض ومرة بالإنكار ومرات بالتسويف والمماطلة. وها هي منظمة التحرير الفلسطينية قد عقدت مع إسرائيل اتفاقية أوسلو، وكانت النتيجة أن إسرائيل قضمت 42 ‎%‎ من مساحة الضفة وسيطرت على 87 ‎%‎ من موارد مياهها و90 ‎%‎ من غاباتها و49 ‎%‎ من طرقاتها، فضلاً عن طرد آلاف الفلسطينيين من مساكنهم، فقد بنت 49 ‎%‎ من المستوطنات على أراض فلسطينية خاصة. وقامت بضم القدس الشرقية إليها، والاستيلاء على الكثير من عقاراتها، وتشريد أهلها، وتحويل غزة إلى سجن كبير، بحيث لم يعد في الإمكان إقامة دولة فلسطينية حقيقية على الضفة وغزة.

حتى مصر، ورغم معاهدة السلام عام 1979، والتزام مصر حرفياً بمضمونها، فإن مصر لم تتحول إلى كوريا، وظل وضعها بين بين، وقد يرى القارئ بأن الأنظمة المصرية المتعاقبة هي المسؤولة عن تعثّر التنمية فيها، لكن كوريا – عندما أخذت أميركا بيدها في الستينيات – لم تكن ظروفها بأفضل من مصر، ولا أنظمتها أحسن منها. إنما هناك سبب بسيط وجوهري يُفسر ذلك، فمن غير المسموح لدول المركز العربية بأن تصبح يوماً نداً لإسرائيل، ويتصل بهذا انتقال القرار العربي – تدريجياً – إلى دول الأطراف العربية (الإمارات، قطر،…إلخ) وهكذا نرى أن قطر والإمارات أخذتا تتحكمان أو تتدخلان في مصير اليمن وسوريا وليبيا والسودان وتتلاعبان بدول المركز!

ثمة أمر من المفيد الإشارة إليه وإن كنا قد نخرج به عن موضوعنا قليلاً، ولكنه قد يلقي الضوء على بواطن الأمور في منطقتنا، وأن يرى البعض في تفسيرها استغراقاً في نظرية المؤامرة، ولهيكل مقولة رائعة: «المؤامرة جزء من التاريخ، ولكن التاريخ ليس كله مؤامرة»!
الأمر عبارة عن سؤال يطرح نفسه: لماذا تستوعب تشيلي أكثر من نصف مليون فلسطيني في حين أن دول أوروبا مجتمعة لا تستوعب إلا حوالى نصف هذا العدد، ومثلها الولايات المتحدة تقريباً، بينما كندا خمسين ألفاً وأستراليا أقل من 15 ألفاً، وهي دول تستقبل مئات آلاف المهاجرين واللاجئين سنوياً. يبدو أن سبب ذلك حتى لا يشكّل الفلسطينيون لوبياً قوياً لقضيتهم في تلك البلدان ولا يكونوا قوة ساندة لشعبهم في الأرض المحتلة.

أخيراً، أريد أن أختم مقالتي بالإشارة إلى المؤرخ الإسرائيلي الذي مرّ ذكره في هذه المقالة أكثر من مرّة، البروفيسور إيلان بابيه، الذي قاتل مع الجيش الإسرائيلي على جبهة الجولان في حرب تشرين 1973، ولكنه أثناء دراسته للتاريخ اكتشف حقيقة الصهيونية وجرائم إسرائيل، فتغيّر الرجل تماماً وتحمّل ما تحمّل من تبعات ذلك حتى اضطُر إلى أن يغادر إسرائيل، إذ صار يؤمن بإلغاء إسرائيل والقضاء على الصهيونية، والبديل عنده يتمثّل في فلسطين مدنيّة وديموقراطية من النهر إلى البحر، تستقبل اللاجئين (الفلسطينيين) وتبني مجتمعاً لا يميّز بين أفراده على أساس الثقافة أو الدين أو العرق، وتصحّح سيئات الماضي مثل سرقة الممتلكات وإنكار الحقوق، وهو ما سيبشّر بعصر جديد لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها – بحسب تعبيره حرفياً.
في مقابل هذه الصورة الراقية التي امتزجت فيها الثقافة بالممارسة، نجد عندنا مثقفين وقد تصهينت عقولهم، ولا تهز ضمائرهم جرائم إسرائيل، رغم ما يردّدونه من شعارات حول الحرّيات والديموقراطية وحقوق الإنسان!

قد يعجبك ايضا